كيف يجد المرء الغذاء الشافي لروحه في السيرة النبوية؟

بواسطة | فبراير 7, 2024

بواسطة | فبراير 7, 2024

كيف يجد المرء الغذاء الشافي لروحه في السيرة النبوية؟

في زمن الهيمنة المادية وانهماك الإنسان في الشؤون العالمية، تأتي السيرة النبوية كمصدر للغذاء الروحي والعقلي والبدني، تشجع على الأمل والثبات، وتوجه لبناء الجسد.
هذه المنهجية الشاملة تقدم رؤية ملهمة للحياة، وتساهم في توازن الروح والجسد والعقل في مواجهة التحديات الحديثة.

تأمّلات في السيرة النبوية – غذاء الروح والعقل والجسد

في عصر هيمنة المادة، وتسليع الإنسان، ودوران الأفكار والأشخاص حول الأشياء، وانهماك الإنسان في مشكلاته اليومية المتشابكة المعقدة؛ تتصحر الروح، ويشعر المرء بجفاف في قلبه ونفسه، ولئن بقي على هذه الحال فإنه سيجد روحه تزداد رهقًا يومًا بعد يوم، وقلبه يغرق في القسوة، ولن يجد بُدًّا من البحث عمّا يريح روحه ويخرجها من حالة التلف التي تعاني منها، وقد يعمد البعض إلى الهروب إلى مزيد من ملذات الجسد أو ملهياته في محاولة التشاغل عن إرهاق روحه وتصحرها، فيلقي نفسه في أوحال الملذات فيزداد غرقًا على غرق.

ولو يمّم المرء وجهه شطر السيرة النبوية لوجد منهلًا عذبًا، يروي روحه ويغذي قلبه، فيرجع ريّان شبعان بعد عطش روحه وجوع قلبه في شعاب الحياة القاسية، ولوجد ما يصب في روحه السكينة في الملمات والأزمات التي يمرّ بها على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.

ففي العصر المكي نرى كيف تقدم السيرة النبوية تغذية لأرواح العاملين وحملة الرسالات وأصحاب المشاريع، وكذلك الذين يحملون مسؤوليات ثقيلة في يومهم العادي على مستوى الأسرة والمجتمع، من خلال فرض قيام الليل على النبي صلى الله عليه وسلّم في بادئ الرسالة، لأنه بحاجة إلى غذاء لروحه يمكّنه من حمل الرسالة وتحمُّل مشاق الطريق وأشواكها، واستمرار النبي صلى الله عليه وسلّم بالقيام في حياته كلها بعد رفع فرض القيام عنه صلوات الله وسلامه عليه، دلالة على أهميته في تغذية الروح؛ فعلى الرغم من أنه أشدّ وطئًا على الجسد فإنّه الأقوم سبيلًا لمواجهة مصاعب النهار؛ فكان القيام من أهم مغذيات الروح التي يتزود بها المرء إذا سكن الليل وخلا كل حبيب بحبيبه ليواجه بهذا الزاد قسوة النهار وما فيه من عقبات كأداء.

كما أننا نجد في السيرة النبوية منهجية بثّ الصبر والثبات في نفوس أصحابه صلى الله عليه وسلم، وهم يواجهون الأذى الشديد الذي يرهق أرواحهم كما ينهك أجسادهم، وما خطابه لآل ياسر وحواره مع خبّاب بن الأرتّ إذ جاءه شاكيًا مرارة العذاب وقسوته، وضراعته صلى الله عليه وسلّم يوم الطائف وحواره مع زيد بن حارثة، رضي الله عنهم، إلّا أمثلة يسيرة عمّا كان يقدّمه النبي صلى الله عليه وسلّم من غذاء لأرواحهم وأرواح المؤمنين من بعده في مواجهة الأذى والتعب.

وكذلك يجد المرء في السيرة النبوية تدفُّق النبي صلى الله عليه وسلّم بالأمل في قلب الأزمات مع أصحابه دون إغراقهم بالوهم، وهو ما تحتاجه الأرواح التي استبدّ بها الحزن وأثقلها اليأس وتسرّب إليها الإحباط في ظلّ الأزمات الكبيرة التي يعيشها المسلمون، فها هو صلى الله عليه وسلّم يبثّ اليقين في قلب زيد أنّ الله جاعلٌ لما يرى فرجًا ومخرجًا، وأنّ الله ناصرٌ دينه ومظهرٌ نبيّه إثر ما لاقاه من أهل الطائف من الصدّ والأذى ورغم أنّه لم يكن قادرًا على العودة إلى مكّة إلّا في جوار رجل كافر؛ وكذلك نراه صلى الله عليه وسلّم يَعِد سراقة بسواري كسرى وهو في أشدّ ساعاته حرجًا مغادرًا مكّة المكرمة متخفيًا تلاحقه خيول قريش، وها هو صلى الله عليه وسلّم يحفر الخندق وقد بلغت القلوب الحناجر وحوصر المسلمون من آلاف المقاتلين من أهل الباطل، ومع ذلك فهو يبشر أصحابه بفتح الشام وفتح فارس وفتح اليمن.. وكم يحتاج الناس اليوم في ظل الأزمات الخانقة والشعور باللاجدوى والإحباط واليأس إلى بعث الأمل في أرواحهم وقلوبهم دون إغراقهم بالوهم؛ ولن يجد المرء منهجيّة راشدة لبعث الأمل في الأرواح دون إغراقها بالوهم، كما هو في السيرة النبوية في تفاصيلها كلها، المكية والمدنية على حدّ سواء.

ويجد المرء في ما مرّ به النبي صلى الله عليه وسلّم من مصائب وآلام، منهجيةً واضحة لتعزيز مناعته الروحية، ورسم الآلية الواقعية البعيدة عن التنظير المثالي في التعامل مع هذه المصائب والآلام الشخصية؛ فقد عاش النبي صلى الله عليه وسلّم الفقد بكل أنواعه؛ فقدَ ابنته ابتداءً بهجرتها إلى الحبشة، ثمّ فقدها بالموت، كما فقد ابنته الأخرى وفقد ابنه وزوجته وعمّه، وفقد أرضه ودياره وصار مهاجرًا؛ وفي تعامل النبيّ صلى الله عليه وسلّم مع هذه الآلام سلوى لأرواح المكلومين، وبيان سبيل التعامل معها إن حلّت بالمرء فأوجعت روحه وكلَمَت فؤاده.

وفي السيرة النبويّة مَعينٌ من الحبّ لا ينضب؛ الحبّ الذي تنهل منه الروح فتتخلص من الأثقال التي ترهقها، ففي كل تفاصيلها نرى حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لربّه، وحبّ الله تعالى له، كما نعاين حبّه لأصحابه بطريقة عجيبة تكلّ قدرة البيان في التعبير عنها، كما نعيش حبّ أصحابه له صلى الله عليه وسلّم في مشاهد عجيبة، تؤكد أن من ملَك الأرواح هو القائد الحقيقي لا مَن ملك الرقاب؛ والسيرة النبوية تجسّد الحبّ في مشاهد واقعيّة تطبيقيّة، وتحوّل الحبّ من مقال وادّعاء إلى أفعال ومشاهد حيّة، تطرب لها الأرواح وهي تنهلها رائقة عذبة؛ فالزاد الذي تقدمه السيرة النبوية من الحبّ لقلوب المطوفين في رياضها من أهم ما يغذي أرواحهم ويمدها بالطاقة الإيجابية في مواجهة بشاعات الواقع المرّ.

هكذا تقدّم السيرة النبوية غداءً شافيًا للأرواح في زمن إهمال تغذية الأرواح بسبب هيمنة ثقافة الاستهلاك والتسليع، وسطوة الفردانية التي تجعل المرء يتمحور حول ملذّاته الجسدية، وما أشقى البشرية اليوم بجفاف الروح الذي وصلت إليه!

وكذلك، كما تقدّم السيرة النبوية الغذاءَ الشافي للعقل والروح؛ فإنها ترسم منهجية راشدة للتعامل مع الجسد وتغذيته من خلال سلوك النبي صلى الله عليه وسلّم في طعامه وشرابه؛ ونجد في السيرة منهجية عملية لبناء الجسد من خلال الرياضات البدنية المختلفة، من المشي والعَدْو والرماية وركوب الخيل والسباحة ورفع الأثقال والمبارزة، وغيرها من الرياضات الفردية والجماعية على حدّ سواء.

إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي الجنة التي يهرع إليها من أراد تغذيه عقله، وتغذية روحه وقلبه، ورسم المنهجية الراشدة لبناء جسده؛ ليجد فيها ظلالاً وارفة وقطوفًا دانية، ويصدر عنها بعد ورودها بعيشة راضية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...