الغرب يواجه نفسه عاريًا

بواسطة | مايو 17, 2024

بواسطة | مايو 17, 2024

الغرب يواجه نفسه عاريًا

مع تصاعد موجة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية، والغربية عمومًا، يكون الغرب قد دخل منعطفًا جديدًا في تاريخه الحديث في مواجهة أجياله الجديدة والصاعدة، التي تربّت طويلًا على سماع الحديث عن قيم الحرية والكرامة الإنسانية، التي يرفعها الغرب كشعارات لا ممارسات حقيقية في سياساته تجاه قضايا العالم المتعددة، وخاصة ما يتعلق بالعالم الثالث، والإسلامي منه على وجه الخصوص.

فمما لا شك فيه، أن طوفان الأقصى الغزاوي الفلسطيني لم تتوقف مفاجآته وكراماته على سحق أسطورة دولة الاحتلال الإسرائيلي إذ صورت نفسها على أنها لا تُقهر، وإنما يتمدد هذا الطوفان اليوم إلى كل مكان، وخاصة إلى الغرب الصانع والمخترع الأول لهذه المأساة، مأساة الشعب الفلسطيني الذي تم تشريده وقتله واحتلال أرضه منذ سبعة عقود ونيف، ومنْحها للفيف من صهاينة المشروع الاستعماري الغربي، ممثلاً بدولة الاحتلال والكيان الصهيوني الغربي.

ما شاهدناه على مدى أسابيع وأشهر، وهو مستمر إلى اليوم، من تطور لافت للمظاهرات والمسيرات والاعتصامات، التي دخلت طورًا جديدًا بالانتقال إلى حُرم وساحات الجامعات الغربية، والعريقة منها تحديدًا، تلك الجامعات التي تكاد تكون شبه مقتصرة على أبناء النخب والذوات في الغرب، من ساسة ورجال مال وأعمال ونخب، وهم اليوم – أي شباب هذه الجامعات- من يقود كل هذا الزخم الاحتجاجي الكبير في الغرب، ضدًّا للعدوان الإسرائيلي على غزة، وضدًّا للمشروع الصهيوني الغربي برمته.

ما يجري في الغرب اليوم من خلال هذه الاحتجاجات، والتي قد لا أكون مبالغًا بالقول إنها تمثل اليوم نقطة تحول عميقة في المشهد الكوني كله، لمآلات مثل هذه الاحتجاجات التي كسرت الصورة المتخيلة والمكذوبة عن الغرب الديمقراطي الإنساني المدني، الذي ظل لما يقرب من سبعة عقود تلت الحقبة الاستعمارية، يقدم نفسه بصورة أكثر رومانسية حالمة بآلاته الدعائية الإعلامية من هوليود إلى القنوات والمعاهد والمؤسسات المختلفة، التي قدمت الغرب بصورة أكثر تحضرًا ومدنيةً وديمقراطية، وهي صورة متخيلة وغير حقيقية عن الغرب الكولونيالي المتوحش في وعيه وسلوكه.

إن ما يجري اليوم من احتجاجات عمت الجامعات الأمريكية العريقة من يل إلى كولومبيا، مرورًا بجورج واشنطن وتكساس وكل الجامعات العريقة الأخرى، وانتقال هذه التظاهرات إلى جامعات غربية أخرى كالسوربون في فرنسا وغيرها.. خطورة هذه الاحتجاجات وتطوراتها تكمن في أن هذه الجامعات محاضن الوعي المدني والإنساني ومعاقله، ويكتشف شبابها أن القيم والمبادئ التي يُنشَّؤون عليها أول من يخترقها ويدوسها هو الغرب الرسمي ذاته، بحكوماته ومؤسساته الدستورية عينها.

فحالة الوعي الإنساني الكبيرة هـذه، التي تفجرت اليوم في المجتمعات الغربية، هي بمثابة ثورة أخلاقية وفكرية عارمة ومكتملة، تجتاح هذه المجتمعات كاشفة ما تحت قشرة الغرب المدني الحضاري، ذلك الغرب الكولونيالي المتوحش الذي لا تزال العنصرية مكونًا أساسيًّا في تفكيره ومنظومته الثقافية والسلوكية، التي بموجبها يتصرف اليوم تجاه عديد من القضايا، والتي تأتي في القلب منها فلسطين كأهم قضية مظلومية في التاريخ المعاصر .

إن الغرب اليوم يمر بأخطر مراحله على الإطلاق، لأنها بمثابة مرحلة اختبار حقيقية لشعاراته وفلسفته التي ظل طويلا ينادي بها، وينظِّر للعالم حولها، وفي الأخير يتكشف الأمر عن كذبة كبيرة، أطلقتها المنظومة السياسية الغربية، وصدقتها وحاولت أن تدفع الأجيال الناشئة لتصديقها، تلك الأجيال التي تربَّت على المناهج العلمية الصارمة، وتحكيم العقل، ونشدان الحقيقة وحدها .

لهذا كله يشعر الغرب السياسي – وليس الثقافي- اليوم بأنه في ورطة حقيقية وكبيرة، وكأنه لأول مرة في تاريخه يقع في مأزق الأسئلة الأخلاقية التي كانت، والمأزق في منظومته الثقافية والسلوكية، والتي يتصرف منطلقا منها اليوم في رؤيته للعالم ككل، وفي القلب منه القضية الفلسطينية التي هي نتاج للسياسات الاستعمارية للغرب نفسه، ووصمة عار في جبينه لا يمكنه أن يتبرأ منها.

فلقد ظل الغرب طويلا يقدم القضية “الفلسطينية” للمواطن الغربي على أنها قضية مظلمة يهودية، تتعلق بمظلومية الشعب اليهودي، الذي هو الأخر أحد منتجات ومخرجات وضحايا العقل الاستعماري الغربي، الذي أراد من خلال اختراعه للفكرة الصهيونية كحامل للمظلومية اليهودية أن يتخلص من اليهود، ويجمعهم من العالم في منطقة تمثل محط التقاء المصالح الغربية غير المشروعة، وقريبة من خصومه الألداء المحتملين، وهم العرب .

الأكثر سخفاً وهزالاً وكذباً بعد ذلك، هو تبني الغرب لسردية صنعها وروجها وصدَّقها بنفسه، بالحديث عن منح اليهود أرضًا بلا شعب، وكأن فلسطين كانت صحراء قاحلة في أقاصي الكوكب وليست أرضًا في قلب جغرافيا العالم، حيث قامت حضاراته القديمة متعاقبة وكان الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الرصيد الأكبر تاريخيًّا في البقاء على هذه الأرض، التي تعايشت فيها كل الديانات والأعراق في ظل هيمنة وحضور الثقافة الإسلامية لقرون طويلة، والتي انتعشت وتنفست في ظلها كل الثقافات الأخرى من مسيحية ويهودية وغيرها، كما كانت قبل الإسلام أرضاً للشعب الفلسطيني العربي.

وهكذا سادت سردية المستعمر الغربي لفترة من الزمان عن شعب بلا أرض، وعن بيع الفلسطيني لأرضه، ويُضاف إليها جملة من الأساطير المؤسِّسة للخرافة الصهيونية، التي نقضها يوماً المفكر والفيلسوف الفرنسي الأشهر روجيه جارودي في الأساطير المؤسسة للدولة الصهيونية، وسار على دربه مؤرخون يهود كبار، من آلين بابيه وإفي شلايم وغيرهما كثير من المفكرين والساسة اليهود قبل غيرهم، ممن يرون أن الصهيونية ليست سوى اختراع استعماري غربي، يراد من خلالها التخلص من اليهود وإدخالهم في صراعات مميته مع محيطهم ومجتمعاتهم التي يقيمون بين ظهرانيها، وإبقائهم في حالة صراع دائم مع العرب والمسلمين عموماً.

ورغم كل هذه السياسات والإستراتيجيات الغربية – ما بعد الكولونيالية- فيما يتعلق بموضوع الصهيونية، فإن ما أحدثته عملية طوفان الأقصى وما أعقبها من ردة فعل إسرائيلية غربية غاية في الوحشية والهمجية كشفت الكثير، وكانت بمثابة الانفجار الذي أيقظ الضمير الإنساني من سباته العميق، ليندفع كل هذه الاندفاعة في تحطيم صنم الصهيونية الزائف، بحسب الكاتبة اليهودية الشهيرة ناعومي كلاين.

إن ما يجري في ساحات وقاعات الجامعات الغربية الشهيرة، لن يتوقف تأثيره عند حدود وقف إطلاق النار في غزة فحسب، بل سيتمدد تأثير هذه الموجة الثورية التصحيحية، التي تقودها نخب المجتمعات الغربية من طلاب وأساتذة جامعيين، إلى ضرورة إجراء مراجعات لكثير من المسلمات والسرديات الغربية، فيما يتعلق بنظرة الغرب لذاته أولاً وللآخر ثانياً، ولمنظومته الفلسفية برمتها قبل كل شيء أيضاً.

ومن ثم فإن هروب الغرب اليوم مع آلاته الدعائية الضخمة إلى شيطنة ما يجري من حراك أخلاقي وفكري وثقافي وإنساني، يجتاح قلاع التعليم والتنوير والعلم في جامعات وكليات العالم وغيرها، لم يعد ينطلي اليوم على أحد، وإن الفضاء المفتوح اليوم بات سلاحًا فتاكًا تصعب السيطرة عليه، ومن ثم يصعب – بل يستحيل- استمرار السرديات القديمة والبالية، التي ظلت تتحكم بالمشهد الغربي ردحًا من الزمان.

إن العقل الأخلاقي الغربي اليوم في حالة هزيمة وتشظٍّ كليّ، بين غرب سياسي بلا أخلاق، وتمثله جل الحكومات الغربية، وغرب أخلاقي بلا سياسة، وتمثله اليوم هذه الأجيال الشابة، التي خرجت في جامعاتها لتندد بالغرب اللاأخلاقي ومنظومته السياسة الحاكمة، التي فاتها قطار احتكار المعلومة والموقف والمعرفة والسرديات، وغدت منكشفة وعارية أمام جيل يرى أن زمن الوصاية والاحتكار للحقيقة قد ولّى إلى غير رجعة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...