الفقراء يدفعون ثمن الكوارث “الطبيعية”

بواسطة | سبتمبر 17, 2023

بواسطة | سبتمبر 17, 2023

الفقراء يدفعون ثمن الكوارث “الطبيعية”

حتى كتابة هذه السطور، وصل عدد ضحايا الإعصار في ليبيا إلى حوالي 5300 شخص لقوا مصرعهم، وما يزال أكثر من عشرة آلاف شخص في عداد المفقودين؛ وتشير بعض التوقعات إلى أن عدد الضحايا قد يتجاوز عشرين ألفا. في الوقت نفسه وصل عدد ضحايا الزلزال الذي ضرب المغرب الأسبوع الماضي إلى حوالي 2800 شخص، وأُصيب وشُرّد الآلاف من الأهالي في المناطق الواقعة بين مدينتي مراكش وأغادير.
ما يجمع بين ضحايا البلدين، ليبيا والمغرب، شيء واحد هو الفقر وضعف البنية التحتية في المناطق التي تعرضت لهذه الكوارث؛ ففي مدينة درنة الليبية، اختفت أحياء كاملة من على وجه الأرض نتيجة لانهيار سدّي المدينة، اللذين كانا من المفترض أن يحجزا مياه الأمطار التي نزلت بكثافة وغزارة غير مسبوقة وأدَّت إلى الفيضان؛ وقد جرفت المياه عددا من المباني والمساكن باتجاه البحر المتوسط، بعد أن تحولت إلى ركام وحطام. كذلك فإن المناطق التي ضربها الزلزال في المغرب تعد من بين المناطق الفقيرة والنائية في البلاد، خاصة في أقاليم أزيلال وتارودانت، وقد مُحيت قرى بأكملها نتيجة للزلزال، حيث إن معظم البيوت من المواد البدائية التي لا تستطيع مقاومة الزلزال.
بالطبع، لا يتوقف الأمر على هذين البلدين، ففي كثير من البلدان التي تتعرض لكوارث مشابهة، فإن الفقراء هم أكثر من يدفعون ثمن هذه الكوارث، سواء بسبب أنهم يسكنون، أغلب الأوقات، في أماكن غير مؤهلة لمواجهة هذه الكوارث والتقليل من تداعياتها، أو لأنهم لا يحظون بمثل الاهتمام والدعم اللذين يحصل عليهما غيرهم من المواطنين، الذين يعيشون في أحياء ومناطق أخرى نتيجة لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وتنموية عديدة. صحيح أنه عندما تقع كارثة طبيعية فإنها لا تفرق بين غني وفقير، إلا أن المناطق والقرى التي لا تتمتع ببنية تحتية قوية من شبكات طرق وجسور وسدود تظهر عوامل الحماية لقاطنيها هشّة في أوقات الأزمات.
حدث الأمر نفسه في بلاد أخرى فقيرة، مثل غالبية الدول الأفريقية التي تدفع ثمن الكوارث المختلفة كالتصحر والجفاف أو الفيضانات، وكذلك في بلاد آسيوية مثل بنجلاديش والفلبين وباكستان وغيرها، وهي بلدان تعاني تكدسا سكانيا وفقرا مدقعا رغم غناها بالموارد الطبيعية، وهنا تكمن المفارقة التي تكشف عن سوءات الحداثة ومشروعها الرأسمالي المتوحش؛ فمعظم ثروات هذه البلدان يتم نهبها بشكل منظم وممنهج من قبل الشركات الكبرى، المدعومة بمنظومة سياسية حاكمة تسعى لتعظيم مكاسبها ومنافعها ولو على حساب الشعوب الفقيرة، كما هي الحال مع فرنسا التي كانت حتى وقت قريب تستولي على خيرات البلدان الأفريقية بأبخس الأثمان، وهذا ما فعلته مع النيجر التي تمد فرنسا بما يقرب من 20 بالمائة من احتياجاتها من اليورانيوم اللازم للكهرباء وتشغيل مصانعها، تماما مثلما كانت مصر أيضا تمد المصانع الإنجليزية في لانكستر ومانشستر ولانكشير بالقطن من أجل تشغيل تلك المصانع، في حين يحصل الشعب الذي كان يشقى ويزرع على الفتات الذي يكاد لا يكفيه للبقاء على قيد الحياة. وهو ما حدث أيضا، وما يزال، في بلدان عديدة بأميركا اللاتينية، خضعت للشركات الأمريكية التي كانت تستغل هذه البلدان لزيادة تراكم رأسمالها، ولذلك لم يكن غريبا أن يكون لهذه الشركات دور مهم في دعم الانقلابات العسكرية، التي عمت القارة الجنوبية خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وذلك للتخلص من معارضي سياساتها الاستعمارية الجديدة ممثلة في الرأسمالية والنيوليبرالية الجديدة.
وحسب العديد من الدراسات فإن متوسط عدد الذين يموتون بسبب الكوارث يصل إلى حوالي ٤٥ ألف شخص على مستوى العالم كل عام، وهو ما يمثل حوالي 0.1٪ من الوفيات العالمية؛ ورغم أن هذا الرقم يعد أقل من الذي كان قبل حوالي قرن حيث انتشرت الأوبئة والأمراض، فإنه لا يمكن إغفال الآثار المدمرة لهذه الكوارث مثل المجاعة والجفاف في إثيوبيا في الفترة 1983-1985، وزلزال المحيط الهندي وتسونامي عام 2004، وإعصار نرجس الذي ضرب ميانمار في عام 2008، وزلزال بورت أو برنس 2010 في هايتي، أو زلازل تركيا، وأهمها الزلزال الأخير الذي وقع في شهر فبراير الماضي. كل هذه الأحداث رفعت أعداد الوفيات الناجمة عن الكوارث العالمية إلى أكثر من 200 ألف شخص -أي أكثر من 0.4% من الوفيات- خلال العقدين الأخيرين، وغالبا ما يكون الفقراء وذوي الدخل المنخفض هم الأكثر عرضة لدفع ثمن هذه الكوارث.
وإذا أضفنا إلى هذه الكوارث، تلك الصراعات والحروب الأهلية الطاحنة، كما هي الحال الآن في بعض البلدان العربية، يصبح الموضوع مأساويا، وذلك على غرار ما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا التي اجتمع عليها طغيان البشر وغضب الطبيعة. وفي ظل ارتفاع معدلات التغير المناخي، الناجمة عن نمط الإنتاج والاستهلاك الرأسمالي الذي يزيد معدلات إنتاج أول أوكسيد الكربون المدّمر للمناخ والبيئة، فإن العالم سوف يشهد المزيد والمزيد من الكوارث كالفيضانات والزلازل والجفاف وغيرها، وهي الكوارث التي يدفع الفقراء ثمنها غاليا.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...