الفكرة الإسلامية والحصار التكنولوجي الحداثي

بواسطة | أبريل 23, 2023

بواسطة | أبريل 23, 2023

الفكرة الإسلامية والحصار التكنولوجي الحداثي

إن قراءة المشهد العام لحاضر العالم المسلم، تعطي صورة مؤلمة لواقع دوله، من حيث العبور إلى أوطان الاستقرار والتقدم، المقترن بالقيم الإسلامية وبالبعث الأخلاقي للرسالة الإسلامية؛ فهناك ما يكفي من عناصر إحباط تنقص فرص الخروج من ثنائية الفساد والصراع السياسي، بل الحروب الأهلية.
كما أن الهجرة بشكليها: النظامية، والتائهة التي تعتمد طرقاً غير شرعية فراراً من الواقع المؤلم؛ والتي يمثل فيها المسلمون أعداداً ضخمة، تتقاطر على عالم الشمال. ومع ذلك كله، فإن تعدد نماذج الإسلاموفوبيا العنيفة، والتي يضاف إليها اليوم مشروع حزب بهاراتيا جاناتا المتطرف، والذي يستهدف أكبر أقلية مسلمة في العالم في الهند، عزز مشروع الحصار الدولي، والكراهية السياسية التي يعاني منها المسلمون.
ومؤكد بأن عناصر الضعف والتخلف الذاتي، التي شكلت سؤال الأزمة القديم في حاضر العالم المسلم، منذ نهاية القرن التاسع عشر، لا تزال تجثو على صدر هذه الأمة. وهذا لا يعني عدم وجود اختراقات ومحاولات تقدم وتفوق، على مستوى بعض الدول أو المشاريع؛ لكنها لا تزال قليلة وضعيفة أمام الأزمة الكبرى: أزمة الفكر، ومعضلة السياسة، والبحث عن الوطن المستقر الآمن، والتكافؤ في الفرص للجميع. ورغم ذلك كله تبقى قوة الإسلام الفكرية.
وفي حين كان المشروع الدولي الذي حاصر عالم الجنوب قديماً، يتكئ على قوى تنفيذية تقليدية، لتكريس الاستعمار، أو تأميم الثروات، أو لجم أي محاولة تؤسس لاستقلال القوة الوطنية للدولة المستقلة حديثاً، في أمريكا اللاتينية وفي آسيا وفي أفريقيا؛ فإن عالم الحداثة الرأسمالي يهيمن اليوم على قوة التكنولوجيا في عالم المعرفة المعاصر، ويُسخرها للهدف ذاته، من خلال فرض ثقافة استهلاك نمطية، تعزز التفاهة وتخلق قاعدة لمتطلبات السوق العالمي.

بغض النظر عن ديانة المنبر وجسور الفكرة؛ ولكننا نعيش دورات متكررة في حلقات الهيمنة التكنولوجية، خارج إطارها الإيجابي، الذي لا خلاف على وجوده، للنفع الإنساني

وحتى مساحة الصراع في بعض هذه المشاريع، التي انطلقت من الصين أو روسيا لتنافس الغرب، لا يوجد لديها اختلاف قيمي، بل قد تكون أسوأ، وإن استقلت عن القوة السياسية الغربية، كمشروع (التيك توك) الصيني على سبيل المثال. ولا إشكال من حيث إنها جميعاً وسائط لديها مساحة للتعبير للخطاب الإيجابي، فهي اليوم ضمن أدوات نقل الرسائل الفكرية أو الأخلاقية؛ لكنها تزدحم بذلك الكم الهائل من التفاهة المتضخمة في كل واد من السوشال ميديا.
وقلنا في البداية إنها أدوات للمعرفة المعاصرة، من حيث الوصف وليس من حيث القيمة؛ فليس كل هذا الهذر الهادر، أو حتى هذه الأطروحات الفكرية، من ضمن ظاهرة المعرفة الرشيدة للبشرية، بغض النظر عن ديانة المنبر وجسور الفكرة؛ ولكننا نعيش دورات متكررة في حلقات الهيمنة التكنولوجية، خارج إطارها الإيجابي، الذي لا خلاف على وجوده، للنفع الإنساني.
بسبب أن هذه المشاريع والأدوات الضخمة، دُشنت ضمن هيمنة عالم الحداثة، الذي تطورت لديه أنماط الانحطاط وتصدير التفاهة، وخلق منظومة قياس لمعارف الشعوب، تخضع لمعابد وثنية لا تعبد صنماً ولكنها تقدس فِكَراً متخلفة، تتطور في صور سلوكيات ومذاهب متعددة، ثم تُدفع بقوة باسم منابر العصر المتقدمة.
وتستطيع اليوم أن تتأمل في عبور هذه النمطيات الوثنية باسم التحرر، وهي التي وصلت إلى الترويج إلى عبادة الشيطان، والتزيّن بما يرمز له، وتفجير عقيدة الإنسان والخلق والفطرة، في فكر الطفولة، وفرضها على شعوب العالم مختومة برسالة التقدم.
فأي تقدم يمكن أن يُنقذ البشرية من ارتفاع معدلات الانتحار، وانتشار المخدرات، والتشريع القانوني لتعاطيها وبيعها، الذي يتوسع في أمريكا الشمالية وفي أوروبا؛ في الوقت الذي يُنزع فيه من النفس الإنسانية سر طمأنينتها عبر الميديا السينمائية وغيرها، وتُفكّك الأسرة تحت هجوم المثلية الدولية، المدعومة من المنظمات العالمية دون أن تنتخبها الشعوب، وإنما فرضتها القوة القهرية القديمة ودولها العظمى.

أمام كل هذه الحرب العالمية المستمرة، لا توجد فكرة أخلاقية تواجه هذا التوحش، كما هي مبدأية الفكرة الإسلامية

إن العالم يساق تحت هذه المشاريع، إلى حالة احتلال للذات الإنسانية، ووجود مصانع الذكاء الاصطناعي، بالقبضة التي اضطهدت العالم الآخر، وهذا لا يبشر بخير.
نعم.. هناك مساحات استثمار مهمة وإيجابية لهذا الذكاء، كما لغيره من وسائط التطور العلمي؛ لكن سقوط المرجعية الأخلاقية في العالم، ورفض قوة الحداثة الرأسمالية لأية معارضة قيمية لجرافاتها التي تهوي على الإنسان فرداً وأسرة، ثم تسخير هذه النمطيات لمصلحة الاستلاب الحضاري، أي منع العالم الآخر من تفعيل مبادئه الفكرية لحماية أجياله ولنفع العالم؛ هي دلالة أخرى على أن أطوار الحداثة، ماضية في تفجير هذا الكوكب.
وهي أطوار وأدوار لم توقف العنصريات ولا الحروب، وإنما سرقت من الناس فطرتهم، وأمّمت ثروتهم الطبيعية، وبنت لهم معتقلا كبيرا، يُختطف فيه أطفالهم باسم التقدم.. تقدم يسارع إلى الجحيم ليس من خلال نقض قواعد الإيمان بالوجود والنبوات، وإنهاك الروح ومنع دلالة استشعارها الأخلاقية فقط؛ ولكن أيضاً عبر قذف هذه الأجيال في قعر مظلم، يسود فيه التوحش وشريعة الابتزاز المقنن، وتُختطف السكينة من العالم، ليُستبدل بإنسان الروح إنسان الآلة؛ وليس ذلك في خلق روبوتات الإنسان البديل، ولكن في صناعة التحويل للإنسان من الفطرة إلى الكتلة.. كتلة لا تعقل شيئاً من روحها ولا من عقلها الرشيد، فقد بات سوق الحداثة هو من يُحدّد ذاتها. ومن كان يُشكك في ذلك فلينظر كيف يُفرض على العالم اليوم، وبالذات عالم الطفولة، تعريف جنساني أسقط الذكر والأنثى، وأسقط قصة الحب والمشاركة التي أحيا الله بها البشرية عمر هذه الأرض؛ وليقف عند حقيقة أن الأمم المتحدة ومنظمات الغرب الدولية هي من يشرف على هذا التزييف.
وأمام كل هذه الحرب العالمية المستمرة، لا توجد فكرة أخلاقية تواجه هذا التوحش، كما هي مبدأية الفكرة الإسلامية. والعالم اليوم متعطش لها، لو علم سر تميّزها وتكاملها بين حق الجسد وأخلاقيات الروح؛ غير أن نقاط التفتيش اليوم تُرفع في وجوهنا لحصار الفكرة، إذ يزعم العالم الحداثي أنه يخلق مستقبل البشرية لصالحها، وهو يخنقها لمصالحه، ليبقى الإنسان الإله رباً يُعبّد له البشر، وتنزع إرادتهم وعقول أجيالهم؛ فالجميع بضائع في سوق العالم الحديث.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

عن الذين لا يعرفهم عمر!

عن الذين لا يعرفهم عمر!

جاء السائب بن الأقرع إلى عمر بن الخطاب يبشره بالنصر في معركة نهاوند؛ فقال له عمر: النعمان أرسلك؟.. وكان النعمان بن مقرن قائد جيش المسلمين في المعركة. قال له السائب: احتسب النعمان عند الله يا أمير المؤمنين، فقد استشهد! فقال له عمر: ويلك، ومن أيضا؟ ‏فعد السائب أسماء من...

قراءة المزيد
حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
Loading...