المثقف وانكسار الثورة

بواسطة | يوليو 16, 2023

بواسطة | يوليو 16, 2023

المثقف وانكسار الثورة

لعلّ أوفى دروس الثورات العربية وأكثرها عمقا هو ما تعرضت له من الخيانات ومن الغدر، لا على أيدي أعدائها من حرس النظام القديم ورجالاته، بل الأقسى والأخطر هو ما تعرضت له من داخل الطيف الثوري نفسه، أو من تلك المكونات المحسوبة على الثورة. وليس مدار الحديث هنا اتهام هذا الطرف أو ذاك، أو تحميل المسؤولية لطيف دون آخر، فلا أحد غير التاريخ نفسه قادر على تسجيل ما حدث وتحديد الجاني والضحية.
إن استخلاص هذا الدرس يمثّل مكسبا ثمينا لأنه سيسمح بتكوين مرجعية للموجات الثورية القادمة، التي عليها أن تدرك ما حدث خلال الموجة الثورية السابقة، لتعمل على تفادي أخطائها أو السقوط فيما سقطت فيه من الفخاخ.
تكون هذه القراءة ممكنة بعد أن انتهت الموجة الثورية الأولى وعادت الانقلابات العسكرية والمدنية من جديد، وقد استتبّ الأمر للاستبداد ممثلا في النظام الرسمي العربي من جديد؛ ونقصد بذلك أن قراءة حصيلة الربيع العربي لا تكون ممكنة إلا اليوم بعد اكتمال طور هام من تاريخ الأمة الحديث.

غياب أي مشروع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي بديل لما يطرحه النظام الحاكم وهو ما يعني أن كل سقوط للسلطة الحاكمة سيؤدي حتما إلى الفراغ والفوضى.

عنصر المفاجأة
هي الخاصية الزمنية الأساسية للثورات، فلا أحد كان يتوقع يوم أحرق البوعزيزي نفسه في تونس يوم 17 ديسمبر-كانون الأول- من سنة 2010 أن هذا الحدث سيؤدي إلى إسقاط أكثر من نظام حاكم في المنطقة، وأنه سيغير وجهها تغييرا عميقا. عنصر المفاجأة هذا هو الذي يفسر حالة التخبط التي سقطت فيها النخب العربية، السياسية منها والأكاديمية والفنية والفكرية بشكل عام، حين وجدت نفسها فجأة أمام منصة الحكم الفارغة.
هذا العنصر الزمني يكشف معطييْن: أما الأول فيتمثل في غياب أي مشروع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي بديل لما يطرحه النظام الحاكم، وهو ما يعني أن كل سقوط للسلطة الحاكمة سيؤدي حتما إلى الفراغ والفوضى. هذا الاستنتاج الأول يقوم على أن النخب العربية، وخاصة المعارضة السياسية منها، لم تنجح منذ عقود في صياغة مشاريع التغيير الحقيقية الممكنة، التي تكون جاهزة للتطبيق والتفعيل في حال سقوط النظام أو مرضه أو انتهاء أسباب وجوده.
لا نقصد بهذا المشروع جدولا تفصيليا أو خطة جاهزة للتنفيذ، بل نقصد به أساسا تحقيق الحدّ الأدنى من تماسك البناء المعارِض حتى يتمكن من منافسة السلطة القائمة فيكون بديلا مقنعا عنها.
أما المعطى الثاني، والذي لا ينفصل منهجيا عن الأول، فيتمثل في أن النخب العربية أو المثقف العربي لم يكن المسؤول عن الثورة ولا هو الذي نجح في إسقاط النظام، بل إن هذا الفعل هو فعل الجماهير الغاضبة وحدها. المثقف العربي والأحزاب السياسية العربية لم تكن هي التي دعت إلى الثورة على النظام وإسقاطه بل كانت في حالة من المهادنة، بما في ذلك أشد المعارضين تطرفا.
الشارع العربي هو الذي انتفض بفعل عدوى المنوال التونسي، فخرجت الناس إلى الشوارع تطالب بالحرية وبإسقاط النظام. بعد سقوط النظام جاءت الفرصة الذهبية التي كان المثقف العربي ينتظرها ليتمكّن أخيرا من الولوج إلى حرم السلطة التي كان محروما منها طيلة عقود طويلة.

ما حدث فعلا هو أن هذه النخب المثقفة تقاتلت وتناحرت وتشاتمت وتآمر بعضهم على بعض ولم ينجحوا في تحقيق الحدّ الأدنى من التوافق حتى على أقل شروط الانتقال الديمقراطي.

الثورة وخيانة الأمانة
قفز المثقف العربي إلى السلطة في تونس ومصر وليبيا وحتى في سوريا خارج حدود البلاد، ورفع شعار قدرته على صياغة المسار الانتقالي نحو مجتمع الحرية والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية. تقدّم الإسلاميون المحافظون والقوميون العروبيون واليساريون بأصنافهم والليبراليون بأنواعهم الصفوفَ، وأكد كل فريق منهم أنه صاحب الشرعية النضالية، وأنه وحده القادر على عبور العاصفة بسلام.
ما حدث فعلا هو أن هذه النخب المثقفة تقاتلت وتناحرت وتشاتمت، وتآمر بعضهم على بعض، ولم ينجحوا في تحقيق الحدّ الأدنى من التوافق حتى على أدنى شروط الانتقال الديمقراطي. كانت مراصد الدولة العميقة تراقب هذا الوضع عن كثب، وهي التي نجحت منذ سنوات في اختراق جسد المعارضة العربية، فزادت في تأجيج حدة الصراع والتناحر، حتى أُنهِكت الثورات وشُيطِنت، وصار الانقلاب أمرا يسيرا؛ وهو ما حدث في كل التجارب العربية تقريبا.
أنكر الإسلاميون جهلهم بعمق الدولة العميقة وبوحشية العسكر، وخاصة في مصر، وذهبوا إلى الانتخابات وفازوا بها؛ فقادتهم سذاجتهم وتكالب بقية النخب المصرية ضدهم إلى مجازر ومذابح كانوا في غنى عنها. أما القوميون فقد أفقدتهم شهوة السلطة وحقدهم على الإسلاميين كل بصيرة، ولم يكن لهم من هدف إلا الإطاحة بخصمهم الإسلامي ولو بالدبابات والمحارق. ولم يكن موقف المكونات اليسارية الوظيفية بعيدا عن الموقف القومي، حيث ظهر جليا حجم الاختراق الذي حققه النظام الرسمي العربي داخل الفصائل اليسارية عامة.
أما الأطياف الليبرالية فقد كانت قبل الثورات، في جزء كبير منها، عنصرا مكونا من عناصر النظام نفسه، وقد مكّنها من الجامعات والمفاصل الأساسية في الدولة، لذلك فإنها لم تجد صعوبة في إعادة التموقع بعد الثورة وصولا إلى الانقلاب عليها. بل إن فشل الأحزاب والمكونات الإيديولوجية الإسلامية والقومية واليسارية في التوافق على تشكيل الحكومة، في تونس مثلا، هو الذي دفع بهم إلى أحضان المكونات الليبرالية تحت مسمى كاذب هو “التكنوقراط” أو ” حكومة التكنوقراط”.
خلاصة الحديث هو أن النخب السياسية العربية اليوم لا تزال تعاني من نفس المشكل الذي كانت تعاني منه قبل الثورات، فلا شيء تغيّر في العمق؛ وهو ما يجعلها نخبا دون برامج واضحة ودون إستراتيجيات مرحلية، بل هي تعارض لأجل المعارضة فقط طمعا في منصب أو امتياز قد يأتي يوما ما وقد لا يأتي.
إن أهم ما يطرح على الأجيال القادمة هو تجديد النخب العربية، والقطع مع النخب القديمة المفلسة، وبناء مشاريع ظرفية قادرة على الأقل على إيقاف النزيف ما لم تنجح في بناء مشروع للنهضة. إن تجديد النخب العربية هو الشرط الأساسي لتجاوز حالة الاحتقان القاتلة التي تعيشها المنطقة اليوم.

1 تعليق

  1. بشير بادي

    اكثر ما يتطلب من النخب هو التواصل مع عامة الشعب حتى تنجح في قيادة المرحلة المفصلية في اي دولة او مجتمع

    غير أن النخبة العربية تحمل إرثاً من الإحباط، الذي تراكم خلال عقود من الزمن أكد فشلهم المستمر في التواصل مع عامة الشعوب، الذي كان يعتبر شرطاً أساسياً من أجل التقدم لقيادتها

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...