المسلمون في الهند.. الحكاية المنسية

بواسطة | سبتمبر 10, 2023

بواسطة | سبتمبر 10, 2023

المسلمون في الهند.. الحكاية المنسية

التسلط الذي تمارسه حكومة مودي في الهند تجاه المسلمين، من تقييد للحريات، واعتداء على مقدساتهم وحيواتهم، يجعلنا نتساءل عن دوافع هذا الحقد الدفين، الذي تحمله الطائفة الهندوسية من أتباع مودي تجاه الملايين من المسلمين الهنود، ويجعلنا أيضا نتساءل: كيف كان حُكمنا لبلاد الهند في القرون التي خلت في الماضي؟ لنقارن بين الصورتين، ونجعل القارئ يتمعن في إدارة الهنود المسلمين لشبه القارة الهندية، ويقارنها بكل إنصاف بإدارة غيرهم لها، حتى نعلم من هم الأقرب لحقيقة الإنسانية، والأكثر تحقيقا للعدالة الاجتماعية، والأبرز في سلم التطور والرقي.
لقد كان للمسلمين إبداع حضاري أممي، وهذا الإبداع لم يقتصر على الأقطار العربية فحسب، بل امتد ليشمل بقاعا عديدة في العالم؛ لذلك يَعتبر كثير من المؤرخين، أن دخول الإسلام إلى بلاد الهند كان نقطة تحول في تاريخها، وقفزة حضارية عظيمة، نقلت بلاد الهند من عصور التخلف والجهل والاستبداد إلى عصر التقدم والارتقاء والحرية، وساهمت في تحقيق رقي البلاد الهندية اجتماعيا، ودينيا، وثقافيا، ومدنيا.
دخل الإسلام بلاد السند (باكستان حاليا) الواقعة شمال الهند، على يد الأمير محمد بن القاسم الثقفي، في عهد الخليفة الأموي الوليد عبد الملك، وكان ذلك عام 95هـ/ 712م، وفي عام 400هـ/ 1009م، استطاع القائد المسلم التركي محمود الغزنوي أن يؤسس سلطنة إسلامية، بعد أن انتصر على ملوك الهندوس في شمال الهند وجنوبها. وقد تعاقب المسلمون على حكم بلاد الهند، وتولى الحكم في القرون الثلاثة الأخيرة من الحقبة الإسلامية هناك سلاطين مغول الهند، ومن أبرزهم أورانغ زيب عالم قير (الأمير الراشد)، ثم انتهت دولتهم على يد الاستعمار البريطاني، وسقطت في 17 أكتوبر 1858م، وبذلك طُويت آخر صفحة من صفحات الحكم الإسلامي العظيم في الهند، بعد أن حكم المسلمون بلاد الهند حكما فعليا لمدة امتدت لأكثر من ثمانية قرون.
كان من أعظم نتائج الفتح الإسلامي العظيم لبلاد الهند، انتشار الإسلام الذي زرع بكل قوة، وبالحجة والمنطق، فكرة المساواة والعدالة الاجتماعية في بلاد الهند، بعد أن كان يغلب عليها الطابع الطبقي المغالي في الطبقية والظلم المجتمعي. وقام ملوك ورجال الحكم المسلمون بدورهم في إصلاح الطقوس والعادات المتبعة في الهند، وخاصة تلك الطقوس المدمرة للعقل والروح والبدن في بلاد الهند.
ومع حكم المسلمين للهند كان ترسيخ مبدأ احترام المرأة، والاعتراف بحقوقها وكرامتها، بعد أن كانت الديانة الهندوسية تُلزم النساء بحرق أنفسهن بالنار بعد وفاة أزواجهن، وتهضم كثيرا من حقوق المرأة الهندية؛ وتغير الحال في ظل الحكم الإسلامي للبلاد، فأصبحت المرأة الهندية محل تقدير واحترام وذات شأن في اختياراتها، إذ تمت مشاركتها في كافة أنشطة الحياة في الهند، وحصلت على حريتها بعد أن كانت تُباع وتُشترى، واعتلت المناصب وشاركت السلاطين برأيها في الحكم. وفي دولة المماليك في الهند تربعت السلطانة راضية على عرش دلهي وحكمت في القرن الثالث عشر الميلادي، وقادت الجيوش فكانت أول حاكمة سياسية مسلمة في جنوب آسيا.
ومن مظاهر الحضارة الإسلامية في بلاد الهند أن انتشرت المراكز التعليمية والثقافية في كافة ربوع البلاد، لتقوم بدورها في نشر العلم ورفع الجهل عن أبناء البلاد، وكان من هذه المدارس دار العلوم بديونبد، وقد أسسها الشيخ الفقيه محمد قاسم النانوتوي، ومدرسة مظاهر العلوم في مدينة سهارينور؛ وبالإضافة إلى هذه المراكز العلمية كانت هناك المدارس والمعاهد التعليمية النظامية، مثل مدرسة شاهي في مراد آباد، ومدرسة إمدادية في دربهنكا، ومدرسة أحمدية في لهربا، ومدرسة الرحمانية في دلهي.
ومع هذه المدارس كانت الجامعات المدنية العصرية، التي أسسها المسلمون في دهلي وحيدر آباد وغيرها، وكان الهدف من هذه إحداث الجامعات العريقة في شرق البلاد وغربها تعليم أبناء المسلمين الهنود العلوم العصرية، واللغات الأجنبية، وإعدادهم للوظائف الرسمية في الحكومة الهندية. وعندما نقل الغزنويون عاصمتهم من غزنة إلى لاهور تحولت لاهور إلى مركز ثقافي، وعندما فتح قطب الدين أيبك مدينة دلهي جعلها عاصمة للبلاد وتوافد عليها العلماء من كل حدب وصوب، وأصبحت مركزا للتدريس والتعليم .
وانتشرت المكتبات في بلاد الهند في فترة الحكم الإسلامي، فلم تقتصر على مكتبات الحكام والسلاطين والملوك، ولكن كانت هناك أيضا مكتبات أُلحقت بالمساجد الكبرى في مدن السند والهند، منها مكتبات خاصة بالعلماء والفقهاء والدعاة، ومنها ما هو متاح للعامة من الشعب الهندي. واهتم المسلمون في بلاد الهند بنسخ المصاحف وتجليدها تجليدا فاخرا، وقاموا بنسخ كتب الحديث والفقه، وقد أقبل المسلمون من الهنود على قراءة الكتب الإسلامية وأُهملت كتب الهندوس والبوذيين.
طبيعة الهند الساحرة كان لها أثرها على أدباء المسلمين، فاتسع خيالهم أكثر، وارتقى ذوقهم، وطرقوا معاني جديدة في الأدب والشعر؛ وقد اهتم السلاطين بالشعر والشعراء، ومن أشهر شعراء الهند قديما  أبو القاسم حسن بن أحمد، والشاعر أبو القاسم الفردوسي. وفي جانب المصنفات الأدبية كان من أهم ما خلفته المنظومة الهندية الإسلامية كتاب “كليلة ودمنة”.
أما علم التاريخ فهو من العلوم التي نقلها المسلمون إلى بلاد الهند، فقد كانت بلاد الهند تفتقر إلى تقييد تاريخها الماضي، وليس في مكتباتها كتاب تاريخ بالمعنى المعروف، وفي ذلك يقول غوستاف لوبون في حضارة الهند: “لا يوجد تاريخ للهند القديمة، ولا تضم كتبهم حوادث تاريخية كليا، وكذلك لا يمكن الوصول إلى نتيجة بدراسة أبنيتهم وآثارهم التاريخية..”. لذلك بدأ اهتمام علماء المسلمين الهنود بعلم التاريخ، وكان من أشهر علماء التاريخ في الهند أبو الفضل أحمد بن حسين البيهقي ومن أشهر كتبه ” تاريخ البيهقي”، وكان منهم أيضا أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي.
أما في مجال الطب، فمن المعروف أن بلاد الهند كانت من أكثر الأمم علما في مجال الطب والأدوية، وعُرِف الهنود بمهارتهم في تشخيص الأمراض وعلاجها؛ ولما جاء الفتح العربي والإسلامي لبلاد الهند، حدث تمازج عجيب وانصهار معرفي أدى إلى ازدهار صنعة الطب الهندي الإسلامي.
وبالانتقال إلى فنون العمارة، فقد أدخل المسلمون إلى بلاد الهند فنّا معماريا يمتاز بالدقة والجمال والفخامة، وقد ترك المسلمون من عرب وفرس وترك في بلاد الهند تراثا معماريا يمزج بين الفن الإسلامي والفن الهندي، وقد ظهر هذا التراث المعماري واضحا في بناء المدن، وفي المساجد والأضرحة. وقد بنى المسلمون مدينة دلهي، التي بلغت مكانة رفيعة في العصر الهندي الإسلامي، وقد وصفها ابن بطوطة بأنها مدينة كبيرة المساحة، كثيرة العمارة، يحيط بها من الخارج سور عظيم. وقد برع المسلمون في الهند بعمارة الأضرحة -مع أنه منهي شرعا عن بنائها وتشييدها- ومن أشهر هذه الأضرحة ضريح “تاج محل” الملقب بـ “جوهرة الفن الإسلامي في الهند” وهو آية في الفن والهندسة، وقد بناه السلطان شاه جيهان ليكون ضريحا لزوجته الراحلة ممتاز محل، وضريح السلطان التمشي، وضريح همايون شاه، وهو الأول من نوعه في شبه القارة الهندية؛ وبالإضافة إلى الأضرحة كان بناء المآذن العالية مثل، مئذنة قطب منار، ثاني أطول مئذنة في التاريخ الهندي الإسلامي.
وفي جانب الاقتصاد، اهتمت الدول الإسلامية الهندية بتنمية سبل الزراعة والصناعة والتجارة، ومن ذلك استثمار كل الأراضي الهندية الصالحة للزراعة، وتحسين وسائل الري، وحفر الآبار، وإنشاء القنوات والجسور، فتنوعت المحاصيل الزراعية في الهند، وزاد الإنتاج، ونشط التصدير وحركة التجارة والتبادل التجاري؛ ولم يفرض الحكام المسلمون الضرائب الباهظة على المواطنين الهنود، ولكن قاموا بتنظيمها، وتنظيم المالية العامة، وإصلاح نظام النقود وسك العملة.
وقد ازدهرت التجارة الخارجية في الهند أثناء الحكم الإسلامي لها، بتشجيع السلاطين المسلمين للتجار، وتوفير السبل لهم لتنمية تجارتهم، وبناء الموانئ البحرية على السواحل الجنوبية لبلاد الهند، التي أثمرت علاقات تجارية بين الهنود والبلاد المجاورة، فقد قامت الهند بتصدير العديد من البضائع إلى الدول المجاورة كالصين وبلاد السند وجزيرة العرب واليمن وشرق أفريقيا والعراق والأناضول وغيرها.
وبهذا يتبين لكل منصف، أن المسلمين خلال حكمهم لبلاد الهند (شبه القارة الهندية) كانت لهم الأيادي البيضاء على هذه البلاد، فقد نهضوا بها، وأخرجوها من عزلتها، وقد قرر هذه الحقيقة التاريخية (جواهر لال نهرو)، رئيس وزراء الهند سابقا، إذ قال: “إن دخول الإسلام له أهمية كبيرة في تاريخ الهند، فقد فضح الفساد الذي انتشر في المجتمع الهندوسي، وأظهر ما كانت تعيش فيه الهند، من سوء الطبقية وانقسام الطوائف وحب الاعتزال عن العالم”. وما ذكرناه من مظاهر حضارية للمسلمين في الهند ما هو إلا غيض من فيض، ومن الجفاء أن تبقى هذه الحقائق مطمورة في صفحات التاريخ، وغائبة عن عقول شبابنا العربي.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...