المنهج النبوي في التعامل مع سنة الابتلاء والمصائب

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 19 يناير, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 19 يناير, 2024

المنهج النبوي في التعامل مع سنة الابتلاء والمصائب

يتم تسليط الضوء على مفهوم الابتلاء وأهميته في منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف يمكن للمسلمين استلهام الصبر والتحلي به في وجه التحديات والابتلاءات. يستند المقال إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية توضح أهمية الصبر والتفاؤل في مواجهة الابتلاءات.

الابتلاء والصبر – دروس من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم

إن الله تعالى منذ خلق الدنيا جعلها دار امتحان واختبار، ومنذ أنزل إليها آدم عليه السلام واستخلف ذريته فيها، قضى على بني آدم أن يكونوا عرضةً للابتلاء في جميع أحوالهم، قال الله تعالى: (الَّذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملًا ۚ وهو العزيز الغفور) [الملك: 2]، أي ليختبرهم أيهم أصوب عملاً وأخلصه، ولينظر أي عباده أكثر طاعة لأوامره واجتناباً لنواهيه، وأكثر امتناعاً عن الشهوات المحرمة، وأيهم أكثر صبراً عند المصائب والشدائد.

الابتلاء وحكمته في الإسلام

وابتلاء العباد سُنة ثابتة ماضية من الله تعالى في جميع خلقه ليختبر صدقَ إيمانهم؛ قال تعالى: (الم* أحسب النَّاس أن يُترَكوا أن يقولوا آمنَّا وهُم لا يُفْتنون* ولقد فتنَّا الَّذين من قبلهم فليعلمنَّ اللَّهُ الَّذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين) [العنكبوت: 1- 3]. وهذه السنة الظاهرة لا تقتصر على أناس دون غيرهم، فقد جرت على جميع البشر بما فيهم الأنبياء والرسل، وأولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي خاطبه الله تعالى بقوله: (ولقد كُذِّبتْ رُسلٌ من قبلكَ فصبروا على ما كُذِّبوا وَأُوذوا حتَّى أتاهم نَصْرنا ولا مُبدِّل لكلمات اللَّه ولقد جاءكَ من نبأ المرسلين) [الأنعام: 34].

فما ادعى أحدٌ الإيمان بالله تعالى ورسله إلا كان له نصيب من الابتلاء الذي يختبر إيمانه، وإن تباينت صور هذا الابتلاء ومراتبه، فالمؤمن يبتلى على قدر إيمانه؛ فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: “قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟، قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيُبْتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة”.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو أكرم خلق الله على الله- تعرض للابتلاء العظيم من المحن والأذى على قدر عظمة الرسالة التي يحملها، والتي كُلف بدعوة الناس إليها، وذلك ليكون أسوةً حسنة للمؤمنين من بعده في الصبر على البلاء، والمصابرة على تكاليف الدعوة من العذاب النفسي والجسدي؛ فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء ما تضعف معه العزائم وتخور معه القوى، فكان صلى الله عليه يصبر ويحتسب ويتابع دعوته وجهاده دون كلل أو ملل. قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “لقد أُخِفتُ في الله وما يُخاف أحَدٌ، ولقد أُوذيتُ في الله وما يُؤذى أحدٌ، ولقد أتت علَيَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبِلالٍ طعام يأكله ذو كَبِد إلا شيء يواريه إبْطُ بلالٍ”.

الصبر كسلاح للمؤمنين

لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان خير قدوة لمن معه من الصحابة في الصبر والمجاهدة، فقد ربّى أصحابه على الصبر على البلاء، وذلك بتذكيرهم عظم الأجر والجزاء الذي أعده الله للصابرين من عباده، وأن نزول البلاء ليس مرتبطاً بالضرورة بمعاصي العبد، بل قد ينزل بالعبد كعلامة على حب الله تعالى له؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن عِظَمَ الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سَخِط فله السُّخْط”، وقال صلى الله عليه وسلم: “ما يُصيبُ المسلمَ، من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْن ولا أذى ولا غَمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه”.

كما كان رسول الله صلى لله عليه وسلم يبث الثقة والتفاؤل في قلوب الصحابة الكرام، وأن جهدهم لن يذهب سدى، وإنما هي تضحيات مطلوبة على طريق النصر والتمكين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَيبْلغَنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل، ولا يترك اللهُ بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بعِزِّ عزيز، يُعَزُّ به الإسلام، وبذُلّ ذليل يُذلّ به الكفر”. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه ما تعرض له المؤمنون قبله من الابتلاء والعذاب فما وهنوا لما أصابهم وما ضعفت عزيمتهم، فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: “شكَوْنا إلى رسول اللَّه ﷺ وهو مُتوسِّد بُردة له في ظلِّ الكعبة، فقلنا: ألا تَسْتَنصر لنا ألا تَدْعو لنا؟ فقال: قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأَرض فيُجعل فيها، ثم يُؤتَى بالمنشار فَيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمْشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصُدُّه ذلك عن دينه، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ والذئب على غنَمه، ولكنكم تستعجلون”.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم استحب الصبر على رفع البلاء في بعض المواقف، وحض المؤمنين على ذلك لما في الصبر على البلاء من الأجر العظيم الذي لا يكافئه إلا الجنة، كما جاء في ما رواه يحيى عن عمران أبي بكر قال: “حدثني عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس ألا أُريكَ امرأة من أَهل الجَنة؟ قلتُ: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أَتَتِ النبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، قالت: إني أُصْرَع وإني أَتَكشَّف، فَادْعُ اللَّهَ لي، قال: إن شئْتِ صبرْتِ ولكِ الجَنَّة، وإن شئتِ دعوْتُ اللَّهَ أن يُعافيكِ قالت: أَصْبِر، قالت: فإني أتَكشَّف فادْعُ اللَّهَ أَن لا أتكَشَّف فدعا لها”.

نصائح نبوية لمواجهة الابتلاء وتعزيز التفاؤل

إن المنهج النبوي كان التجسيد الواقعي للمنهج القرآني في التعامل مع الابتلاء والمحن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد على مسامع أصحابه آيات القرآن الكريم ليغرس في نفوسهم معانيه، التي كان لها أثر عظيم في شدِّ أزر المؤمنين والتخفيف عنهم، بضرب الأمثلة والقصص لهم من الأمم السابقة وأنبيائها، وكيف لاقوا مِن قومهم الأذى والعذاب؛ ليصبروا ويستخفُّوا بما يلاقون، وأيضاً بمدح بعض تصرفاتهم، ثم بوعدهم بالثواب والنعيم المقيم في الجنة، وكذلك بالتنديد بأعدائهم الّذين كانوا يذيقونهم الألم والأذى.

ومن تلك المعاني أن هذه الدنيا دار شقاء وابتلاء دائم، وليست دار هناء واستقرار، قال تعالى: (ولَنبْلُونَّكم بشيءٍ من الخوف والجوعِ ونقصٍ من الأموال والأنفس والثَّمرات) [البقرة: 155]، وأن الابتلاء فيه تمحيص وتنقية للصف المسلم من المنافقين، قال الله تعالى: (ولقد فَتَنَّا الَّذين من قبلِهم فَلَيعْلَمنَّ الله الَّذين صدقوا ولَيعْلَمنَّ الكاذبين) [العنكبوت: 3]، وقال تعالى: (ما كان اللَّه لِيذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتَّى يَمِيز الخبيث من الطَّيِّب) [آل عمران: 179]، وأن الثبات والصبر سبيل النصر، فالنصر الإلهي آت لا محالة، قال الله تعالى: (حتَّى إذا استيأس الرُّسل وظنُّوا أنَّهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فَنُجِّيَ من نشاء ولا يُردُّ بأسنا عن القوم المجرمين) [يوسف:110].

إذا كان الإيذاء والابتلاء قد نال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فليس هناك أحد أكبر من الابتلاء والمحن، فتلك سنة الله مع الأنبياء والمؤمنين إلى يوم الدين، وعلى ذلك ربَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرعيل الأول، فينبغي على المسلم الثبات على دينه ودعوته، وأن يواجه الأذى والمحن والمصائب بالصبر الجميل الذي يريده الله من عبده، فلا يضعف أو يحيد عن طريق الله إذا ما عانى شيئاً من الأذى والابتلاء، فقد سبقه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء والصحابة الكرام.

د. علي محمد الصلابي

مفكر سياسي ليبي

1 تعليق

  1. فاخر مفتاح بوفرنة

    بارك الله فيك

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...