النهضوي الأخير: طه حسين وما بعد “الأيام”(2)
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 16 مارس, 2024
مقالات مشابهة
-
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ...
-
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق...
-
لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!
لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر...
-
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين
شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في...
-
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض...
-
شكرا للأعداء!
في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وكتاب "سراج...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 16 مارس, 2024
النهضوي الأخير: طه حسين وما بعد “الأيام”(2)
يتناول المقال دور الأديب الكبير طه حسين. حيث تم تسليط الضوء على تأثيره المميز في الحركة الأدبية. المقال هو تكملة للجزء الأول، الذي يتناول الأسس الفكرية لطه حسين ودوره في التجديد الأدبي والفكري.
طه حسين في الجامعة
يرصد حسام أحمد في كتابه “النهضوي الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات في مصر” رحلة طه حسين من الأزهر إلى الجامعة المصرية، فقد كتب طه حسين في أيامه عن الأزهر: “كان هذا النسيم الذي يترقرق في صحن الأزهر حين تُصلَّى الفجرُ يتلقَّى وجهه بالتحية فيملأ قلبه أمنًا وأملًا”، لكن سرعان ما أفضت الحماسة إلى خيبة الأمل، إذ شعر طه حسين بالإحباط من طرق التدريس في الجامع الأزهر، ويقول في سيرته “الأيام”: “وكان الصبي يجلس إلى جانب ذلك العمود يعبث بتلك السلسلة، ويسمع للشيخ وهو يُلقي دروسه في الحديث، فيفهم عنه في وضوح وجلاء، ولا ينكر منه إلا تلك الأسماء التي كانت تسَّاقطُ على الطلبة يتبع بعضها بعضًا، تسبقها كلمة (حدثنا) وتفصل بينها كلمة عن”.
وكان الصبي لا يفهم معنًى لهذه الأسماء ولا لتتابعها ولا لهذه “العَنْعَنة” المملة، وكان يتمنى أن تنقطع هذه العَنْعَنة وأن يصل الشيخ إلى الحديث، فإذا وصل إليه سمعه الصبي مُلقيًا إليه نفسه كلَّها فحفظه وفهمه، وأعرض عن تفسير الشيخ، لأنه كان يُذكِّره بما كان يسمع في الريف من إمام المسجد، ومن ذلك الشيخ الذي كان يعلِّمه أوليات الفقه.
بعدها انتقل طه حسين إلى الجامعة وانتشى بالتجربة الجديدة، وقد وصفها بأنها احتفال دائم وعيد متّصل رائع الإمتاع، فقد تعامل هؤلاء الأساتذة الأوروبيون والمصريون مع الموضوع المطروح مباشرة، دون الرجوع إلى شروح المتون أو شروح الشروح.. يقول طه حسين في “الأيام”: ثم راع الفتى بعد ذلك أن الأستاذ لم يقُلْ في أول درسه: “قال المؤلف رحمه الله”، وإنما استأنف الدرس يتكلم من عند نفسه ولا يقرأ في كتاب، وكان كلامه واضحًا لا يحتاج إلى تفسير، وكان سوِيًّا مستقيمًا لا قَنْقلة فيه ولا اعتراض عليه، وكان غريبًا كل الغرابة، جديدًا كل الجدَّة، ملك على الفتى عقله كله وقلبه كله.
هكذا يرصد الكتاب لحظة الجامعة المصرية وتاريخها وتحوُّلها من جامعة أهلية إلى جامعة حكومية، ودورَ الملك فؤاد في ذلك الأمر، حتى يضعنا في سياق رحلة طه حسين من الأزهر إلى الجامعة المصرية.
أحمد أمين والجامعة المصرية
ويشير حسام أحمد أنه كان لدى المثقفين مثل أحمد أمين وعبد الوهاب عزام ردود فعل مماثلة على التجربة الجديدة للجامعة، فعندما ألقى توماس أرنولد محاضرةً في الجامعة، أثنى عليه عبد الوهاب عزام لأنه اعترف بأنه لا يملك إجابات عن بعض أسئلة الطلاب، ولأنه طلب آراءهم في محاضرته.
وكذلك تذكَّر أحمد أمين شيوخه الأزهريين وعبَّر عن ضيقه بطريقة التدريس.. يقول أحمد أمين في سيرته “حياتي” عن الجامعة المصرية: “ثم نَمَت الجامعة واستُدعي لها بعض كبار المستشرقين. فأعجبتني من دروسها محاضرات يلقيها الأستاذ نللينو في تاريخ الفلك عند العرب، ومحاضرات في الفلسفة الإسلامية يلقيها الأستاذ سانتلانا، ومحاضرات في الجغرافيا العربية يلقيها الأستاذ جويدي… ورأيت لونًا من ألوان التعليم لم أعرفه: استقصاء في البحث، وعمق في الدروس، وصبر على الرجوع إلى المراجع المختلفة، ومقارنة بين ما يقوله العرب ويقوله الإفرنج، واستنتاج هادئ ورزين من كل ذلك”.
كانت الجامعة… هي طه حسين
سرعان ما أصبح طه حسين صورة للجامعة المصرية، يحكي الأستاذ محمود محمد شاكر في جمهرة مقالاته أنه في حدود سنة 1923م، وكان يومئذ فتى صغيرًا في المدارس الثانوية، صار يقرأ ما يكتب طه حسين ويتتبعه. وكان قبيل ذلك أيضًا يقرأ كتاب “الكامل” للمبرد وكتاب “الحماسة” لأبي تمام على شيخه -رحمه الله- إمام العربية في زمانها، سيد بن علي المرصفي، في بيته، وكان الشيخ المرصفي لا يكاد يقرأ الصحف، ففي بعض حديث محمود شاكر معه ذكر له ما كان يكتبه الدكتور طه حسين في الصحف؛ فعرف محمود يومئذ منه أن الدكتور طه حسين قرأ على المرصفي أيضًا ما شاء الله أن يقرأ من كتاب “الكامل” للمبرد.
ويقول محمود شاكر عن طه حسين: “عرفتُه مُحبًّا لعربيته حُبًّا شديدًا، حريصًا على سلامتها، متذوقًا شعرها ونثرها أحسن التذوق، وعلمت أن هذا الحرص وهذا التذوق كان ثمرة من ثمار قراءته على المرصفي؛ فإني لم أرَ أحدًا كان يحب العربية ويحرص على سلامتها، ويتذوق بيانها، كشيخنا المرصفي رحمة الله عليه، ولم أرَ لأحد تأثيرًا في سامعه كتأثير الشيخ في سامعه”.
ويستكمل محمود شاكر شهادته على تلك الفترة بقوله: “وصار الدكتور طه حسين، أستاذ الأدب العربي في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، ولكن لم تكد تمضي سنة على إنشاء الجامعة حتَّى صرنا إلى أمر غريب جدًّا: لا يكاد يُذكر اسم (الجامعة) حتَّى ينصرف ذهن كل سامع إلى (كلية الآداب) وحدها، ثم إلى الدكتور طه حسين وحده… أي إنك تستطيع أن تقول بلا تجوّز كثير: إن طه حسين كان عند الناس هو الجامعة، وكانت الجامعة عندهم هي طه حسين”!
وفي شهادة محمود شاكر، بعد أن ذكر معركة طه حسين بسبب كتابه “في الشعر الجاهلي”، أنها أثرت في صورة طه حسين عند عامة الناس، كما يقول محمود شاكر، فأصبح طه واحدًا ممن يمثلون هذا الاتجاه الذي يتولاه فلان وفلان من خبثاء المبشرين الذين يكتبون بالقلم العربي.
ثم يقول محمود شاكر: “لقد لقي طه حسين يومئذ ما لقي، ونُسب إليه ما قطع بأنه بريء منه، والدليل على براءته عندي هو أنه منذ عرفته في سنة 1924م، إلى أن توفي في 28 أكتوبر 1973م، كان محبًّا للسانه العربي أشدَّ الحب، حريصًا على سلامته أشد الحرص، متذوقًا روائعه أحسن التذوق، فهو لم يكن يريد قط باللسان العربي شرًّا، بل كان من أكبر المدافعين عنه، المنافحين عن تراثه كله إلى آخر حياته. ومحال أن يُحشر مَن هذه خصاله في زمرة الخبثاء ذوي الأحقاد من ضعاف العقول والنفوس، الذين ظهروا في الحياة العربية لذلك العهد، بظهور سطوة (الاستعمار) وسطوة (التبشير) وهما صنوان لا يفترقان”.
ديمقراطية التعليم
هذه الصورة التي تربط بين طه حسين والجامعة المصرية، كما حكاها محمود شاكر، يصل إليها حسام أحمد عند حديثه عن أن طه حسين أصبح المثال الأول لعالم الإنسانيات العربي، فقد انخرط في الأدب الكلاسيكي طوال حياته، ثم عمل رئيسًا لمجمع اللغة العربية، ووضع ابن الجامعة البِكر -كما كان يُسمّى طه حسين- قواعد لتنظيم دور الدولة مع الجامعات.
لقد افتخر طه حسين بكلية الآداب وإنجازاتها في الحياة الفكرية، واستشهد بكتابات أحمد أمين ودور الكلية في ترجمة “فاوست” غوته من الألمانية، وأيضًا ذكر دور الجامعة في الاحتفال بألفية الشاعر أبي الطيب المتنبي، إذ صدر كتاب عبد الوهاب عزام “ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام”، وأشار طه حسين إلى ترجمة عزام الرائعة “الشاهنامة” للشاعر الفارسي الفردوسي، وكان طه حسين فخورًا بكون الكلية مسؤولة عن إشراك المصريين لأول مرة في مجال الآثار والحفريات.
وبصفته عميدًا لكلية الآداب، أنشأ طه حسين أيضًا معهد اللغات والآداب الشرقية، ومن أهم إسهاماته -كما يحكيها حسام أحمد- دوره في نشر التعليم المجاني باعتباره أساسًا مُهمًّا من أسس الحكم الرشيد، حتى إن طه حسين صاغ تشبيهه المعروف الذي ما زال مُتداولًا حتى يومنا هذا: “التعليم كالماء والهواء”.
وعلى الرغم من كل مشكلات البرلمان، فهو الذي مكَّن طه حسين من تحقيق أهدافه، وهو السبب الذي جعل طه حسين يردد دائمًا إن مجانية التعليم هي حق اكتسبه الشعب؛ فقد افترض طه حسين وجود نظام برلماني لضمان نجاح مشروعه على المدى البعيد، بمعنى وجود نواب قائمين على حماية حقوق الشعب، وشفافية في اتخاذ القرارات وفي توزيع ميزانية الدولة، وصحافة حرة وتداول للرأي، وهكذا يشير كتاب “النهضوي الأخير” إلى أنه كان في متناول طه حسين أرقام الميزانية السنوية للدولة التي تنشرها الجرائد، وفهم هؤلاء النواب الإيرادات والنفقات الحكومية، بما في ذلك مخصصات الجيش، وتساءلوا عن ميزانية التعليم وطالبوا بزيادتها.
ميزة النهضوي الأخير
اختار الباحث حسام أحمد كتابة سيرة اجتماعية موضوعًا للدكتوراه، وهنا قرر التركيز على حياة وأعمال طه حسين، وذلك في محاولة لفهم التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها مصر في النصف الأول من القرن العشرين وحتى أوائل الستينيات، وهي تحولات عاشها وشارك في صنعها طه حسين. فالسيرة الاجتماعية ليست سيرة غَيرية بالمعنى المعروف، وإنما تتخذ من شخص ما وسيلةً أو عدسة لدراسة وتحليل مؤسسات وتغييرات اجتماعية معينة من خلال رؤية هذا الشخص طبيعة ودور هذه المؤسسات والتغييرات المختلفة وكيفية تعامله معها، ما يسمح للمؤرخ بالاشتباك سلبًا وإيجابًا مع السرديات التاريخية الكبيرة، التي لا تتطابق في أغلب الأحيان مع التجارب الشخصية على أرض الواقع.. هكذا نرى نقاشات عن دور طه حسين في وظيفته بوزارة المعارف وكلية الآداب وموقفه من ثورة يوليو 1952م.
اعتمد الكتاب على العودة إلى مصادر ووثائق لم يتطرق لها كثير من الباحثين، ومن أهم الفصول في الكتاب محاولته دراسة موقف طه حسين من ثورة يوليو، فحين علم طه حسين، الذي كان يقضي إجازته الصيفية في إيطاليا، أن الجيش قد سيطر على البلاد عام 1952م، أُغمي عليه من الفرح، لكن هذا الفرح قد تحوَّل إلى حزن في نهاية حياته، وهذا ما يشرحه فصل “رياح التغيير” في كتاب حسام أحمد.
وما يميز الكتاب أنه استفاد في أثناء كتابته من النقاش مع مؤرخين مثل ليلى بارسونز، التي كتبت سيرة بعنوان “القائد فوزي القاوقجي والكفاح من أجل استقلال العرب 1914- 1948″، ولم يُترجَم كتابها إلى العربية حتى الآن، وهي التي أشرفت على رسالة الدكتوراه، فضلًا عن نقاشاته مع المؤرخ خالد فهمي، الذي يذكره في مقدمة الكتاب، والمؤلف حسام أحمد أكاديمي مصري كندي متخصص في التاريخ الثقافي والاجتماعي، يعمل حاليًّا أستاذًا مساعدًا في تاريخ الشرق الأوسط بجامعة كارلتن الكندية.
الغائب عن النهضوي الأخير
يغيب عن كتاب “النهضوي الأخير” كثير من القصص التي تخص طه حسين من بطون السير الذاتية والمذكرات، وسبب ذلك طبيعة الكتاب، لكونه في الأصل رسالة دكتوراه، لكن الكتاب كان يمكن أن يضم قبل نشره للقراء قصصًا وصورًا لطه حسين من خلال مذكرات الذين عايشوه.
نرى مثلًا صورة لطه حسين في مذكرات عبد الرحمن بدوي “سيرة حياتي”، إذ يقول عن طه: “أهم حدث جامعي في هذا العام الأول من دراستي في كلية الآداب هو عودة الدكتور طه حسين إلى هذه الكلية في شهر نوفمبر أو ديسمبر سنة 1934، بعد أن فُصل منها في مارس سنة 1932”.
يكمل بدوي: “فاستقبلناه محمولًا على الأعناق من باب الجامعة حتى المدرج رقم 74 في كلية الآداب، وتوالى الخطباء والشعراء في إلقاء ما كتبوا احتفالًا بهذا المقدم السعيد؛ وبعد عودته بنحو شهر قدَّمني إليه أستاذنا في اللغة العربية طه إبراهيم مُثنيًا عليَّ بما شاء له خلُقُه الفاضل. ومن يومها، أي في يناير سنة 1935، انعقدت بين الدكتور طه حسين وبيني أواصر علاقة متينة، زادت مع السنوات وثوقًا وعُمقًا حتى وفاته في 28 أكتوبر سنة 1973، وسيكون لهذه العلاقة تأثير عميق في مجرى حياتي”.
وكان تطورًا حاسمًا في مجرى حياة بدوي سفره إلى أوروبا في العشرين من شهر يونيو سنة 1937، إبّان عطلة الصيف، إذ أمضى في ألمانيا وإيطاليا أربعة أشهر، ويرجع الفضل في هذه الرحلة إلى رجُلين، طه حسين عميد كلية الآداب آنذاك، والأستاذ باول كراوس، أستاذ اللغات السامية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب.
والقصة كما يذكرها بدوي في مذكراته: “قررتُ أن أتصل بكراوس غداة وصوله إلى القاهرة، وفعلًا ذهبت إليه وأخبرته أنني أتقن اللغة الألمانية، فأراد أن يستوثق من ذلك في الحال فأخذ كتاب (دراسات إسلامية) لجولد تسيهر وفتح لي صفحة: فرحتُ أقرؤها وأترجمها فقرة فقرة، ولغة جولد تسيهر صعبة.. وتحدّثنا بالفرنسية فازداد إعجابًا. وغداة تلك الليلة ذهب كراوس إلى الدكتور طه حسين في مكتبه، مكتب العميد، وأخبره بأنّه التقى طالبًا في السنة الثالثة من قسم الفلسفة يتقن الألمانية والفرنسية إتقانًا أدهشه كل الإدهاش؛ وفي الحال استدعاني الدكتور طه حسين وذكر لي ما قال كراوس عنّي، فأخبرته أنني أُحسن الإيطالية أيضًا.. فقال على الفور: إذًا سأرسلك في بعثة صيفية إلى ألمانيا وإيطاليا لتحصيل مزيد من هاتين اللغتين.. هذا وعد مني صريح، فتعالَ وذكِّرني به قبيل امتحان آخر العام لاتخاذ الإجراءات الرسمية”.
ويوضح بدوي أن هذه البعثات الصيفية كانت مخصصة للمعيدين والمدرسين المساعدين فقط، وهو كان لا يزال طالبًا في السنة الثالثة، لكن قوة إرادة الدكتور طه حسين لم يكن يقف أمامها أي شكليات ولا اعتبارات تنظيمية، فكان عند وعده، وتقرَّر إرسال بدوي في بعثة صيفية لإتقان اللغتين الألمانية والإيطالية، وهذا مثال من شهادات عديدة لدور طه حسين في الجامعة وفي وزارة المعارف؛ ومنها قصة حكاها عباس خضر في كتابه “شخصيات عرفتها”؛ وفيها أن ثورة يوليو ألغت الألقاب مثل الباشوية، لكن طه حسين ظل يكتب لأستاذه أحمد لطفي السيد مخاطبًا إياه بـ”حضرة صاحب المعالي أحمد لطفي السيد باشا”، في تحدٍّ لقرار إلغاء الألقاب، وقال: “إني مستعد أن أدفع جنيهًا، لا قرشًا واحدًا، ولا أجرّد لطفي باشا من لقبه”! وكانت الحكومة تغرِّم مَن يستخدم الألقاب قرشًا صاغًا، حتى ينتبه ولا يعود إلى هذا التصرف.
ولو ضم الكتاب أمثلة من صورة طه حسين في عيون عباس خضر، وشوقي ضيف، وعبد الرحمن بدوي، ومذكرات محمد الدسوقي “أيام مع طه حسين”، وغيرها، لكانت هذه النماذج فرصة لتُقربنا من صورة العميد في الجامعة وفي الوزارة وتُضفي على الكتاب جوًّا أدبيًّا يُناسب الحديث عن عميد الأدب.
وفي كتاب محمد شعير “البدايات والنهايات” لفتةٌ مهمة عن موعد كتابة طه حسين سيرتَه “الأيام”.. فقد كتبها في لحظة الهجوم عليه بسبب كتابه “في الشعر الجاهلي”.. سكت العميد مُرغمًا مع قوة الهجوم عليه، وانتظر أن ينتهي الموسم الدراسي ليسافر إلى فرنسا، حتى يكون بعيدًا عن مواطن الاستفزاز، ولكنه رغم ذلك هاجم الأزهر وشيوخه، وأحدث المقال ضجة كبرى، فأعاد أصدقاء طه حسين تذكيره بنصيحة الصمت، فقرر أن يُسلّي وقته بكتابة شيء بعيد عن الشعر الجاهلي والأزهر والدين.
وفي مدينة الجن والملائكة، باريس، يكتب طه حسين قصة حياته وهو في حالة تحدٍّ مع المجتمع بعد استفزازه إياه بكتابه عن الشهر الجاهلي، ويسجل العميد سيرته كأنها رسالة مشفّرة عن صموده.. نشرها عام 1926م، “كي يشرح صلة جوهرية بين كتبه وحياته” كما يقول فيليب لوجان… يقول فيصل دراج في كتاب محمد شعير: “أراد العميد من خلال سيرته، الأيام، أن يختبئ في براءة الطفولة من تعقيدات معارك النخبة وحساباتها، أراد أن يذكر نفسه بأسطورته الخاصة، بأن صبيًّا واجه كل هذه الظروف لا يمكن أن يخضع لابتزاز، أو أن يتراجع تحت ضغوط مهاجميه، أراد سرد معاناته وسنوات شقائه، أن يبرهن -كما يقول فيصل دراج- على أن الأزمة كما جاء ردُّه عليها، (وجه من وجوه حياته لا جديد فيها)، وكان من بين المنتظرين لهذه السيرة طالبٌ يدرس في المدرسة الثانوية، يكتب الشعر أحيانًا، والقصة أحيانًا أخرى، وجد في الأيام مبتغاه.. وكان اسمه نجيب محفوظ”.
وفي حوار مع الأستاذ نجيب محفوظ، سأله أحدهم عن جانب شخصي في طه حسين لا نعرفه عنه، فقال: “لم أكن من تلاميذ طه حسين، ولكني عرفت تلاميذه، كان الدكتور طه يطوف بتلاميذه المصالح الحكومية ليبحث لهم عن وظائف وأعمال”.
طه حسين والحنين إلى الأزهر
في الختام أود رسم صورة لطه حسين عبَّر عنها في أحد مقالاته، فبعد عشرين عامًا من ترك الأزهر عاد إليه طه حسين وحكى عن الصمت الذي حلَّ بالمسجد، وأحب الاستشهاد بمقالته حتى تكتمل صورة طه وتكتمل صورة الأزهر التي ذمَّها في مذكراته، يقول طه حسين: “وكان الأمد بين الأزهر وبيني قد طال.. فما أذكر أني دخلته منذ بضع عشرة سنة، وما أذكر أني طوفت فيه منذ أكثر من عشرين عامًا، ولكني حملت في نفسي دائمًا للأزهر صورة حية قوية، شديدة الحركة عظيمة النشاط، رائعة الدويّ عسيرة التحليل… قال أصحابي، وكلهم مثلي أبناء الأزهر الذين بعُد عهدهم به وطال فراقهم له: وما يمنعنا أن نختم رمضان بزيارة قصيرة للأزهر نحيي بها العهد القديم، ونذكر بها أيام الشباب.. قلت وإني في ذلك لراغب، وإني إلى ذلك لمشوق”.
ثم يكمل طه حسين القصة، فيقول: “ومضينا إلى الأزهر ونحن نقدّر أن سنجد فيه تلك الصورة التي ألفناها، وأن سنسمع فيه ذلك الدويَّ الذي عرفناه، وأن سنختلط به اختلاطًا، ونمتزج به امتزاجًا، ونقف فيه كما كنا نفعل أيام الشباب وقفاتٍ فيها الجد الخصب، وفيها هزل يشوبه الحب والعطف.. نتنقل بين هذه الحلقات المنبثة في أرجائه نسمع لهذا الشيخ وهو يقرأ الحديث أو التفسير أو يقص قصص الوعاظ، فيعجبنا صوته وإلقاؤه وفهمه وإفهامه، فنعجب به ونبسم له؛ ونتجاوزه إلى ذلك الشيخ فيُضحكنا صوته أو إلقاؤه، أو لازمة من لوازمه أو بعض ما يدفع إليه من الخطأ في الفهم أو السخف في الإفهام، فننصرف عنه ضاحكين متفكِّهين، حتى إذا قضينا من هذا كله إربا خرجنا وقد ذكرنا أنفسنا وسعدنا بلقاء تلك الأيام العذاب.. كنا نقدّر هذا كله، فلما دخلنا الأزهر لم نرَ إلا وحشة ولم نحس إلا صمتًا، لم نعرف شيئًا ولا أحدًا، ولم يعرفنا شيء ولا أحد! وإنما كنا أشبه شيء بالأشباح أو الأطياف تمضي في مكان خالٍ مُوحش لا حياة فيه ولا عمران.. وكنا نود لو استطعنا أن نخلو إلى هذه العمد القائمة لنجدد عهدنا بها، ولنبثها ذكرى تلك الأيام، ولنسألها عما ألمَّ بها من الحوادث واختلف عليها من الخطوب منذ فارقناها، ونظفر منها بهذا الصمت الذي هو أفصح من الكلام وأبلغ منه أثرًا في النفوس.. في تلك الغُرف كان يستقر شيخ الأزهر ومفتي الديار. وفي تلك الغرف كانت تُدبَّر أمور الأزهر وتصرف شؤون العلماء والطلاب، وحول تلك الغرف كانت تتطاير طائفة من الأحاديث والأساطير عن حياة الشيوخ وأقوالهم وأعمالهم. وكانت هذه الأحاديث تصل إلينا فنعجب بها ونبسم لها ونلتمس فيها العبرة والفكاهة”.
مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
مع الهمجية ضد التمدن
يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...
0 تعليق