النَّهضوي الأخير: طه حسين وما بعد “الأيام”(1)

بواسطة | مارس 9, 2024

بواسطة | مارس 9, 2024

النَّهضوي الأخير: طه حسين وما بعد “الأيام”(1)

تتناول هذه المقالة معركة الأديب والسياسي المصري طه حسين مع الفرنسيين لتأسيس معاهد ثقافية في شمال إفريقيا. تسلط الضوء على محاولات حسين لنشر الثقافة المصرية في الخارج وتأثيرها على النفوذ الفرنسي في المنطقة، مع توضيح الصراعات والتحديات التي واجهها.

معركة طه حسين مع الفرنسيين – تأسيس المعاهد الثقافية المصرية في شمال إفريقيا

البحث عن السياسي والوزير طه حسين

طه حسين اسمٌ مألوف في مصر، فقد درستُ سيرته “الأيام” في المدرسة، ورأيت حياته على شاشة التليفزيون.. وقصصُ عميد الأدب هي جزء من النقاشات الثقافية في مصر، لذلك لفت انتباهي كتاب “النهضوي الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات في مصر”، فقد شعرت أنه قد يقدم رؤية جديدة لصاحب “الأيام” مختلفة عن سيرته الذاتية.

لذلك سارعت بمطالعة الكتاب، وعند قراءة المقدمة المميزة بقلم المؤلف حسام أحمد، نجد حضور طه حسين في حياته الشخصية، فهو يرى الطبعات الأولى من كتب طه حسين متوفرة في مكتبة جده الراحل، وشاهد حسام أحمد مسلسل طه حسين والفيلم المستمد من حياته.. ففي القاهرة كان حسام يسير مرارا وتَكرارا في شارع يحمل اسم طه حسين، وعندما كان مراهقا قرأ سيرته الذاتية “الأيام”، واسترعى انتباهه عودة اسم طه حسين إلى الحضور بعد الربيع العربي.

لذلك يخوض “حسام أحمد” رحلة بحث في سيرة طه حسين الاجتماعية والسياسية، حتى يكتشف دور طه حسين.. فهو لم يكن كاتبا وأكاديميّا مخضرما فقط، بل كان موظفا حكوميّا كبيرا، وسياسيّا نشطا مرتبطا بأشهر حزب في مصر، هو حزب الوفد. وفي عام 1950، حين كان وزيرًا للمعارف العمومية في حكومة الوفد، أقرَّ مجانية التعليم الثانوي، وهذا واحد من أعظم إنجازاته، كما يخبرنا حسام أحمد في كتابه.

وُلد طه حسين في 15 نوفمبر 1889م في محافظة المنيا بصعيد مصر، وفقد بصره وهو في الثالثة من عمره بسبب الرمد الذي لم يعالَج معالجة صحيحة.

تعرف طه حسين في الأزهر على روائع الأدب العربي على يد الشيخ سيد علي المرصفي، بيد أنه سئِم الأزهر، فكان من أوائل الطلاب الملتحقين بالجامعة المصرية، التي فتحت أبوابها عام 1908م، كما كان أول حاصل على درجة الدكتوراه من الجامعة الجديدة عام 1914م بأطروحة عن الشاعر أبي العلاء المعرّي.. ثم ذهب إلى فرنسا، ومنها حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون، وكتب أطروحته عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون، وفي فرنسا أيضًا تعرف على سوزان بريسو وتزوَّجها، وعاشت معه في مصر إلى وفاتها بعده عام 1989م.

نرى في الكتاب صورة طه حسين الموظف البارع، الذي يقترح المشاريع الثقافية القابلة للتنفيذ في حدود الميزانية، بل إن طه حسين يظهر رجُلًا داهية يناور بين تعقيدات نظام برلماني يقوّضه استمرار الاحتلال البريطاني وتدخلات القصر، ونرى صورة لمصر بين الثورتين، ثورة 1919م و”انقلاب” يوليو 1952م، فيها حياة للبرلمان وصحافة حرة نسبيّا.. وبهاتين، الصحافة والبرلمان، وُجِد فاعلان آخران غير بريطانيا والقصر الملكي.

ومن أهم ما يميز دراسة “النهضوي الأخير” عودته إلى وثائق أرشيفية من دار الوثائق القومية، وجامعة القاهرة ووزارة التعليم المصرية، ووزارة الخارجية الفرنسية، بالإضافة إلى عشرات الدوريات وأوراق طه حسين الخاصة التي حصل عليها من عائلة طه حسين؛ وعاد حسام أحمد إلى أرشيف طه حسين الوظيفي في كلية الآداب، وكذلك أرشيف وزارة التعليم، فضلًا عن أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، الذي يوثق مراسلات مصر معها.

ينبِّهنا حسام أحمد أنه في وسط النقاشات حول طه حسين، تغيب مسيرته السياسية، خصوصا أن طه حسين ظهر في بداية القرن العشرين، إذ شهدت مصر تغييرات كثيرة، من بينها الاستقلال الجديد على البلاد، وإدخال نظام جامعي، وتطور الرواية العربية، وازدهار الصحافة، ونشاط الصالونات الأدبية، ونقاشات حول دور الدين والمرأة والتعليم في المجتمع.

شارك طه حسين في هذه النقاشات، وعايش كل هذه التحولات معايشة مباشرة، ويميل معظم الكتب إلى تصوير طه حسين، إما بطلًا وإما وغْدًا، خصوصا مع تبني الدولة في مصر – بعد خروج الاستعمار- أعمال طه حسين، فهي تعيد نشر كتبه بانتظام وتوزعها على نطاق واسع بأسعار معقولة، حتى تصور نفسها نصيرة لبعض قيم الليبرالية، وتجعل طه حسين من أبطال الدولة ردًّا على المعارضة الإسلامية.

لا يبني الكتاب سيرة لطه حسين تغرق في تمجيده وجعله أسطورة خارقة، بل يبحث عن سياق طه حسين السياسي، خصوصًا أن طه حسين أسرَّ لغالي شكري قبل رحيله بأنه “سيغادر الدنيا بكثير من الألم وقليل من الأمل”.

هكذا يقرأ حسام أحمد قصة طه حسين بوصفها قصة مأساة، لا رواية رومانسية، فقد بدأت قصة طه حسين بطموح عالٍ بشأن دور الجامعة المصرية، وانتهت بخفوت دوره في مصر بعد انقلاب 23 يوليو 1952م.

عبد الفتاح كيليطو: بعد طه حسين لم يعد هناك أبطالٌ

في طفولة الناقد عبد الفتاح كيليطو، وهو تلميذ في الرباط، كان يتردد على المركز الثقافي المصري، ولربما قرأ كل ما ضمَّت خزانته من كتب، لكن اللقاء الحاسم في تكوينه ارتكز أساسًا على مؤلِّفين اثنين، أحدهما شاعر والثاني ناقد؛ الشاعر هو محمود سامي البارودي، والناقد هو بطلنا طه حسين.. كيليطو يصف طه حسين بأنه: “كاتبٌ مهووسٌ بالقارئ عندما يشرع في الكتابة، يضعه دائمًا نصب عينيه – إن جاز القول- فيعقد معه حوارًا وُديًّا لا نهائيًّا”.

قرأ كيليطو “الأيام” بطبيعة الحال، لكنه لا يتذكر منها إلا ما يتعلق بمُعلّم لم يكن قادرًا على النطق بحرف القاف، فكان يقع في هفوات لسانية غير متوقعة، وأحيانا بذيئة.. المفاجأة الكبرى بالنسبة لكيليطو كانت دراسات طه حسين النقدية، فقد قرأ كيليطو معظمها بحماس عارم.

يقول عبد الفتاح كيليطو: “إن لديَّ انجذابا شديدا إلى طه حسين.. وأنا مدين لهذا الرجل بالإحاطة علمًا بأن أي شيء وكل موضوع قابل للمطارحة؛ لم يكن طه حسين يهادن أحدا، كانت الأساطير والأصنام قبله محتفظة بتماسُكها وصلابتها، وكان يكشف تهافُتَها بمعنى من المعاني. لم يبقَ بعد طه حسين أي شيء قابلٍ للإعجاب، لم يعد مزيد من الأبطال، كان يساورني انطباعٌ وأنا أقرأ طه حسين بأنني أكتسب ذكاءً وألمعية”.

وفي كتابه “بحِبر خفيٍّ” يقول: “فما حال الأدب العربي الحديث؟ إنه بدوره في نظر طه حسين في مرتبة ثانية، ثانوية، بالنسبة للأدب الأوروبي، النموذج الفاتن الذي لا مندوحة من محاكاته والنسج على منواله. يبدو المؤلفون العرب حينئذ في نظر طه حسين تلامذة يوفّقون أو يفشلون بقدر قربهم من – أو بُعدهم عن- أساتذتهم الأوروبيين… لن يتسنَّى إنقاذ الأدب العربي إلا بالإقبال على الأدب الأوروبي والانصهار فيه. مستقبل الثقافة المصرية، والعربية عمومًا، هو تشرُّب أوروبا والاقتداء بها”.

يقول كيليطو: “ماذا تعلَّمت من طه حسين؟ أن الأدب العربي في مرتبة ثانية.. لقد كان مقتنعا بذلك، بل كان ذلك موضوعه الأثير، شغله الأساس، وسر الشعور بالدونية والمرارة التي نلمسها عنده بين الفينة والأخرى. توصَّل إلى هذه النتيجة عندما قارن الأدب العربي باليوناني، واللاتيني، والفارسي.. رأى نفسه ملزمًا أن يُقرَّ بأن المرتبة الأولى من نصيب الأدب اليوناني؛ أما الأدبان الآخران فصفَّى حسابهما وحسم أمرهما بقوله إن اللاتيني ما هو إلا نسخة من اليوناني، والفارسي مجرد انعكاس للعربي”.

يُكمل كيليطو رسم علاقته بطه حسين بقوله: “كان هذا الارتسام الذي خرجتُ به حين قرأتُ طه حسين وأنا في سن الخامسة عشرة، لم أعد إليه من جديد، ومن الراجح أن قراءتي له اليوم ستكون مختلفة.. أغلب الظن أنني لن أفعل، فلقد وطدت العزم ألا أعود إلى قراءات الصِّبا، لأنني حين أفعل، كثيرا ما أُصاب بخيبة أمل شديدة، فأتنكَّر للمؤلفين الذين كانوا يثيرون فضولي المعرفي، ما قد يعرضني إلى التنكر لنفسي والتقليل من شأنها”.

طه حسين: معهد فاروق الأول للدراسات الإسلامية في مدريد

رأينا الصورة التي يقدمها الناقد عبد الفتاح كيليطو عن طه حسين الفرانكفوني، وفي كتاب حسام أحمد “النهضوي الأخير” صورة مختلفة لطه حسين، ففي ذروة حياته المهنية، رأى طه حسين أن نقل مكانة مصر العلمية وتأثيرها الثقافي إلى مستوى إقليمي جزء لا يتجزأ مما سمَّاه واجب مصر.

حين تولى طه حسين وزارة المعارف العمومية في عام 1950م، جعل افتتاح معهد مدريد أولوية، وأبلغ وزارة المالية بانتهاء جميع الدراسات اللازمة لإنشاء المعهد، ثم طلب ثلاثين ألف جنيه مصري لمعهد مدريد ومعهد آخر ينوي افتتاحه في طنجة.. توفَّر المبلغ واستُخدم في الإيجار والمفروشات والرواتب وغيرها من المصاريف.

يحكي حسام أحمد في كتابه أنه في السابع من نوفمبر 1950م وصل طه حسين، وزير المعارف المصري، إلى مدريد في رحلة رسمية تستغرق ستة أيام إلى إسبانيا. كان في انتظار حسين وزوجته سوزان في محطة القطار وزير التعليم الإسباني، ونواب وزيري الخارجية والتعليم الإسبان، والمستعرب الإسباني إيميليو جارسيا جوميز (تلميذ طه حسين القديم وسفير المستقبل) وطلاب البعثة الدراسية المصرية في إسبانيا، وأعضاء السلك الدبلوماسي المصري. ركزت الصحف الإسبانية المهتمة بالزيارة على إنجازات حُسين الأدبية وسبب زيارته.. افتتاح معهد فاروق الأول للدراسات الإسلامية في مدريد.

في تقريره السري للقاهرة، وصف السفير المصري محمد حسني عمر الحدث بأنه “انتصار كبير للدبلوماسية الثقافية المصرية”.

قدم غارثيا غوميث طه حسين باللغتين الإسبانية والفرنسية، وألقى حسين محاضرة بعنوان “النثر الأدبي في الشرق والغرب الإسلامي”، قارن فيها بين “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعرّي و”رسالة التوابع والزوابع” لأبي عامر أحمد الأندلسي؛ ثم منحه الوزير الإسباني ميدالية الأكاديمية وعيَّنه عضوا زائرا، كما منحته الحكومة الإسبانية درجة الدكتوراه الفخرية تقديرا “لمواهبه الاستثنائية”.

دفع طه حسين بهذه الأجندة الإقليمية إلى الأمام، لا سيما بين دول البحر المتوسط.. فقد أنشأ معهد فاروق الأول للدراسات الإسلامية في مدريد، وكرسيَّ محمد علي الكبير للغة العربية وآدابها في نيس، وكرسيًّا مماثلًا للغة العربية في جامعة أثينا. وعندما حاول إنشاء معاهد مصرية للدراسات العربية والإسلامية في طنجة والرباط وتونس والجزائر، تصادم حسين وجها لوجه مع السلطات الفرنسية التي كانت تخشى وتعارض أي وجود مصري رسمي في شمال إفريقيا.

بعد شهرين، في مايو 1951م، رفعت السكرتارية الخاصة بالملك فاروق تقريرا من طه حسين إلى الملك، اقترح فيه إنشاء معهد فاروق الأول للدراسات العربية في إسطنبول؛ إذ نقل طه حسين إلى فاروق دعوة تركية رسمية لمصر كي تُنشئ معهدا في تركيا، لكن الملك فاروق، الذي لم يكن على علاقة جيدة مع طه حسين، واتهمه مرارا بأنه “شيوعي”، رفض الطلب.. إذ ذكر تعليقٌ باللون الأحمر على الملف أنه “لا حاجة إلى إنشاء معهد في إسطنبول”، دون تقديم تفاصيل.

بعد فشل مسعاه لإشراك فاروق في مشروعه الطموح لإنشاء أكبر عدد ممكن من المراكز الثقافية المصرية في الخارج، وجَّه طه حسين طلبه التالي بإنشاء مركز في لندن إلى مجلس الوزراء مباشرة في سبتمبر 1951م، لكن المشروع فشل أيضا، وظلَّ يكشف كثيرا من خطط طه حسين لنشر القوة الناعمة لمصر عبر المعاهد.

معركة فتح معاهد مصرية في شمال إفريقيا

من الأشياء المميزة في كتاب “النهضوي الأخير”، ذِكْرٌ لتفاصيل معركة طه حسين مع فرنسا حول فتح معاهد في شمال إفريقيا، لأن هذا الصراع لم يُذكر إلا بشكل عابر في عدد قليل من المصادر الثانوية، صراعٌ وصل إلى أن يعلِّق طه حُسين عمل البعثات الأثرية الفرنسية في مصر، ويهدد باتخاذ إجراءات جادة ضد المؤسسات الثقافية الفرنسية القديمة في البلاد، ما يهدِّد بصورة غير مسبوقة النفوذ الفرنسي في مصر.

يكشف كتاب “النهضوي الأخير” عن دور التعددية الحزبية في مصر الملكية، فلم يلعب البريطانيون أيَّ دور في هذا الصراع مع فرنسا، وغاب عنه الملك فاروق إلى حدٍّ كبير. درس الفرنسيون طلب تدخل الملك لإلغاء إجراءات طه حُسين، لكنهم أدركوا في النهاية أن علاقة فاروق بحكومة الوفد الشعبية متوترة، ولا تسمح بأي تدخل من جانبه لصالحهم.

مع ضغوط طه حسين لقبول إنشاء معاهد ثقافية في شمال إفريقيا، أخذت السلطات الفرنسية في الاعتبار أنه كان عضوا في حكومة شعبية منتخبة، تابعوا مؤتمراته الصحفية عن قرب، وخشوا أن تُقَلِّب تصريحاته المؤثرة الرأي العام ضدهم، خصوصا أن عديدا من المجلات والدوريات المصرية وجدت طريقها إلى شمال إفريقيا الخاضعة للسيطرة الفرنسية، دون إذن السلطات الفرنسية في الغالب.. وبدلا من المواجهة المباشرة، ماطلت الحكومة الفرنسية في تلبية مطالب طه حسين، على أمل انتخاب حكومة أقل قومية يكون اهتمامها بالمعاهد الثقافية أضعف.

يُظهر حسام أحمد أن طه حسين كان شديد الوعي بالطبيعة السياسية للمعاهد التي كان يحاول تأسيسها، وبمناهضة الاستعمار باعتباره هدفا بعيدا لهذه المعاهد. بناءً على ذلك، يوضح كتاب “النهضوي الأخير” أنه في الأشهر السابقة لذلك، تواصل طه حسين مع السلطات الفرنسية في باريس حول إنشاء معهد فاروق الأول للدراسات الإسلامية في شمال إفريقيا، وألمح إلى المسؤولين الفرنسيين بأنه في حالة رفض فرنسا، فإن مصر سترُد بالمثل وتُغلق المعهد الفرنسي للآثار الشرقية (IFAO) في القاهرة.

كما كتب إلى الملك فاروق يطلب دعمه في حال اضطر إلى جعل التهديد رسميًّا، لكن المصادر الفرنسية تُظهر معارضة فاروق اتخاذ أي إجراءات ضد المصالح الفرنسية في مصر.. إذ عارض الملك فكرة وزيره وكتب له: “ما زالت البرودة تغلّف العلاقات بين مصر وفرنسا.. لنؤجلْ هذا حتى يتضح الموقف!”.

لم تكن المخاوف الفرنسية بشأن النفوذ المصري في شمال إفريقيا جديدة، فقد رفض الفرنسيون أي وجود رسمي مصري في شمال إفريقيا، ولم يبدوا حساسيتهم لزيارات المثقفين والمُعلمين المصريين فحسب، بل فتَّشوا أيضًا المطبوعات والأفلام والعروض المسرحية المصرية الموزَّعة في المغرب بدقة.

طلبت فرنسا أن يُسمح فقط للعلماء المصريين، على أن تُرفض الشخصيات المصرية السياسية، أو الأدباء أو فقهاء الدين أو الفلاسفة، ورأت فرنسا أن التعاون العلمي المسموح به فقط هو العلماء، دون تدخل أي نزعة إلى السياسة أو الميول الفكرية، وقد قال مدير التعليم في المغرب: “أما أنا، فلن أسمح بوجود أي مصري هنا إلا على مضض، لكن إذا كان لا بد من ذلك، فأنا أفضّل العلماء”.

يوضح هذا الفصل المهم من كتاب حسام أحمد وجود تقارير سرية يرفعها موظفو السفارات والخارجية الفرنسية مرسلة إلى الوزارة، لاقتراح أفضل الطرق للتعامل مع طه حسين، مثل تقارير شارل لوسيه، القائم بالأعمال الفرنسي في مصر، وتقرير من المقيم العام الفرنسي في تونس إلى وزير الخارجية الفرنسي، ومع ملفه تقرير استخباراتي من صفحتين عن زيارة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، الفقيه التونسي الشهير، إلى القاهرة.

ويبيّن هذا التقرير الاستخباري إلى أي مدى كانت السلطات الفرنسية تتابع تحركات الشيخ ابن عاشور، مبعوث الزيتونة في القاهرة، والأهم من ذلك شعور الفرنسيين أن القاهرة مصدر للمتاعب السياسية، إذ التقى ابن عاشور مع الشيخ محمد الخضر حسين، وأعلن ابن عاشور أن القاهرة وافقت على إرسال ثلاثة أساتذة مصريين إلى تونس، لكن وزير الخارجية الفرنسية شعر بالذعر وطلب من المقيم العامّ الفرنسي تأجيل إصدار التأشيرات للأساتذة المصريين.

عرفت فرنسا أن طه حسين لن يردعه شيء عن تنفيذ مشروعه، فوضعت العراقيل أمام المعهد المصري؛ وفي النهاية اتخذ طه حسين ما سمَّاه السفير الفرنسي إجراءات صادمة ضد الحفريات الفرنسية في مصر، فقد علَّق جميع تصاريح العمل  الممنوحة للبعثات الفرنسية في مصر، ورفض غالبية التأشيرات لشخصيات فرنسية قادمة إلى القاهرة، بل إنه قال لصحيفة “الأهرام” إنه إذا استمرت فرنسا في موقفها، فسأتبنَّى موقفًا مماثلًا تجاه المعهد الفرنسي بالقاهرة، والمعلمين الفرنسيين في مصر، لكن بعد “انقلاب” يوليو وخروج طه حسين قبلها من وزارة المعارف، قررت وزارة الخارجية الفرنسية الصمت عن هذه القضية، لأن مَن فكروا في إنشاء المعهد الثقافي المصري في شمال إفريقيا لم يعودوا في السلطة.

يوضح حسام أحمد في شرحه تفاصيل هذه المعركة، وكيف اصطدم طه حسين مع السلطات الفرنسية في شمال إفريقيا قبل عدة سنوات من خطاب جمال عبد الناصر العروبي، فكانت فرنسا تخاف أن تقوّض المعاهد الثقافية المصرية سيطرتها على المغرب العربي، لذا طالبت بتحويل التعاون إلى العلوم بعيدًا عن السياسة والفكر.

تظهر هذه المعركة لتوضيح جانب من شخصية طه حسين السياسية، بعيدا عن شخصية الأديب والأكاديمي، وهذا يضعنا أمام سؤال: هل كان طه حسين مولعا بفرنسا والغرب؟ أم أدرك أنه أمام مشروع يجب أن يقاومه بالمعاهد وبالتعليم؟

في الحلقة القادمة نشرح مرحلة أفول طه حسين بعد “انقلاب” يوليو عام 1952م، وعلاقته بعبد الناصر كما شرحها كتاب “النهضوي الأخير”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...