الوطن بين غزة والأصدقاء
بقلم: إبراهيم عبد المجيد
| 17 أكتوبر, 2023
مقالات مشابهة
-
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً...
-
سوريا وثورة نصف قرن
سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي...
-
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع...
-
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!
فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها...
-
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر...
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
مقالات منوعة
بقلم: إبراهيم عبد المجيد
| 17 أكتوبر, 2023
الوطن بين غزة والأصدقاء
لم يكن لشيء أن يشغلني عن متابعة الأحداث الجارية على أرض غزة، فأشهد كيف أقامت إسرائيل محرقة وإبادة جماعية للفلطسينيين، تعويضا لها ولليهود الذين حرقتهم وأبادتهم أوربا عبر التاريخ!. وكيف تقف معها أميركا ودول أوروبية فتكت باليهود عبر التاريخ، كأنما ليفتك اليهود بالفلسطينيين، فتعطي هذه الدول اليهود تبريرا لفعلهم لاسترضائهم في محاولة للتكفير عن ذنوبها البشعة في حق اليهود.. معادلة مغلوطة يطول فيها الحديث، تكشف عورة من صدّعوا عقولنا بشعارات الحرية والإخاء والمساواة.
لم يكن ممكنا أن أبعد عن ذلك في مقالاتي أو تغريداتي على السوشيال ميديا، فليس لمثلي غير ذلك؛ لكن فجأة فقدت منذ يومين صديقا أعاد لي ذاكرة الزمن، وكان هو الثاني بعد صديق آخر فقدته منذ أسبوع، وقبلهما فقدت اثنين أيضا منذ سنوات؛ كان الأربعة هم أجمل من قابلت في حياتي، عشنا معا في الإسكندرية لقاءات كانت أصوات ضحكنا فيها تصل إلى السماء، كان لقاؤنا مثل العودة إلى الوطن.. كانوا رغم ظروفهم الجيدة في الحياة غير متوافقين مع سياسة الدولة منذ أيام السادات، لايعملون بالسياسة، لكنهم يحولون كل ما يراه النظام جيدا إلى كوميديا ومسخرة، فلا ينقطع ضحكنا لأنه كان كذلك بالفعل. كانوا مادة لروايتي “بيت الياسمين” التي نشرتها عام 1986 وهي رواية عن المظاهرات التي كانت تخرج أيام السادات احتفالا به في الإسكندرية وغيرها، وكيف كانت مدفوعة الأجر.. لم يكن ذلك جديدا، فهو من أيام عبد الناصر، لكن كثيرين كانوا يحبون عبد الناصر ويخرجون لاستقباله دون نقود؛ الأمر اختلف مع السادات، وكانت المصانع والشركات هي التي تدفع للعمال.
أصدقاء العمر الأربعة كان أحدهم “سعيد وهبة” فصار هو “شجرة محمد علي” بطل الرواية، والثاني كان اسمه محمد أبو سلامة فصار هو “عبد السلام”، وهذان اللذان رحلا عن الدنيا منذ سنوات؛ الثالث هو الدكتور “مجدي شحاتة” فصار “ماجد” وهو الذي افتقدته منذ أسبوع، والرابع هو “حسين اللنش” فصار اسمه “حسنين” وهو الذي افتقدته أخيرا.. كنا نمضي سهراتنا في الأعياد والموالد حول مسجد المرسي أبو العباس، وليالينا العادية في منطقة الدخيلة بعد منطقة المكس، ونقضي نهارنا على شاطئ البيطاش بالعجمي، ويالها من ذكريات تضيء الليل ويشرق بها النهار.. كل ما قالوه أو فعلوه، أو أغلبه، تسلل إلى رواياتى الأخرى مثل رواية “أداجيو” أو رواية “السايكلوب”، سواء أكان نكتاً يطلقونها أو حكايات يحكونها عن الناس حولهم أو أفعال يقومون بها.
أسترجع ماكتبته كأني أسمعه منهم الآن، وأحاول أن أضحك لكن تسبقني دموعي، كانوا هم المصدر لمشاهد كاملة وشخصيات في رواياتي، وكم كانوا يسعدون حين يقرؤون الرواية، ويندفعون أكثر في الخيال.. مرة واحدة لامني سعيد وهبة وهو مبتسم لأني غيرت اسمه إلى “شجرة محمد علي”، قال لي: “لماذا غيرت اسمي يا إبراهيم؟ الرواية تمت ترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية فلماذا لم تتركه كما هو؟ كنت اشتهرت، وجاؤوا من أوربا وأخذوا أولادي للعمل هناك، بدلا من السفر والمغامرة في الهروب بالبحر”، وضحكنا.. قلت له: لقد حكيت لي أنت حكاية موظف الشركة التي تُخرج العمال بأجر لمقابلة السادات لكنك لم تفعلها، استوحيت شكلك وطولك وطريقتك في الكلام، ولو كتبت اسمك للامك الناس وأنت أصلا بريء.. عشر سنوات يخرج “شجرة محمد علي” في رواية “بيت الياسمين” بالعمال لمقابلة السادات، ثم في الطريق يعطيهم نصف الأجر ويطلب منهم أن لا يحضروا المظاهرة ويعودوا إلى بيوتهم، ويفوز هو بالباقي من أجر الجميع، حتى استطاع بعد هذه السنوات، وهي مدة حكم السادات، أن يشتري شقة ويتزوج.. ضحكنا.
أما حسين الذي توفي أخيرا، فآخر ما قاله لي منذ ثلاث سنوات، إذ لم أعد أسافر إلى الإسكندرية بسبب التعب الصحي والحزن على ماجرى للمدينة، إنني استوحيت الفيلا التي كان يسكنها وغادرها لتسلل المياه الجوفية التي لا تنقطع في العجمي إليها، وكيف فشل في منع ذلك، وجعلتها الفيلا التي تسكنها البطلة وزوجها.. كان ذلك حقيقة، لكنه تحول في الرواية إلى شيء آخر، هو حزن الجدران على بطلة الرواية العازفة للبيانو، وهي تمضي أيامها الأخيرة في عناية زوجها قبل أن ترحل بسبب السرطان اللعين؛ لذلك ما إن ماتت وحملوا جثتها حتى تهاوت الفيلا حزنا على من كانت تملؤها بالعزف والموسيقي والفرح.
أشياء كثيرة يمكن أن أحكيها في رواياتي كانوا هم الأربعة مصدرها، حتى كثير من النكات العجيبة التي تطلقها بعض شخصيات الرواية، أعرف أن الأحداث حولي ستأخذني من الحزن الخاص، وستدخلني في حزن آخر على أهلنا في غزة، يؤججه تواطؤ العالم القذر مع إسرائيل على الإبادة الجماعية لشعب يعرف معنى الوطن، لم يغتصب بلدا آخر ليقيم فيه مستعمراته أو مدنه؛ لكني أنظر وأتذكر روايتي أو رواية أصدقائي الراحلين “بيت الياسمين” وحكاية المظاهرات الممولة أيام السادات، وأنا أرى الذين يجمعونهم من الفقراء لعمل توكيلات للرئيس نظير مائة جنيه أو كرتونة طعام.. لم يتغير الأمر، بل ازداد سوءا لأن الميديا الآن لا ترحم، ولا شيء يحتاج لأحد لينقله إليه شفاهة، بل ينقله البلوجرز واليوتيوبرز في اللحظة نفسها، ويصبح الأمر لكبار السن مثلي سؤالا: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ ونحن منذ 1952 وانقلاب يوليو على الملكية نسمع عن دولة أخرى ستكون أجمل، وعن جمهورية جديدة توفر العدل والحق والمساواة، صعب على من هم مثلي تحمل ذلك.. أخذتني عن مصر أحداث غزة لكن موت صديقي الأخير “حسين اللنش” أعاد لي الماضي والحاضر كله.
إلى أين سيصل بنا الحال يا إبراهيم؟. لابد أن تتمسك بالأمل، فما يجري في غزة من إبادة جماعية لشعبها، الذي هو نحن وإن بأسماء أخرى، والصمود العظيم للفلسطينيين، سيجعل الأيام القادمة عالما مختلفا؛ لقد حفرت إسرائيل قبرها بيدها، ونهايتها قادمة مهما طال الزمن، وكذلك يفعل كل من ساندها وساند الحركة الصهيونية وهم لايدرون.. كم من السنين مرّت على الإبادات الجماعية للفلسطينيين والمذابح التى ارتكبتها بحقهم إسرائيل، ولا يزال الفلسطينيون يبهرون العالم بقوتهم من الحجارة إلى الصواريخ إلى الطائرات المسيرة.. أجل نحن ندخل الآن تاريخا جديدا لن تكون فيه إسرائيل هي المهيمنة على ما حولها، وسينهار المجمتع الإسرائيلي من داخله كلما ارتفعت أعداد الضحايا من أهل غزة، وسنرى حين تستقر الأحوال طوابير الهجرة المعاكسة للإسرائيليين من إسرائيل إلى حيث جاؤوا من قبل.. لقد شق الفلسطينيون بصمودهم وصبرهم وتضحياتهم قلب هذه الدولة المسماة “إسرائيل”، التي قامت على الطغيان والأكاذيب.
وفي النهاية، وأنا أترحم على جميع الشهداء، أترحم على أصدقائي الأربعة، مصدر إلهامي الذي أضاء رواياتي بالوقائع الغريبة والخيال الواسع؛ لقد كنا نلتقي حقا كأننا عائدون إلى الوطن، ورغم موتهم أقاموا حولي وطنا من الذكريات، والآن سيقيم لنا أهل فلسطين الوطن الذي اشتقنا إليه جميعا مهما طال الزمن.. وطنا بلا طواغيت ولا احتلال .
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!
أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...
سوريا وثورة نصف قرن
سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...
0 تعليق