انقلاب النيجر بين مسارح الجنود ومصالح الجيران

بواسطة | أغسطس 21, 2023

بواسطة | أغسطس 21, 2023

انقلاب النيجر بين مسارح الجنود ومصالح الجيران

تبدأ المشكلات عادة عندما ينحرف العساكر عن مسارهم الخاص بمهمات حفظ الحدود، وصد الأخطار الخارجية، ليتحولوا إلى ممارسة نزوة السلطة السياسية الداخلية، والاستيلاء على مقاليد الحكم، لبسط سلطانهم على البلاد؛ على عكس الديمقراطيات المستقرة في أنحاء العالم. وقد غدت أخبار استيلاء الجنرالات على السلطة في نواحي القارة السمراء، من الأخبار المألوفة أفريقيا ودوليا.
كانت النيجر آخر مسارح هذه الانقلابات، إذ شهدت الانقلاب الخامس في تاريخها أواخر الشهر الماضي، في 26 يوليو 2023؛ حيث قام الحرس الرئاسي باحتجاز الرئيس محمد بازوم، وأعلن قائده الجنرال عبد الرحمن تشياني نفسَه قائدا للمجلس العسكري الجديد، وأغلقت قواته حدود البلاد، وعلقت مؤسسات الدولة، وسدّت مداخل الوزارات، وأعلنت حظر التجول في الطرقات والمدن.
ومع كون النيجر دولة حبيسة في أفريقيا، فإن أحداثها امتدت آثارها وعواقبها لتطال الجيران، وتستحوذ على اهتمام دولي، لا من أجل مصالح الشعب المرهق غالبا، وإنما لتصفية حسابات الدول العظمى، شرقا وشمالا وغربا، وتنادت البيانات الناطقة بالروسية، والفرنسية، والإنجليزية، والعربية، كلٌ بما يرى فيه مصلحته أولا.
التساؤل الأبرز الآن، لدى دول الجوار السبعة، هو عن تأثير هذا الانقلاب على محيطيها، الداخلي والحدودي، وأبرز المتسائلين عربيا هما الجارتان، الجزائر وليبيا.
الجزائر
كانت الجزائر أكثر اهتماما بالحدث، ولا يكاد يمر يوم، إلا وفيه تصريح رئاسي أو وزاري؛ وكان أول بيان لوزارة خارجيتها عقب ساعات من الانقلاب، هو: تمسّك الجزائر بـ “المبادئ الأساسية التي توجه العمل الجماعي للدول، داخل الاتحاد الأفريقي، بما في ذلك على وجه الخصوص، الرفض القاطع للتغييرات غير الدستورية للحكومات”. ودعت إلى التمسك الصارم بضرورة العودة إلى النظام الدستوري، وإعادة بازوم لمنصبه، رئيسا شرعيا منتخبا للبلاد، عبر مسار سلمي تماما، كما رفضت باستماتة التدخل العسكري الخارجي، إذ تراه الجزائر بابا لا يُغلق من المتاعب.
ويعد هذا السياق، متناغما مع مصالح الجزائر المتقاطعة مع النيجر، خاصة في ملف الهجرة غير الشرعية، حيث تُعد النيجر -التي تشترك مع الجزائر بحوالي 1000 كم من الحدود-، بوابة جنوبية لآلاف المهاجرين غير النظاميين من أعماق أفريقيا، إذ كشف تقرير صادر عن الأمم المتحدة والمنظمة الدولية للهجرة، نُشر نهاية شهر حزيران/ يونيو، أنه منذ بداية العام الحالي وصل أكثر من 9000 مهاجر من 12 دولة أفريقية إلى شمال النيجر، بعد ترحيلهم من الجزائر على إثر المذكرة الموقعة بينهما في 2021 بموجب التعاون الأمني، وتنسيق عمليات محاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود.
موازاة مع هذا الممر البشري، تُشكل النيجر ممرا اقتصاديا مهما للجزائر، لتعزيز صادراتها نحو قلب أفريقيا، ذهابا عبر الطريق الصحراوي، الذي يربط الجزائر بنيجيريا عبر النيجر بالموازاة مع خط للألياف البصرية، وإيابا عبر أنبوب لنقل غاز نيجيريا إلى أوروبا، والذي يزيد طوله على 4000 كم.
ثمة مصلحة أخرى مهددة للجزائر، في حقل “كفرا” النفطي شمالي البلاد، والذي وقعت بشأنه الجزائر مع وزارة الطاقة في النيجر اتفاقا لتقاسم الإنتاج، الذي تُقدر احتياطاته بنحو 400 مليون برميل، ولن تستغني عنه الجزائر مقابل مغامرة عسكرية.
لا تزال الرغبة الجزائرية إذاً، تدفع إلى مسار تفاوضي بين السلطة الشرعية والانقلابيين، غير أن التحدي الأبرز الآن أمام الجزائر، هو ما أعلنه مؤخرا مفوض الشؤون السياسية والسلم والأمن في “إيكواس”، بالاتفاق على خطة للتدخل العسكري، مع إقرار اليوم الموعود له. وهو تلويح مقلق للجزائر، إذ إن التهديد بالتدخل العسكري الخارجي، والتحول إلى حرب أهلية داخلية أو إقليمية، يعني نسف استقرار النيجر وإقليم الساحل، ما يزيد من الأعباء الأمنية على القوات المسلحة الجزائرية، على طول حدودها الجنوبية المشتركة مع مالي والنيجر وليبيا، والذي سيفرز برأيها اضطرابات تُعرف بدايتها، لكن نهاياتها تبقى مجهولة وأليمة.
ليبيا
رغم قصر حدود ليبيا مع النيجر، مقارنة بالجزائر (354 كم)، فإنها لم تغرد خارج السرب الجزائري كثيرا، وجاءت المواقف والتصريحات الرسمية متوائمة معها، حيث أبدى الرئيس السابق لحكومة الوحدة الليبية، عبد الحميد الدبيبة، قلقه مما يجري في جارة بلاده الجنوبية، دون إصدار أي قرار عسكري -حتى الآن-.
اقتصاديا؛ لا يبدو أي تأثر ليبي يلوح من الأحداث، إذ لا وجود لتبادل تجاري هائل بين البلدين، ولا صفقات مبرمة يُهددها الانقلاب أو الفوضى؛ إنما خشية ليبيا كلها نابعة من التهديد الأمني، والتدهور الإنساني، نتيجة أي عنف أو اقتتال نيجري، خاصة وأن الهجرة غير النظامية وتجارة البشر قد انتعشت في ليبيا، إبان سقوط نظام معمر القذافي في 2011، وتشكل عبئا اجتماعيا ومسؤولية إنسانية على البلاد، لا تتحمل معها أي نزوح جماعي جديد، أو هروب من ويلات الحروب إلى الأراضي الليبية.
لكن الأخطر من ذلك على ليبيا، والذي تتخوف منه، هو عودة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية للنشاط، بعدما تم القضاء على إمارتهم في سرت نهاية 2016، وفرُّوا إلى دول الساحل وحوض بحيرة تشاد، وخاصة نيجيريا، ومن ثمّ فإن أي تدهور للوضع في النيجر، سيكون فرصة سانحة للتنظيمات الإرهابية، لمعاودة النشاط أفريقيّاً على محور “نيجيريا – النيجر- ليبيا” وصولا إلى العراق وسوريا، وهذا ما لن تسمح به ليبيا مجددا.
لا تزال إذاً بندقية العسكر النيجري هي الحاكمة اليوم في العاصمة نيامي، والأيام القادمة حافلة بالمستجدات الداخلية والدولية، لكن تعلمنا من الانقلابات، أن من يستطيع حسم الجولة الأخيرة، هو الأقوى على الطاولة والأبقى على الزناد.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...