اُعذروني على الحكايتين

بقلم: جعفر عباس

| 20 سبتمبر, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: جعفر عباس

| 20 سبتمبر, 2023

اُعذروني على الحكايتين

أستميح القراء العذر، لأنني بصدد سرد بعض تفاصيل حكاية مقززة ومنفرة، وحكاية أخرى “صادمة”، ولعلهم يعذرونني إذا لمسوا فيهما بعض العظات والعبر.
نبدأ بحكاية بنت بريطانية “فلتة”، أحرزت نتائج غير مسبوقة في امتحان الشهادة الثانوية، وتم قبولها في جامعة أوكسفورد، إحدى أشهر الجامعات في العالم، وعمرها آنذاك 13 سنة، اسمها صوفيا وتنحدر من عائلة مهاجرة من جنوب شرق آسيا. بعد مضي عامين على وجودها في الجامعة، اختفت صوفيا عن الأنظار تماما لحين طويل من الزمان، ثم اتصلت بإحدى الصحف لتبلغ والديها أنها بخير، وأنها لا تريد العودة إلى بيت والديها.. لماذا يا بنت الناس، ووالداك هما اللذان جعلا منك متفوقة، ولم يلحقاك بمدرسة، بل كانت أمك تدرسك الرياضيات والفيزياء، ووالدك يدرسك الكيمياء والأحياء؟.
منذ أن بلغت صوفيا الثانية من العمر، عكف والداها على تعليمها القراءة والكتابة، وببلوغها السادسة كانت قد درست نظريات الفيزياء والكيمياء، المقررة لمن يجلسون لامتحان الشهادة الثانوية، ومنذ سن مبكرة حرص أبوها على خوضها أيضا مجال كرة التنس، وقالت صوفيا لاحقا في حديث صحفي، إنه كان يقسو عليها كي تصبح لاعبة تنس استثنائية، “ويا ويلي لو أخطأت في تسديد ضربة”.
ثم فاجأت صوفيا بريطانيا التي هللت لنبوغها، بالظهور وهي في سن الواحدة والعشرين في إعلان في صفحة تحمل اسمها وصورها في الإنترنت، تعرض فيه جسدها للراغبين، ولما أبدى محاور صحفي دهشته من تفضيلها العهر على الدراسة في جامعة أوكسفورد، والعيش في كنف عائلة وهي “مستورة”، تبجحت البنت بأنها صارت تكسب 270 إسترلينيا في الساعة من تجارة الجسد، وقالت إنها تعتبر بيت العائلة جحيما على الأرض، لأن والديها حرماها من طفولتها، ولم يكن مسموحا لها باللعب في الحديقة أو بعروس البلاستيك، وإذا كان لابد من لعب فليكن التنس أو بالكمبيوتر؛ وأضافت أنها وبعد الالتحاق بالجامعة اكتشفت أنها تفتقر إلى المهارات الاجتماعية، التي ينميها الإنسان خلال الحياة المدرسية، وأنها عجزت عن تكوين صداقات مع زميلات الدراسة.
لا عذر لصوفيا في تحولها من مشروع عالم في الرياضيات إلى مومس، وشتان ما بين العالم الذي يقدم علمه لمنفعة البشرية، وعاهرة تقدم جسدها لكل قادر على دفع التسعيرة، على ما في ذلك من ضرر لها ولزبائنها، ولكن من المؤكد أن الوالدين أجرما في حقها بتعليمها الأكاديميات بمنتهى القسوة، دون تعليمها مكارم الأخلاق وقواعد السلوك القويم، لأن علوم الرياضيات والفيزياء لا تعصم من الزلل.
والآن إلى الحكاية الثانية..
وُلد الأمريكي وليام جيمس سيديس عام 1898، في ضاحية منهاتن في نيويورك، وصار يقرأ الصحف قبل أن يبلغ الثانية من العمر، ويكتب الشعر بالفرنسية وهو ابن خمس سنوات، وببلوغ سن الثامنة كان يتكلم ثماني لغات، وخضع لاختبار الذكاء وأحرز 250 من 300 درجة (أحرز عبقري الرياضيات ألبرت آينشتاين 160 درجة في هذا الاختبار)، واجتاز وليام امتحان الشهادة الثانوية وهو في التاسعة، والتحق بجامعة هارفارد، التي لا يدخلها إلا ذو بأس أكاديمي شديد، وتخرج فيها بمرتبة الشرف في الرياضيات وهو ابن 14 سنة.
والدا وليام هذا، يهوديان أوكرانيان هاجرا إلى الولايات المتحدة، ودرس الأب بوريس علم النفس السريري في هارفارد، وصار من أعلام هذا المجال، بينما صارت الأم سارة طبيبة لاسمها “شنّة ورنّة”، وقرر الوالدان أن يبرمجا ولدهما وليام كي يصبح نابغة ليحرق المراحل الأكاديمية وينال أرفع المناصب، وهكذا وعوضا عن أن يغمراه بالحب والحنان والدفء العاطفي، قررا أن يعاملاه كشخص ناضج منذ أن بلغ من العمر خمسة أشهر، بدءا بآدب المائدة، وليس انتهاء بطريقة كلام كبار السن، وشجعتهما حدة ذكاء وليام على تدريسه الرياضيات والعلوم الطبيعية منذ أن بلغ الثانية من العمر، وكان أداء الولد مذهلا، ففي سن الخامسة مثلا كان قادرا على تحديد اليوم لأي تاريخ في التقويم خلال الـ 10 آلاف سنة الماضية، وفي السادسة من العمر كان يتكلم اللغات اللاتينية والإغريقية والروسية والتركية والعبرية والفرنسية بطلاقة، وبموازاة إغراقه في عالم الأكاديميات، حرص والداه على عرضه على الصحف، فكان أن وجد وليام نفسه ضيفا على الصحف والإذاعات وهو صبي.
ورغم أن وليام كان قادرا على حل أي مسألة رياضية دون استخدام الورقة والقلم، فإنه لم يكن حسن السلوك في المدرسة، فنفر منه زملاؤه، واشتكى معلموه من سوء سلوكه؛ ولكن والده بوريس لم يأبه لذلك، لأنه كان يرى أن وليام صار نجما على مستوى القارة الأمريكية، وليس بحاجة إلى شهادة حسن سير وسلوك من مدرسة.
أكمل وليام دراسة الرياضيات في جامعة هارفارد وهو في سن الـ 15، وقال لاحقا إنه قضى أتعس أيام عمره في الجامعة، وبعدها صار محاضرا في الرياضيات في معهد رايس العالي في مدينة هيوستن الأمريكية، ولكنه لم يسعد بتلك التجربة، لأن معظم الطلاب كانوا أكبر منه سنا، ولا يتعاملون معه بجدية، وعندها قرر تطليق الرياضيات والابتعاد عن عالم الأضواء والإعلام؛ ولتلك الغاية قاطع والديه تماما، وكان يقول عنهما إنهما دمراه وحرماه من “نشأة طبيعية”، وصار يحرص على العمل في شركات ومؤسسات صغيرة في وظائف قليلة العائد المالي، وكان يهجر كل وظيفة إذا تعرف عليه أحدهم كشخص “فلتة”، وشيئا فشيئا صار ينفر من الناس عموما، وفي عام 1944 تم العثور عليه ميتا في شقة بائسة في نيويورك.
يتألف المنزل من جدران وسقوف وأبواب ونوافذ، بينما البيت مسكن فيه السكن والسكينة والأُلفة والمحبة، ولهذا نقول إننا “رايحين البيت” وليس المنزل، و”ليت زيدا وعبيدا يشرفانا في البيت”، فالبيت حيث حنان الوالدين وشغب وشقشقة الصغار، وفيه ساعة لربك وساعة لقلبك، والوالدان معلمان ومربيان، ليس بالمعنى الأكاديمي بالضرورة، بل هما من يزرع السلوك القويم ومكارم الأخلاق في العيال، ويتركان للمدرسة معظم أعباء تلقي المعارف، والعاقل من يكون في تنشئة عياله لا لينا فيُعصر ولا يابسا فيُكسر، وفي كل من حالتي صوفيا ووليام عصر الوالدان ولدهما حتى استنزفا طفولته، فلما تمرد الولد على السلطة الأبويّة- الأمِّية تكسر الوالدان من فرط اليبس الذي صار ميسما لشخصيتيهما.

1 تعليق

  1. إبراهيم مصطفى

    جيد

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...