بحيرة ضاعت وبحر مسجون!

بواسطة | يوليو 18, 2023

بواسطة | يوليو 18, 2023

بحيرة ضاعت وبحر مسجون!

أنفقنا صبانا وشبابنا نستمع إلى المطرب الرائع صاحب الصوت الجميل محمد قنديل، وهو يغني “بين شطين ومَيَّة عشقتكم عينيَّ.. ياغاليين عليَّ يا أهل اسكندريّة”. الأغنية كتبها الشاعر محمد علي أحمد، صاحب الأغاني الجميلة، مثل “على قد الشوق” لعبد الحليم و”إن كنت ناسي أفكرك” لهدى سلطان، وغير ذلك كثير رائع؛ وهو نفسه الذي كتب لمحمد قنديل أغنية “يارايحين الغورية هاتوا لحبيبي هدية” عن القاهرة. وقد عشت أرى أنهما أجمل أغنيتين عن المدينتين، رغم أن الإسكندرية حظيت بأغانٍ لفيروز، مثل “شط اسكندرية يا شط الهوا”، وبأغانٍ لكثيرين غير فيروز.
ما الذي كان يقصده محمد علي أحمد بالشاطئين؟. كان يقصد شاطئ بحيرة مريوط جنوب المدينة، وشاطئ البحر الأبيض المتوسط شمالها؛ وبحيرة مريوط كانت تمتد من مدينة العامرية غربا إلى قرية أبيس شرقا، بينما البحر المتوسط يمتد من شرق البلاد إلى غرب أفريقيا حيث المحيط الأطلنطي.

كانت الأغنية معبرة في مطلعها عن المدينة، وتلخصها أجمل تلخيص.. وشيئا فشيئا تغيرت المدينة بإرادة الحكم ورجاله، وبالذات منذ منتصف السبعينات.

شهدت بحيرة مريوط عبر التاريخ هجوما عليها وردم مساحات منها، لكنها ظلت طوال القرن العشرين تمتد على مساحة قد تزيد عن مئتي كيلو متر مربع؛ وقد انتهت كل الهجمات عليها وظلت البحيرة قائمة. وكانت لجيلي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فسحتنا الجميلة لصيد الأسماك بالصنارة، وكتبت عن ذلك كثيرا من القصص القصيرة.. كان حول البحيرة أرض خالية، مزروع بعضها، فكانت أيضا مرتعا جميلا لنا لصيد العصافير بالفخاخ.
وبحيرة مريوط لها وجودها في روايات لورانس داريل عن الإسكندرية، وفي روايات غيره ممن عاشوا في المدينة؛ وكان الموسرون يقطعون رحلة في القوارب لصيد الطيور المهاجرة، التي تعبرها قادمة من الغرب أو من الشمال الغربي؛ وقد ظهرت في أفلام مثل “امرأة في الطريق” و”العار” وغيرها كثير، فكانت حقلا للتصوير السينمائي.
الأمر نفسه كان مع شاطئ البحر المتوسط، وهو بطول الإسكندرية.. كنت تجد الملاهي الليلية على ناحية منه، وقليل من الكازينوهات على الشاطئ نفسه، مثل كازينو الشاطبي وسان جيوفاني وغيرهما؛ وكانت الملاهي الليلية تستقدم فرقا فنية من العالم تعزف الموسيقي وترقص، وتجد مثلا في كتاب مثل “سبعة أيام في سيسيل” لليوناني هاري تزالاس صفحات رائعة عن مطعم وكازينو أتينيوس -وهو على الشاطئ في محطة الرمل- وغيره، ولن أتحدث عن روايات داريل أو شعر كفافيس أو غيرهما، كما لن أتحدث عن نفسي، وما كتبت في رواياتي.. أفلام كثيرة كان يتم تصويرها على الشاطئ، وهي أكثر مما تم تصويره في بحيرة مريوط.
لهذا كله كانت الأغنية معبرة في مطلعها عن المدينة، وتلخصها أجمل تلخيص.. وشيئا فشيئا تغيرت المدينة بإرادة الحكم ورجاله، وبالذات منذ منتصف السبعينات.
سأتوقف عند الشاطئين فقط وأبدأ ببحيرة مريوط، إذ يمكن أن يُختصر الأمر في أنه لم تعد هناك بحيرة، فما تبقى منها تقريبا إلا عشرة بالمائة، وهجرتها الأسماك ولم يعد فيها صيادون بكثافة ما كان من قبل، مع أنها هي التي جعلت الأسماك يوما طعام الفقير في المدينة، لرخص ثمنها نظرا لوفرتها، وكانت مصدرا رائعا لصيد البلطي والبوري والثعابين؛ أما الآن فحتى إنتاج البحر المتوسط لم يعد بالكثافة القديمة، فارتفعت أسعار الأسماك.. صارت الثعابين مثلا بأسعار رهيبة جدا، وهي التي كان الطاجين منها أكلة الفقراء، وقد كنا نخرج في الفسحة من المدرسة نشتري ساندوتش ثعابين بقرش صاغ!.
ما علينا.. منذ نهاية السبعينات قررت الدولة، التي لا علاقة لها بقوانين الطبيعة ولا توازن البيئة، ردم أجزاء من البحيرة لإنشاء حديقة دولية، فنشأ ما يعرف بالـ “داون تاون”، وباشروا ردمها في البداية بزبالة المدينة، ولم يدركوا أن بالزبالة مواد عضوية مثل بقايا اللحوم والدواجن، فأفرزت ديدانا أكلت جذوع الأشجار التي غرسوها، فصارت الحديقة جزءا صغيرا جدا، واستمر ردم الباقي بالأحجار والتراب بعد أن أخذوا الدرس، لكن ليبنوا فوقها مقاهيَ ومطاعم ومولات. ولم يقف الأمر عند ذلك، فقد اشتدت شهوة البناء على البحيرة فردموا أكثر ما تبقى لبناء مصانع إسمنت وبترول ومخازن للشركات وغير ذلك، وضاعت البحيرة وضاع شاطئها. كانت البحيرة منقسمة بين قسمين، شمالي وجنوبي، الجنوبي لصيد الأسماك، وقد انتهى تقريبا، والشمالي لاستخراج الملح كل عام، وانتهى أيضا كثير منه بردمه، وبناء مصانع أو قرى سياحية شبه خالية؛ واستمر الأمر لسنوات حتى ضاعت البحيرة وشاطئها ولم تعد موجودة إلا في الأفلام.

لم يعد أحد يمشي على الشاطئ فيرى البحر، ولا الموج يعبر الحواجز إلى الشارع فتتلقفه البلاعات القديمة التي تنتظر في شغف، حين كانت البلاعات قديما منقسمة إلى بلاعات لمياه المطر، وبلاعات للصرف الصحي للبيوت

انتقلوا إلى الشاطئ الشمالي فبدأت غزوة التخلص من الملاهي باعتبار أن ذلك حرام، وهذا موضوع يطول فيه الحديث؛ وبدأ إهمال العمارات المبنية على الطراز الأوربي، لهدمها وبناء عمارات عالية وفنادق، وكانت العمارات القديمة لا ترتفع عن خمسة أدوار، لفتح الطريق للهواء فهو من حق المدينة كلها، فحلَّت محلَّ ما تم هدمه منها بسبب الإهمال بنايات عالية تحجب الهواء عما خلفها، وتفتقد جمال العمارة المتوسطية أوربية الطراز، التي كانت علامة على المدينة.
لم يقف الأمر عند ذلك، ففي الأعوام الخمسة السابقة بدأ الهجوم على الشاطئ نفسه، فتم حجبه بالأسوار من منطقة الشاطبي إلى المنتزه، وهي منطقة لا يقل طولها عن ثمانية أو عشرة كيلو مترات، ولم يبقَ ظاهرا من البحر إلا المنطقة بين السلسلة والأنفوشي، أي الميناء الشرقية، التي ترسو فيها فلايك الصيد، وتحتها كنوز من الآثار الغارقة، التي تعود إلى العصرين البطلمي والروماني.. أيام مبارك كانت هناك محاولة لردم جزء منها مرة، فوقف المثقفون وأصدرت وزراة الثقافة في زمن فاروق حسنى بيانا، توضح فيه أنها منطقة آثار غارقة لايجب ردمها، فتوقف المشروع؛ والآن لو بدأ المشروع فلن يستطيع أحد أن يعترض، والخوف أن يفعلوا ذلك، فيصيب الميناء الشرقية مثل ما حدث من تشويه لحدائق قصر المنتزه.
باختصار، لم يعد أحد يمشي على الشاطئ فيرى البحر، ولا الموج يعبر الحواجز إلى الشارع فتتلقفه البلاعات القديمة التي تنتظر في شغف، حين كانت البلاعات قديما منقسمة إلى بلاعات لمياه المطر، وبلاعات للصرف الصحي للبيوت، لكن في الثمانينات أو التسعينات -لا اذكر بالضبط- تم الجمع بينهما في مواسير صرف واحدة، لم تعد قادرة على استيعاب المطر والصرف الصحي للبيوت معا، فمع قليل من المطر “تطرش” البلاعات مافيها في طريق الكورنيش.
اختفى شاطئا المدينة، ومنذ أيامٍ حفل تويتر بالتعليقات على مشهد جزء من شاطئ البحر ليس له سور، بل أسياخ حديدية مزروعة تمنع عبور أو نزول أحد، وبينها مسافات للفرجة؛ وللشاطئ الآن أبواب للدخول من بين الأسوار بمبالغ مالية يدفعها كل فرد، ليبقى مشهد الأسياخ الحديدية أقل كارثية من الأسوار، إذ تستطيع أن ترى البحر من بين الأسياخ.. هذا المشهد، جعل التعليق الوحيد بين مستخدمي تويتر هو “منذ متى دخل البحر السجن؟!”.
نسي الناس البحيرة طبعا، وما يقال عن إنقاذ ما بقي منها لن ينسينا كيف كانت شاطئا ونزهة، وكيف كانت مع الشاطئ المتوسطي تساعد على الحفاظ على المناخ الذي تغير.. لقد اختفى الشتاء تقريبا، وارتفعت الحرارة في المدينة إلى الأعلى.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...