بَلْهَ

بقلم: محمد ياسين صالح

| 3 مايو, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: محمد ياسين صالح

| 3 مايو, 2024

بَلْهَ

المدققون اللغويون نوعان، سأحدثكم أولا عن النوع الذي أحب.

رجلٌ لا يعاني من حمّى الهمزة المتوسطة ولا من متلازمة الأفعال الخمسة، ليست عنده عقدة المعجم وليس مصابا بداء التذاكي، يفهم ما يقرأ ويحفظ ما يفهم ولا يجد حرجا في الاستيضاح، لا يفرض أسلوبه على كتابات خلق الله، ولا يُبدِل كلمة مكان كلمة ولا فاصلة مكان نقطة. مذهبه اللغوي واسع حتى ليكاد لا يخطّئ أحدا في مسألة، وما جاءه متجادلان إلا نصرهما معا ووجد من أبواب الصواب ما يستقيم به رأياهما.. إذا استعجمت عليه كلمة فتح المعجم وتتبع بابها، فإن وجدها لا تجانس المعنى الذي أراده صاحبُ المقال اتصل به وعرض الأمر عليه، قبل أن يبتّ في استبدال غيرها مكانها.

وصاحبنا لا يقرأ قراءة المستعجل الذي يريد أن يطحن ساعات الدوام طحنا، بل يقرأ بتمعّن الطالب الذي يريد أن يستفيد من كل حرفٍ يقرؤه، فإن عرضتْ له معلومة جديدة أو عبارة طريفة أو كلمة رنانة دوّنها في ورقة صغيرة ووضعها في جيبه؛ فلا يكون ذهابه إلى العمل طلبا للرزق فحسب، بل طلب للعلم أيضا، ولكل وجه ممكن من وجوه المعرفة.

وأجمل ما في صاحبنا سرعة بديهته وقصر جوابه وبعده عن السآمة، وكثرة ما يحفظ من الشواهد القرآنية والشعرية، التي سرعان ما يحسم بها أسئلة السائلين. فإن لقيتم هذا وأضرابه زاد جمال اللغة في قلوبكم، واستأسرتم لها استئسار الكريم لمن أدى إليه معروفا.

وأما الآخر – أبعده الله – فقد عرفته بعينه ولقيته وجها لوجه.. ذلك أنني دفعت بمقالي إلى الجريدة وكان في المقال كلمة “بله”، فما كان منه حين استعجمتْ عليه الكلمة إلا أن حذفها ووضع مكانها “بل” فقلب العبارة وهدم المعنى وشوّه المقال تشويها.

يقول كعب بن مالك:

تذر الجماجم ضاحيا هاماتها   بَـلْـهَ الأكـفّ، كأنـها لم تخلق

يستخدم العرب كلمة “بله” بمعنى “دع” أو “ناهيك بـ”، كأن تقول: إن فلانا لا يقوى على حمل الوسادة بله الصخرة.. فإن كان يعجز عن حمل الوسادة فدعك من الحديث عن قدرته على حمل الصخر، وناهيك بهذا الحديث.

ذهبت إلى الرجل وعاتبته على صنيعه فوجدته كثير الثرثرة في غير فائدة، يأنف من الاعتذار كما تأنف الزوجة من تقبيل ضرّتها؛ يحفظ عددا لا بأس به من أبيات الشعر، غير أنه لا يحسن نطقها وفقا لأوزان الشعر، فيكسر نحوها تارة وعروضها تارة.

سألته عن الكتّاب الذين يدقق مقالاتهم فقال لي إنه لا يكترث بأسماء الكتاب فليس ذلك من عمله، إنما عمله أن يدقق إملاء المقال فحسب؛ وبالحديث عن الإملاء قال لي إن الهمزة في كلمة “هيئة” يجب أن تكون على الألف “هيأة” ولكنّ إدارة الجريدة لم تسمح له بأن “يحقّ الحق” ويكتبها بالشكل الذي يراه صحيحا فاستجاب على مضض وصار يكتبها على النبرة مكرها لا بطلا.

حدثني عن أخطاء الكتّاب فوجدت مذهبه اللغوي ضيقا، ووجدت صدره أضيق من مذهبه؛ توجعه حروف العلة وتزعجه اللام المزحلقة، وتشكل عليه تاء المؤنث السالم وتتلجلج بين شفتيه حروف الصفير وتنفلت من لسانه الحروف اللثوية، فلا يحدثك بعبارة عامية صرفة ولا بعبارة فصيحة تامة.. فإن لقيتم هذا وأضرابه صارت العربية أكره إليكم من عدوكم، وحُبّبت إليكم لغات العجم، وما زادكم إلا نفورا.

خرجت من مكتب صاحبنا المدقق متجها إلى مكتب رئيس التحرير، فلما اقتربت من الباب سمعت من يقول بصوت الغاضب المحبط المتحسر: تخيل يا أستاذ أنه كسر وزن القصيدة، وشوّه أبياتها بذريعة أن كلمات القافية ممنوعة من الصرف، أفلا كان يكلمني قبل أن ينشر القصيدة بهذا الشكل المخجل؟ حسبي الله ونعم الوكيل.

استدرتُ مسرعا في المغادرة، وعند خروجي من مبنى الجريدة تذكرت كلمة “بله”، ما كان أحوجها إلى همزة تطرق جبهة بعض الناس..

أقوالٌ ليست مأثورة:

ثلاثة لا تجالسهم ولا تطاعمهم، واهرب منهم هرب الجاني من العسس: طبيب مغرور، وبخيلٌ مشهور، ولغويٌّ يتعاطى “قصيدة” النثر.

محمد-ياسين-صالح

شاعر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...