بَلْهَ

بواسطة | مايو 3, 2024

بواسطة | مايو 3, 2024

بَلْهَ

المدققون اللغويون نوعان، سأحدثكم أولا عن النوع الذي أحب.

رجلٌ لا يعاني من حمّى الهمزة المتوسطة ولا من متلازمة الأفعال الخمسة، ليست عنده عقدة المعجم وليس مصابا بداء التذاكي، يفهم ما يقرأ ويحفظ ما يفهم ولا يجد حرجا في الاستيضاح، لا يفرض أسلوبه على كتابات خلق الله، ولا يُبدِل كلمة مكان كلمة ولا فاصلة مكان نقطة. مذهبه اللغوي واسع حتى ليكاد لا يخطّئ أحدا في مسألة، وما جاءه متجادلان إلا نصرهما معا ووجد من أبواب الصواب ما يستقيم به رأياهما.. إذا استعجمت عليه كلمة فتح المعجم وتتبع بابها، فإن وجدها لا تجانس المعنى الذي أراده صاحبُ المقال اتصل به وعرض الأمر عليه، قبل أن يبتّ في استبدال غيرها مكانها.

وصاحبنا لا يقرأ قراءة المستعجل الذي يريد أن يطحن ساعات الدوام طحنا، بل يقرأ بتمعّن الطالب الذي يريد أن يستفيد من كل حرفٍ يقرؤه، فإن عرضتْ له معلومة جديدة أو عبارة طريفة أو كلمة رنانة دوّنها في ورقة صغيرة ووضعها في جيبه؛ فلا يكون ذهابه إلى العمل طلبا للرزق فحسب، بل طلب للعلم أيضا، ولكل وجه ممكن من وجوه المعرفة.

وأجمل ما في صاحبنا سرعة بديهته وقصر جوابه وبعده عن السآمة، وكثرة ما يحفظ من الشواهد القرآنية والشعرية، التي سرعان ما يحسم بها أسئلة السائلين. فإن لقيتم هذا وأضرابه زاد جمال اللغة في قلوبكم، واستأسرتم لها استئسار الكريم لمن أدى إليه معروفا.

وأما الآخر – أبعده الله – فقد عرفته بعينه ولقيته وجها لوجه.. ذلك أنني دفعت بمقالي إلى الجريدة وكان في المقال كلمة “بله”، فما كان منه حين استعجمتْ عليه الكلمة إلا أن حذفها ووضع مكانها “بل” فقلب العبارة وهدم المعنى وشوّه المقال تشويها.

يقول كعب بن مالك:

تذر الجماجم ضاحيا هاماتها   بَـلْـهَ الأكـفّ، كأنـها لم تخلق

يستخدم العرب كلمة “بله” بمعنى “دع” أو “ناهيك بـ”، كأن تقول: إن فلانا لا يقوى على حمل الوسادة بله الصخرة.. فإن كان يعجز عن حمل الوسادة فدعك من الحديث عن قدرته على حمل الصخر، وناهيك بهذا الحديث.

ذهبت إلى الرجل وعاتبته على صنيعه فوجدته كثير الثرثرة في غير فائدة، يأنف من الاعتذار كما تأنف الزوجة من تقبيل ضرّتها؛ يحفظ عددا لا بأس به من أبيات الشعر، غير أنه لا يحسن نطقها وفقا لأوزان الشعر، فيكسر نحوها تارة وعروضها تارة.

سألته عن الكتّاب الذين يدقق مقالاتهم فقال لي إنه لا يكترث بأسماء الكتاب فليس ذلك من عمله، إنما عمله أن يدقق إملاء المقال فحسب؛ وبالحديث عن الإملاء قال لي إن الهمزة في كلمة “هيئة” يجب أن تكون على الألف “هيأة” ولكنّ إدارة الجريدة لم تسمح له بأن “يحقّ الحق” ويكتبها بالشكل الذي يراه صحيحا فاستجاب على مضض وصار يكتبها على النبرة مكرها لا بطلا.

حدثني عن أخطاء الكتّاب فوجدت مذهبه اللغوي ضيقا، ووجدت صدره أضيق من مذهبه؛ توجعه حروف العلة وتزعجه اللام المزحلقة، وتشكل عليه تاء المؤنث السالم وتتلجلج بين شفتيه حروف الصفير وتنفلت من لسانه الحروف اللثوية، فلا يحدثك بعبارة عامية صرفة ولا بعبارة فصيحة تامة.. فإن لقيتم هذا وأضرابه صارت العربية أكره إليكم من عدوكم، وحُبّبت إليكم لغات العجم، وما زادكم إلا نفورا.

خرجت من مكتب صاحبنا المدقق متجها إلى مكتب رئيس التحرير، فلما اقتربت من الباب سمعت من يقول بصوت الغاضب المحبط المتحسر: تخيل يا أستاذ أنه كسر وزن القصيدة، وشوّه أبياتها بذريعة أن كلمات القافية ممنوعة من الصرف، أفلا كان يكلمني قبل أن ينشر القصيدة بهذا الشكل المخجل؟ حسبي الله ونعم الوكيل.

استدرتُ مسرعا في المغادرة، وعند خروجي من مبنى الجريدة تذكرت كلمة “بله”، ما كان أحوجها إلى همزة تطرق جبهة بعض الناس..

أقوالٌ ليست مأثورة:

ثلاثة لا تجالسهم ولا تطاعمهم، واهرب منهم هرب الجاني من العسس: طبيب مغرور، وبخيلٌ مشهور، ولغويٌّ يتعاطى “قصيدة” النثر.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...