من ينسى قديمه يتوه ويضيع

بواسطة | فبراير 7, 2024

بواسطة | فبراير 7, 2024

من ينسى قديمه يتوه ويضيع

في ظل تقدم الغرب التكنولوجي، تتصدر معدلات الانتحار وأمراض القلب قوائم البلدان الغربية. بينما تسلط دراسة لمدينة روسيتو الأمريكية الضوء على تأثير الروابط الاجتماعية والتكافل في حماية الصحة النفسية والقلبية.

تأثير روسيتو – دروس من الماضي وتحديات الحاضر لصحة المجتمع العربي

نقر ونعترف بأن الدول والشعوب الغربية قطعت شوطا بعيدا في مجالات الصناعة والتكنولوجيا والعلوم التطبيقية عموما، وبأنها تنعم بقدر طيب من الرفاه الاقتصادي.. ولكن، إنها بالمقابل تتصدر قوائم الانتحار، بمعنى أن مواطني تلك الدول أكثر ميلا إلى الانتحار، والانتحار في غالب الأحوال ينجم عن اليأس، وغياب التُّكَأة الروحية والاجتماعية، والاضطراب النفسي الناجم بدوره وفي معظمه عن تعاطي الكحول والمخدرات؛ بينما – وبصفة عامة- تأتي الدول العربية في ذيل قائمة البلدان التي تشهد حالات الانتحار.

في مطلع ستينيات القرن الماضي، زار الطبيب الأمريكي ستيوارت وولف مدينة روسيتو الصغيرة في ولاية بنسلفانيا، وفاجأه الطبيب المقيم في المدينة بالقول إنه لم يشهد طوال الست عشرة سنة التي أمضاها فيها مريضا يعاني من علة في القلب، ولم يسجل وفاة كان السبب فيها اعتلال القلب، وعلى مدى عدة عقود عكف وولف على دراسة الأحوال الصحية لسكان روسيتو، ومقارنتها بأحوال ساكني المدن والقرى المجاورة، وثبت لديه أن قاطني روسيتو بالفعل محصنون ضد أمراض القلب، ولكن لماذا وكيف؟

كان جميع سكان تلك المدينة مهاجرين من قرية روسيتو الإيطالية، حيث كانوا يعملون في محاجر الرخام، وقدموا إلى أمريكا طلبا لرغد العيش، وشيدوا بيوتهم البسيطة المتلاصقة في منطقة غير مأهولة في ولاية بنسلفانيا، واحترفوا مختلف المهن الشاقة، ولم تكن عاداتهم الغذائية تختلف عن عادات سكان البلدات الأمريكية المجاورة، فقد كانوا يتناولون الوجبات الدسمة، ويدخنون التبغ، ويشربون الكحول؛ ولكن ما استنتجه الدكتور وولف والفريق العامل معه هو ما صار يعرف في الطب بـ”تأثير روسيتو”.

لم يكن يميز سكان روسيتو عن غيرهم في أي جزء من الولايات المتحدة سوى أنهم متكافلون ومتراحمون، أي أن مجتمعهم كان متماسكا وأفراده يتعارفون ويتواصلون، وبرغم بؤس حالهم الاقتصادي في سنواتهم الأولى بعد الوصول إلى الأراضي الأمريكية، كانت حياتهم خالية من التوتر والشد العصبي والقلق، ولم يكن هناك من تفسير آخر لاتقائهم أمراض القلب سوى “راحة البال”، التي أحسن الدكتور سعود الشريم، إمام وخطيب الحرم، توصيفها في قوله: هي نعمة كبرى، ومنحة جُلّى، لا ينالها كل أحد، فهي لا تُشترى بالمال، ولا تُفتقَد بالفقر، لأنها إحساس قلبي، وشعور عاطفي لا تستحلبه زخارف الدنيا بالغة ما بلغت، وفي الوقت نفسه لا يعيقه فقر ولا عوز بالغين ما بلغا من المسغبة والإملاق، فقد ينال راحة البال فقير يبيت على حصير، ويفتقدها غني يتكئ على الأرائك ويفترش الحرير.

تعرضت أجيال لاحقة من سكان روسيتو من المنشأ الإيطالي نفسه للأمركة، ودخلت معمعة “الفردانية” في التفوق الاقتصادي، التي تتطلب التنافس الشديد حتى بين أقرب الأقربين، فصارت روسيتو في السنوات الأخيرة موبوءة بعلل القلب بمثل معدل البلدات والمدن الأمريكية الأخرى.

على علاتها وعللها الكثيرة ظلت المجتمعات العربية، وعلى مدى قرون طوال، تنعم بدرجة عالية من التراحم والتكافل والتماسك، خاصة في البوادي والأرياف، وبذلك ظلت أمراض العصر من السرطانات وعلل القلب والأوعية الدموية قليلة الحدوث فيها، و(حتى فيروس الكورونا تفادى الحلول في البوادي والأرياف)، وكان ذلك قطعا بتأثير روسيتو، أي خلو تلك المجتمعات من مسببات التوتر والقلق لخلوها من التنافس المَرَضي، ولبساطة وسهولة طرق كسب العيش.

وحتى في عصور ما قبل الإسلام، كانت المجتمعات العربية – وفي إطار القبيلة- شديدة التراحم، وحريصة على إعلاء قيم إنسانية سامية كالمروءة والوفاء والكرم وقِرى الضيف، والنجدة وإجارة الملهوف وطالب الغوث، ولهذا لم يغمط المؤرخون المسلمون حق الشاعر اليهودي السموأل، وخلدوا ذكره مثالا للوفاء، وذكر النصراني حاتم الطائي مثالا للكرم، وفي العصور اللاحقة ظلت تلك المجتمعات معافاة إلى حد كبير من العلل التي صرنا نسميها بـ”أمراض العصر”.

ثم صار تقليد الغرب عندنا معيارا للتقدم والتحضر والرفاه، ولأن من نسي قديمَه تاه، فقد ضعفت في مجتمعاتنا أو تفككت الروابط والضوابط الاجتماعية، وباتت علل القلب تنتشر وبائيا في الحواضر العربية، بدرجة دعت منظمة الصحة العالمية إلى قرع نواقيس الخطر سنويا بانتظام منذ عام 2012، وتجد الشواهد على ذلك في الأرقام التالية التي توضح نسبة الوفاة بسبب أمراض القلب من مجمل حالات الوفاة: المملكة العربية السعودية 46%، البحرين 26%، العراق33 %، مصر 46%، اليمن 21%، الإمارات العربية المتحدة 30%، تونس 49%، سوريا 28%، قطر   24%، عمان 33%، المغرب 34%، لبنان 47%، الكويت 41%، الأردن 35%.

ولا شك في أن هذا التفشي المريع لعلل القلب في الدول العربية مرده ضعف تأثير روسيتو، أي سيادة أجواء الهلع والهرولة في أمور المعايش وإعلاء الفردانية، أي تفكك النسيج الاجتماعي، الذي كان بمثابة حائط الصد ضد العلل العضوية التي يفاقمها الاعتلال النفسي-الاجتماعي، وقد تعرض كثير من مجتمعات المدن العربية للتغريب حتى في عاداتها الغذائية، فتركت الاستطعام بكل ما هو مزروع وعضوي، وتبنَّت الأكلات الغربية سريعها وبطيئها، ذات السعرات الحرارية العالية.

ومعلوم لدى أهل الطب أن اتباع نمط غذائي غير صحي، يؤدي إلى التعرض للعديد من المخاطر الصحية التي تهدد حياة الإنسان، مثل الإصابة بالسمنة، التي ترفع بدورها قابلية الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، وبالتالي الإصابة بأمراض القلب، وهذا ما تؤكده الإحصائيات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، والتي تفيد بأن نحو 10% من مجموع الوفيات في الدول العربية تحدث نتيجة الإصابة بمضاعفات مرض السكري، وأكثر من نصفهم تحت سن الـ 60 عاما، والسكري جواز مرور مؤكد إلى علل القلب.

ورحم الله أبا الطيب المتنبي، الذي قال في حال من يهتدي بـ”البعيد” ويرهق نفسه ويكلفها شططا، متسائلاً:

حتّام نحن نُساري النجم في الظُّلَمِ  ومـا سُـراه عـلـى خـفٍّ ولا قـدم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...