تجربة “ملك الإنصاف” ودرس “أمير العفو”!

بواسطة | يناير 9, 2024

بواسطة | يناير 9, 2024

تجربة “ملك الإنصاف” ودرس “أمير العفو”!

تحديات العقل العربي تستدعي التواصل وتعزيز الحوار، مستفيدة من دروس قادة ناجحين في تحقيق المصالحة وترسيخ العفو.

تحديات العقل العربي وضرورة التواصل السلمي: دروس من تجارب ناجحة

1- ضرورة تقدير الفكر العربي

في مقال قيّم بعنوان “هزيمة العقل العربي مهدت لتخلف العرب” (الشرق القطرية – الجمعة 5 يناير الجاري) خلص الكاتب التونسي الكبير د. أحمد القديدي إلى أن قصف أي قلم أو إسكات أي صوت عربي معتدل في أطروحاته، وهدفه الصالح العام، هو هزيمة للعقل العربي، وأن إعلاء قيمة “الرأي والرأي الآخر” تصب بشكل مؤكَّد في صالح تقدم الأمة.

قال د. القديدي -السياسي والأكاديمي والدبلوماسي المرموق- إنه عاصر “حكايات طويلة قاسية” وشهد “على إجهاض مواهب فكرية وأدبية واعدة وأصيلة، كانت كتابات أقلامها منارات رائدة ثم انطفأت فجأة وبلا تفسير.. وطبعاً ليس انطفاءً نهائياً دائماً بفعل قمع سياسي، بل اختار بعض الكتاب الموهوبين والواعدين الانحياز إلى وظيفة تعيله، أو الركون إلى زوجة وعيال يسكن إليهم ويقيهم الفقر والعوز، ويقرر طواعية تجنب وجع الرأس الذي لا شك أنه يرتبط بالأدب والعقل، منذ الإمام ابن حنبل إلى غاليليو مكتشف كروية الأرض، وصولاً إلى المفكر السوداني محمود محمد طه، الذي اتُّهم بما يسمى (الهرطقة)، وانتهت به مسيرته إلى حبل مشنقة نصبها جعفر النميري”.

2- تحليل للواقع الحالي

نظرة سريعة في حال وطننا الكبير، من محيطه إلى خليجه مروراً بصحاريه وبواديه وقفره وخُضرته، تكشف صحة ما طرحه د. أحمد القديدي؛ إذ إن أمتنا تعاني من ردّة سياسية فكرية ثقافية، تعيد حالنا إلى “المربع صفر” وتجعلنا نحن – العرب العاربة والعرب المستعربة- ضئيلي الحجم، قليلي القيمة، متدنيّي المكانة، أمام بلاد كنا نسبقها بسنوات وعقود وقرون في سلَّم الحضارة.

لا شك أن إطفاء الأصوات العاقلة لن يقابله إلا صعود صراخ التطرف، وأن قصف الأقلام العقلانية يعني إخلاء الساحة لحاملي صاجات الرقص في زار مجنون يُضر الحكومات أكثر مما ينفعها، وأن قتل ورود مبدعة يعني ببساطة رعاية أشواك وطفيليات تُحوّل حدائق السُلطات إلى مرتع لكل نبت شيطاني لا يُرجى منه خير.

3- تعزيز التواصل والاختلاف البناء

يا كلَّ كبير وأيَّ مسؤول في أمتنا الواحدة.. هذه حقائق بديهية، ربما غيّبتها عنكم سنوات الجلوس الطويلة على الكرسي الأثير، أو أن ضجيج أصوات المتنافسين في سباق النفاق وحلبات مسح الجوخ، جعلت عقولكم تتناساها:

أولاً:

أنتم بشر مثلنا، والبشر يخطئون ويصيبون، وبالتالي فليس بالضرورة أن كل القرارات التي تخرج منكم أو من أجهزتكم الحكومية أو التنفيذية صحيحة، أو تنضح بالحكمة، أو تشع بالنور، أو لا يأتيها الباطل من فوقها ولا من تحتها كما يصوّر لكم حَواريّوكم.

ثانياً:

إذا كان هناك من يُسلّط الضوء أو يشير إلى مكمن خلل نتيجة أحد هذه القرارات، فهذا في صالحكم أنتم، وربما يضع من يوضح الخطأ أو الخلل حلاً تستفيد منه أجهزتكم المختلفة أيضاً.

ثالثاً:

اختلاف الآراء ليس أبداً ضد السُلطة، بل هو إثراء للمجتمع، ونقلٌ له من وضع الجمود والتصلب إلى حالة مرونة وأريحية، وتنفيس عن أي غضب بالصدور؛ وكل هذا يعود بالفائدة على الجميع.

رابعاً:

سد الأبواب الشرعية عن العمل العام، من شأنه لجوء بعض من يفقدون الأمل ويفتقدون أي بارقة نور إلى العمل السرّي، وكم عانت شعوبنا من هذا الأمر في حقب عديدة!

خامساً: وهنا مربط الفرس.. هل تلاحظون يا سادتنا وتيجان رؤوس الأمة، أن الأنبياء كان هناك من يخالفهم في الرأي، ومن يعارضهم وقد آذاهم وحاربهم؟ ثم هل نسيتم أن “الله” جلّ شأنه ثمة من يعارضه ويكفر به علناً؟!

 إذن، ليس من العيب أبداً – ولا ينتقص منكم إطلاقاً- وجود من يختلف معكم في بعض أو حتى كل آرائكم ومواقفكم.. المهم أن يكون هذا الاختلاف في إطار القانون والدستور، وفي ظل حرص على أمن الوطن وأمان كل من يعيش فيه، حُكّاماً ومحكومين، مسؤولين ورعية، كباراً ومُهمشين، سادة وحرافيش.

4- تجارب ناجحة للتحلي بالعفو والمصالحة

أحلم ..

أن يحذو قادة أمتنا حذو الراحل العظيم نيلسون مانديلا، الذي تسامح مع من سجنوه وعزلوه عن العالم طوال 27 عاماً في جزيرة نائية، وفتح صفحة جديدة بين جميع أبناء المجتمع، والنتيجة هي الاسم المرموق عالمياً لجنوب أفريقيا .

أتمنى..

أن يدرس كل حاكم ما فعله الرئيس -الذي أقدِّره وأحترمه- بول كاغامي، حيث طيّب كل الجراح، وقاد رواندا من بلد صغير ممزق تنتشر في أراضيه أشلاء عدة ملايين، راحوا ضحية حرب أهلية عرقية طاحنة، إلى بقعة مضيئة ناهضة في القارة السمراء.

آمل..

أن يستفيد الجميع من أبي أحمد، الذي قام بمجرد تسلمه السلطة في أديس أبابا برحلة خارجية، شملت الدول التي تتواجد فيها أكبر جاليات أثيوبية -وبينهم معارضون- وطلب من الجميع العودة للمساهمة في خدمة بلادهم.

5- دروس من قادة ملهمين

لماذا نذهب بعيداً، إلى جنوب أفريقيا ورواندا وأثيوبيا، وغيرها من دول ذات تجارب ناجحة في لمِّ الشمل تحت راية وطن واحد يسع كل أولاده بلا تمييز ولا إقصاء.. عندنا نموذجان منّا وفينا، وتجربتاهما ما زالتا قريبتين وحاضرتين.

الأول: الملك محمد السادس، الذي أعلن في السابع من يناير 2004، عن تشكيل هيئة “الإنصاف والمصالحة”، في سياق البحث عن تحقيق انفراج سياسي وتحسين صورة المغرب في الخارج، بعد سنوات الاحتقان التي عرفتها عقود ما بعد الاستقلال من صراع مع المعارضة، وخروقات ممنهجة ضد الناشطين السياسيين والحقوقيين؛ وساهمت الهيئة بشكل كبير في إغلاق ملف انتهاكات حقوق الإنسان، وشكّلت حجر الزاوية في التحول الديمقراطي للمملكة، وفتحت المجال العام أمام كل ألوان الطيف السياسي في البلاد.

أما النموذج الثاني القريب جداً، فقد ركّز خلال 38 شهراً من تولِّيه الحكم على ملف المصالحة الوطنية، وأصدر جملة مراسيم، تحمل في مضمونها صك الأمل وإعادة الاعتبار لعشرات المعارضين والنشطاء في سبيل تحقيق مصالحة شاملة في البلاد، تضمنت عودة كثيرين كانوا قد تشتتوا في أرض الله الواسعة قبل سنوات ووُجِّهت إليهم تهم قضائية.

إنه الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، رحمه الله.. “أمير العفو” الذي قدَّم مع العاهل المغربي درسين مجانيين وتجربتين مُلهِمتين، يمكن الاستفادة منهما والبناء عليهما لتحقيق الاستقرار الداخلي في عالمنا العربي.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...