تحرير الاشتباك في مسألة الدولة المدنية

بقلم: مهنا الحبيل

| 9 يوليو, 2023

بقلم: مهنا الحبيل

| 9 يوليو, 2023

تحرير الاشتباك في مسألة الدولة المدنية

واحدة من أهم مسارات الاشتباك في تحرير مفهوم الدولة المدنية، هي جذورها العلمانية الحتمية، وذات هذه الحتمية المفترضة، تحتاج إلى تفكيك نظري وتطبيقي لتحرير الموقف الشرعي منها، فحتى مصطلح (العلمانية) يخضع في نهاية الأمر، وفق أصول الفقه الإسلامي لتشريح توضيحي. فهل المعارضة للمصطلح؟ أم هي للمفهوم التطبيقي للمصطلح؟.
هل مصطلح دولة، على سبيل المثال، ثم معاصرة، هو مصطلح ديني مقابل للدين الإسلامي؟ أم هو مصطلح مدني يقتضي بالضرورة تنزيل القاعدة التشريعية لمصالح المسلمين؟. والحقيقة التي تحتاج فيها تيارات التفكير الإسلامية لإعادة النظر، أن المصطلح لا يقتضي حكماً بالضرورة، وإنما مفاهيم هذا الحكم وتجربة تطبيقه بحسب التاريخ والحدث.

نص روسو في (العقد الاجتماعي) على مبادئ السيادة العليا التي تحكم الدستور؛ ومرجعيته هنا، هي تحريراته لصناعة جمهورية المشاركة الشعبية، الديمقراطية أو الأرستقراطية، التي لا تخضع للدين المسيحي

فما أسمته التجربة التركية الحديثة في حزب العدالة، بغض النظر عن مآلات انتكاساتها الأخيرة وانقسامها، بالعلمانية الديمقراطية، كان مفهوماً مختلفاً عن العلمانية الإلحادية الشمولية، التي طبقتها شيوعية ماوتستنج في الصين، أو ستالين في الاتحاد السوفييتي. والدولة المدنية التي تأسست في ماليزيا بعد الاستقلال، وتنص على أن من واجبات الملك حماية الدين الإسلامي، وأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، تختلف عن مدنية دول علمانية في إسكندنافيا أو كندا؛ هذا فضلاً عن مفاهيم القيم التي لا تزال البيئة الاجتماعية الماليزية تتمسك بها، ومن حيث القناعة الشعبية فهي أقوى من دول دينية طائفية كإيران، كما أن القناعة الشعبية بالإسلام في ماليزيا أعلى مما هي في الدول الخليط بين الثيوقراطية الملكية والعلمانية السُّنيّة، التي ترفض المشاركة الشعبية وفصل السلطات النافذ لصالح الشعب.
نص روسو في (العقد الاجتماعي) على مبادئ السيادة العليا التي تحكم الدستور؛ ومرجعيته هنا، هي تحريراته لصناعة جمهورية المشاركة الشعبية، الديمقراطية أو الأرستقراطية، التي لا تخضع للدين المسيحي؛ لكن روسو مع ذلك كرر في ميثاقه الذي أضحى إنجيلاً للثورة الفرنسية وغيرها، بأن قاعدة أن الدين هو الذي يُحدد معيار التساوي بين الشعب، ومرجعيته التي لا تنطلق من انحياز أرضي، هي قاعدة صحيحة. لكنه تساءل محتجاً: أين هو ذلك المرجع الديني المطلق؟.
إننا هنا لا نستدعي الرد العاطفي المكرر بأن واقع الإسلام مختلف عن التاريخ المسيحي في أوروبا، فهو مختلف في جذور تصوره، وفي فقهه العمراني، وفي انضباط علاقة الروح بالمؤسسة العبادية، ومساحة التعبد الضخمة في عمران الأرض وفقه المصالح الدنيوية، التي وسّعت الشريعة قواعد قياسها. فحديثنا هنا نفصله عن ذلك الاستدعاء، الذي يعود ليتكئ على الإرث المذهبي العاجز، والذي يُسقط مفاهيم الحرية السياسية لدى علماء بارزين من السلف، أوّلوا بها فهمهم للحريات العامة في الشريعة؛ ولذلك نقول هنا إن منع الشعوب المسلمة، من اعتماد الإسلام كأساس للمبادئ العليا الحاكمة للدستور، لا شرعية أخلاقية له، ولا مرجعية فلسفية.

كلما انسجم الشعب في احترام تعدده وميثاقه المجتمعي تعزز استقراراه؛ ولا تُستخدم أدوات العقاب إلا من خلال محاكم، تضمن عدم خنق الحق المدني أو حق الحياة الشخصية المنفصلة عن الحضور العام

وجهة الحكم المفوضة في هذه المبادئ ليست مجموعة فقهاء عاجزة عن فهم التصوير الفكري، والتطبيقي للقوانين والتشريعات، وإنما هي نخبة متخصصة ذات دراية، لا شرعية فقط بل أيضا مدنية قانونية، تملك مساحة مستقلة وواعية للوصول إلى المرجعيات الدستورية العُليا. وإقرار هذه المرجعيات التي تنص على حق الشعب في رفض نقض الشريعة، أو عزل هويته عن الإسلام، كما هي مراهقة بعض الحكام العرب اليوم، الذي يزايد في علمانيته على الغرب، لا يُقصد منه الصراع القانوني التنفيذي، إنما مبدأ التشريع ومرجعيته الدستورية.
أما القوانين فهي تتخذ مساحة مرونة أكبر ومنظومة بنود أوسع، والمهم هنا ألا ينص الدستور على رفض قطعية إسلامية، فضلاً عن مهاجمتها؛ وهذا لا يتناقض مع مساحة التقنين لحقوق الأقليات ولا طبائعهم، ولا مساحة التشريعات المناسبة لهم. كما أن المحافظة على القيم العامة لا يترتب عليها مطاردة أمنية لسلوكيات الأفراد، إلا في حالات اختراق شرسة فاضحة وخادشة للمجتمع العام؛ فلا شرطة دينية تطارد الناس في سلوكهم، ولا تُعسفهم على ضوابط محددة في حياتهم الشخصية؛ فهنا مفصل مهم بين سيادة المجتمع الحقوقية، وطبيعة التشريعات القانونية.
وكلما انسجم الشعب في احترام تعدده وميثاقه المجتمعي تعزز استقراراه؛ ولا تُستخدم أدوات العقاب إلا من خلال محاكم، تضمن عدم خنق الحق المدني أو حق الحياة الشخصية المنفصلة عن الحضور العام؛ فالدولة هنا ليست جهة رقابة تشارك الملائكة تسجيل الخطايا، إنما جهاز ضبط عام لحقوق المجتمع وعدم تعدي فئة على الأخرى، وهذا ما يفرز مفهوم الدولة في الإسلام عن نظام الحكم الديني المذهبي، المشابه للحياة الكنسية القيصرية في الغرب.
لكن.. ماذا عن الطوائف الدينية والمذهبية؟ وماذا عن القناعة الشخصية في الحياة العلمانية؟ أين هي من دستور الدولة المدنية المسلمة الذي ينص على احترام الإسلام وتشريعاته القطعية للدولة وهويته؟.

إن ما تعرضت له بعض الدول المسلمة حديثاً، من استثمار متنوع لمصطلح تطبيق الشريعة، لم يكن إلا إعلاناً مزوراً أو استثمارياً لهذا النظام أو ذاك، وكان في حقيقته غطاءً يستفيد من نظام الحكم الفاسد أو المستبد

إن المشكلة تواجهنا هنا في نموذج التنميط لصورة الحكم الإسلامي، وحتى في الوصف، فمفهوم الحكم بالشريعة أو الحكومة الإسلامية، عليه حمولات تاريخية ضخمة، تراكمت تحته منذ الزمن القديم ومن بعد حكم الحسن بن علي؛ وما تخلل بين حكم معاوية بن يزيد وحكم عمر بن عبد العزيز وما بعده -إلا ما ندر- طبقات من السياسات المستبدة والعصبيات، التي كان من خطايا التراث أن تُجذَّر عند البعض كتشريعات دينية.
ثم إن ما تعرضت له بعض الدول المسلمة حديثاً، من استثمار متنوع لمصطلح تطبيق الشريعة، لم يكن إلا إعلاناً مزوراً أو استثمارياً لهذا النظام أو ذاك، وكان في حقيقته غطاءً يستفيد من نظام الحكم الفاسد أو المستبد، ويخلق منه جُنّة بينه وبين الشعب، دون أي تغيير يُذكر، فضلاً عن أحقية الانتخاب أو حتى الرقابة المستحقة للأمة، بحكم أن الحاكم في المبدأ الشرعي، أجير عند السيد العام كما يسميه روسو، وهي هنا الأمة الشاملة.
فالخروج من هذا التنميط في جدل الدسترة والتشريع، لتحرير فرصة قيام دولة مدنية مسلمة لا تُلغي حق الشعب في هويته الإسلامية، هو المدخل الأوّل، وحينها فإن مساحة الحقوق الشخصية، وحتى الطباع الذاتية، هي ممارسات تتم ضمن خصوصيات المجتمع وأفراده، فلا سلطة للدولة على الناس في أفكارهم ولا قناعاتهم، ولا يجوز لها أن تتدخل في حواراتهم الشخصية ولا ندواتهم العلمية، ولهم حق الرأي في النقد لمنظومة الدولة.
ومساحة التشريع القانوني هنا هي في احترام الدين، بل الأديان، وعدم التجديف عليها واستفزاز منتسبيها، وهذا مطبق حتى في دول علمانية.
والخلاصة أن الدولة المدنية هيكل ومفاهيم ومرجعية دستورية، متى ضُبِطت بالمحددات الأخلاقية والمعرفية الرشيدة، لا المزعومة من المستبد ومنابره، اقتربت من الإسلام، بل وتطابقت مع مفاهيمه، ومتى ابتعدت فارقت الهدف القيمي واختلت، ويقاس وجوبها أو جوازها، بحجم المصالح للشعب المسلم في حريته وحقوقه وسيادته.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

مع الهمجية ضد التمدن

مع الهمجية ضد التمدن

يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...

قراءة المزيد
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...

قراءة المزيد
أطفال غزة يصافحون الموت

أطفال غزة يصافحون الموت

إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...

قراءة المزيد
Loading...