تدوين العرب.. رحلة ممتدة عبر الزمان

بواسطة | أبريل 22, 2023

بواسطة | أبريل 22, 2023

تدوين العرب.. رحلة ممتدة عبر الزمان

اتسم الإنسان العربي بنزعة تواصلية لا تخفى وقد ضربت بجذورها في القدم، ولعل من أبلغ مظاهرها ما وقع لجذيمة الأبرش في العصر الجاهلي، وما يتعلق بقصة تسميته بنديم الفرقدين، فقد انقطع عن التواصل العام مع المجتمع وفضل أن يبقى لوحده ضاربا في مناكب الأرض ولكنه في غمرة هذه الوحدة لم يستطع أن يقتنع وجدانيا بالانفراد ولم يقبله نمط حياة فاتخذ من نجوم السماء، الفرقدين، خليليْ سمر “فكان يشرب كأسا ويصب لهما كأسين” تعبيرا عن تمكن فلسفة التواصل في البنية الذهنية العربية، وكان المجتمع العربي بشكل عام قد عمل على ترسيخ هذا المفهوم، وباكرا كانت هناك التمثلات والمظاهر التي تبرزه ومنها اهتمام العرب بتعاطي الصياغات التعبيرية التي تعكس حياتهم وتجسدها في النصوص فأوْلَوها مكانة خاصة لدرجة أنهم اتخذوا البيت الحرام مركزا خاصا للإعلام بهذا التدوين وتشريف قدره وفق الروايات التي تنقل عن العرب وضعهم قصائد المعلقات على الكعبة، كما يضعون في الاعتبار سرعة الانتشار لبعض التدوين ودوره في التأثير العام، وفي ضوء ذلك نقرأ قول شاعرهم:
فَلأُهدِيَنّ مع الرِّياحِ قصيدةً .. مني مُغلْغَلَةً الى القَعْقاعِ
ترِدُ المياهَ فلا تزالُ غريبةً .. في القَوْمِ بين تمثُّلٍ وسَماعِ
فالكلمات الموجهَة، والمتصفة بمقوماتها الفنية، لا تموت حين تقال، في عُرفهم، وإنما تمضي على صهوات التداول، ومن هنا وصفوا الأمثال ب “السائرة” حيث إنها اشتقاقات لغوية ترى النور لأول مرة في حديث ما ثم تنداح بين الألسن ولا يقر لها قرار، فضاءاتها الليل والنهار ومضارب عبس وذبيان ومتحدثي اللسان العربي أنى كانوا.

تركزت في الإسلام فكرة الاهتمام الثقافي بالمحتوى وتيسير المنصات للمؤثرين في الرأي العام فالرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعطي لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ينشد عليه قائما، ينافح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

وفي ظلال هذا التواصل بوؤوا المدونين اللامعين مكانا مرموقا، وكانت البلاغة الميزة التي ينال بها هذا التكريم، فاهتموا بتعريف البلاغة وتوصيف معالم هذه الرتبة التي تمكّن من أخذ خطام الكلام وإناخته في مبرك المعنى وفق تعريف عالم البلاغة السكاكي، وتنوعت التحديدات التي تحاول أن تضبط صفات اكتساب المحتوى للجودة والفرادة والمهارة، وقد خدم هذه الجهود أنها جاءت في إطار الاهتمام بلغة القرآن الكريم وشريعة الإسلام التي قامت على أرفع الكلام ونزلت بأحسن الكتب، وفي هذا السياق، كان من الملهم بشكل فائق ما كان من الإجراءات النبوية التي تلفت إلى أهمية جودة الصياغة ففي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أعرابيا يقول في الصلاة “يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون، يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر الأمطار..” فوكل به من يراقبه ويدعوه إليه إذا أكمل الصلاة ووهب له ذهبا وقال له “لحسن ثنائك على الله عز وجل” كما في الحديث.
تركزت في الإسلام فكرة الاهتمام الثقافي بالمحتوى وتيسير المنصات للمؤثرين في الرأي العام فالرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعطي لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ينشد عليه قائما، ينافح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان الصحابي ثابت بن قيس متحدثا مفوّها عرف بخطيب النبي صلى الله عليه، يقدم الكلمات ويشهد معه المشاهد، وإلى جانب هذا كان الفضاء الإسلامي في العهد النبوي بيئة تتداول ندواتها المحتوى الإبداعي، بشكل له خصوصيته، فيحدث الصحابي جابر بن عبد الله قائلا “كنا نجلس إلى رسول الله ﷺ فكانوا يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فربما تبسم”.
لقد عاش الصحابة في هذه الأجواء التي عززت وطوّرت إيجابيا ما كانوا شاهدوه في الجاهلية من وسائل وإجراءات الاهتمام بصناعة التدوين وأصحابه إذ كانت القبيلة من قبائلهم حينها “إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة.. ويتباشر الرجال والولدان.. وكانوا لا يهنّئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس تنتج.”؛ حيث كان ذلك أسلوبا ضمن منظومة عملت على ترسيم علاقة العرب بالتدوين وتدشين مدونتهم وديوانهم من خلال قولة “الشعر ديوان العرب”.

قد تأتي التعليقات على التدوين من بعض المتلقين تطلب مراجعته أو توضيحه أكثر في نظرهم، مثل ما وقع لأبي تمام حيث سألوه لماذا لا تقول ما يفهم، فرد عليهم بالقول: لماذا لا تفهمون ما يقال؟!

وفي القرون الإسلامية الأولى، قامت حضارة الإسلام على الفتوحات الجغرافية وحركة التدوين والعلم الهائلة التي غذت مجالات الكتابة ورفدت العقل الإنساني وكانت خدمة للعالمين، حتى قيل إنه لما غزا التتار أرض العراق وعبثوا بمكتباتها تغير لون دجلة والفرات مكتسيا بطابع المداد جراء ما ألقي في النهرين من الكتب التي كانت الشغل الشاغل حضاريا لذوي التدوين في الأقطار الإسلامية والعربية، وساعدت مهنة الوراقة في هذا الثراء في مجال الإنتاج الثقافي ومستوى الثروة العظيمة التي خلفها كانت حركة التدوين قوية، ونشطاؤه في تنافس يؤدي لإحراز مثل بعض  الإشادات التي يصورها قول القائل في حق موصوفه:
إذا أخذ القرطاس خلتَ يمينه .. تفتّح نَورا أو تنظم جوهرا
ونجد لدى آخر قوله:
فلا يجاريه في ميدانه أحد .. يريك سَحبان في الإنشاء إن شاء
وقد تأتي التعليقات على التدوين من بعض المتلقين تطلب مراجعته أو توضيحه أكثر في نظرهم، مثل ما وقع لأبي تمام حيث سألوه لماذا لا تقول ما يفهم، فرد عليهم بالقول: لماذا لا تفهمون ما يقال؟!
 وإمعانا في تحديد الضوابط العربية للمحتوى كان العرب بعهود متطاولة قبل عصر تويتر ومنصات التواصل الاجتماعي، قد حرصوا على تقليل عدد الكلمات وتلخيص المعنى مع عدم الإخلال وذلك ما عبرت عنه قديما نظرية “إجاعة اللفظ وإشباع المعنى”، وتشرحه القولة الشهيرة “خير الكلام ما قل ودل”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...