ترعة المحمودية وأرصفة الباشا

بواسطة | أغسطس 15, 2023

بواسطة | أغسطس 15, 2023

ترعة المحمودية وأرصفة الباشا

تحدثت في مقال سابق عن ضياع بحيرة مريوط، وكيف ضاع شاطئ البحر في المدينة التي كنا نغني لها: “بين شطين وميَّة عشقتكم عِنيّا”؛ وهذه المرة سأتحدث عن ظاهرتين أخريين جميلتين تم تدميرهما تماما، هما ترعة المحمودية التي أنشأها محمد علي باشا وافتتحها عام 1820، وأرصفة السكة الحديدية بمنطقة القباري التي أُنشئت منذ عصر إسماعيل باشا في ستينات القرن التاسع عشر. والإنجازان كانا من ثمار المرحلة التي أعقبت تولي محمد علي حكم مصر عام 1805، وهو الذي -رغم جبروته وسياسته في الحكم- فتح الباب لنهضة كبيرة بالبعثات، يطول الحديث عنها.
كانت الإسكندرية قد فقدت على مرّ القرون اتصالها بالعالم، وتوقف ميناؤها عن العمل، فلم تعد مدخلا لمصر في صادراتها أو وارداتها؛ ففكر محمد علي في إنشاء ترعة المحمودية التي تربط الميناء بفرع رشيد للنيل، وأطلق عليها اسم (المحمودية) تخليدا لاسم الخليفة العثماني (محمود الثاني).. كان تعداد سكان الإسكندرية ثمانية آلاف مسكين، بعد أن كانوا يوما في العصر الهيليني خمسمائة ألف، حين كانت مدينتهم عاصمة العالم بمكتبتها وجامعتها وعلمائها وكل ما فيها؛ وبعد أن تم شق الترعة التي مات فيها الآلاف بالسخرة في العمل، قفزت الإسكندرية إلى صدارة المشهد من جديد، وتوافد عليها الأجانب من كل الدنيا، وأولهم اليونانيون الذي يعتبرون الإسكندرية مدينتهم.
شهدت الإسكندرية أكبر تجمع من الجاليات الأجنبية، فارتفع عدد سكانها في ثلاثينات القرن الثامن عشر بسرعة إلى أربعين ألفا وظل في الازدياد؛ وازدهرت التجارة وكل مظاهر الاقتصاد والثقافة، فكان الفنانون الأجانب -مثلا- يجلسون على شاطئها يرسمون لوحاتهم، ومثلهم فعل المصريون؛ ولن أدخل طبعا في الحديث عن جوانب الثقافة الأخرى مثل السينما والمسرح والصحف، فذلك قد يكون له مقال آخر. كانت السفن تأتي من أقصى الصعيد جنوب مصر محملة بالبضائع، وتتوقف في القرى والمدن فتُنزل ما فيها، وتحمل منها ما سيتم نقله إلى المحافظات التالية، ثم تعود من الإسكندرية محملة بالبضائع المستوردة أو التي تنتجها المدينة، إلى القرى والمدن في الدلتا والجنوب.. من هنا جاء الازدهار للمدينة، حتى أن مصانع كثيرة أقيمت فيما بعد على شاطئ الترعة، مثل مصانع الغزل والنسيج والزيوت والصابون وغيرها مما تم تدميره في السنوات الأخيرة.
على الجانب الآخر، انتهى إسماعيل باشا من مشروع السكة الحديدية الذي بدأه عباس الأول سنة 1851، وتابعه خليفته سعيد باشا، ثم أكمل المشروع في معظم نواحي مصر خليفته إسماعيل باشا؛ وفي منطقة القباري كانت آخر خطوط السكة الحديدية، فأقيمت الأرصفة والمخازن التي كانت لها أشكال وتصميمات فنية جميلة في البناء، إذ كانت الأرصفة من الحجر الإيطالي، وفوقها سقف “جمالون” من الصاج، يحمي البضائع التي يُنزلها العمال من القطارات من الشمس والمطر، حتى تحملها سيارات النقل الصغيرة إلى أحياء المدينة؛ ولا أنسى أن من بينها رصيفا حمل اسم (رصيف الباشا)، إشارة إلى منشئها كلها؛ وعلى الأرصفة كانت تنزل آخر البضائع بعد نزول الكثير منها في أرصفة محطات قرى ومدن في الطريق. كانت السكة الحديدية المصرية هي الثانية في العالم، ولم يسبقنا فيها غير بريطانيا.. كان نقل الركاب أمرا عاديا، ولم يكن مصدر الدخل الأهم، بل كان ذلك لنقل البضائع، ولهذا كانت السكة الحديدية في العالم أصلا.
كانت لي ذكريات رائعة مع كليهما، ترعة المحمودية وأرصفة السكة الحديد، ليس مجالها هنا، فلقد جاءت في رواياتي، وإذا أحببت أن ترى الأرصفة مثلا، فابحث عن فيلم “صياد اليمام” للفنان أشرف عبد الباقي، فهو عن روايتي التي تحمل عنوان ” الصياد واليمام “. بعد ذلك بدأت في مصر منذ نهاية السبعينات المؤامرة على النقل النهري والنقل بالسكة الحديدية، لصالح النقل بالسيارات والجرارات الضخمة وأصحابها، وشيئا فشيئا انتهى النقل النهري، وصار فيلم مثل “صراع في النيل” مجرد ذكريات!.
في الإسكندرية تركوا المباني العشوائية حول ترعة المحمودية بلا تخطيط فامتلأت بزبالة السكان، كل ذلك ليكون مبررا يوما -كالعادة في إهمال كل جميل- لردم الترعة، رغم أنها كانت آخر شريان مياه في الجنوب بعد ما جرى لبحيرة مريوط؛ وبالفعل بدأ منذ عام 2020 ردم الترعة في الجزء الخاص بالإسكندرية، وأقيم محور وطريق سريع، يفرح به من لا يعرف تاريخها ويقول لك “ما هي مليانة زبالة” ولا يسأل من سمح بذلك.. كم كتبت وطالبت أن يُبقوا عليها ويجعلوا على شاطئيها أماكن للعب الأطفال والمقاهي والمكتبات وغير ذلك إذا كان مايريدونه نقودا، لكن لا فائدة؛ لم يحترم أحد حتى تاريخها وتضحيات المصريين، فلقد مات في حفرها اثنا عشر ألفا وأكثر.. كأن أحدا من حكامنا لم يسافر في العالم، ويرى كيف يتم الحفاظ على ترع الماء مهما صغرت، ويتحول ما حولها إلى متنزهات!.
الأمر نفسه طالبت به بالنسبة للنقل بالسكة الحديدية وضرورة عودته؛ ولقد أصبحت مصر بعد توقف نقل البضائع بالقطارات البلد الأول في حوادث الطرق، كانت القطارات قبل سبعينات القرن الماضي، تُنزل البضائع في محطات المدن والقرى، فتنقلها عربات النقل الصغيرة -التي لا تزيد حمولتها عن أربعة أطنان- داخل المدينة فقط، لأن النقل خارجها كان وظيفة القطار، وكان لدينا مصنع أنشئ أيام عبد الناصر باسم “سيماف” لصناعة عربات قطار نقل البضائع وصيانتها، والآن توقف عن إنتاجها.
منذ عامين كنت في زيارة إلى الإسكندرية، وأثناء مروري في منطقة القباري قادما من منطقة العجمي، نظرت إلى يميني حيث الأرصفة فوجدتهم يهدمون فيها، وعرفت أنهم لم يكتفوا بهدم الأرصفة فقط، بل هدموا أيضا المخازن التي كانت بناياتها تحفا فنية، كان يمكن أن تكون متاحف للفن والفنانين.. تذكرت متحف “الأورسيه”، وهو من أكبر متاحف باريس الذي كان في الأصل محطة سكة حديدية، وتذكرت مبنى رائعا كبيرا في مدينة (لاروشيل) الفرنسية مكونا من أكثر من طابق، فيه قاعات ندوات وفنون ومسرح وسينما، وحين سألت عن أصله عرفت أنه كان سوقا للسمك تم نقله إلى منطقة قريبة، وتحول المكان إلى هذا الملتقى الفني والثقافي العظيم. وتذكرت يوما في مدينة فيينا بالنمسا، حيث كنت في مؤتمر ثقافي، وفي إحدى الندوات أخذونا إلى قاعة صغيرة، جدرانها عليها بقايا هباب أسود، ومعلق عليها أدوات من المقصات المعدنية والشواكيش وغيرها، وسألت عن المكان، فقيل لي إنه كان ورشة حدادة في القرن التاسع عشر ولم يعد له أصحاب، فحولوه إلى قاعة ندوات.
لن أحكي أكثر؛ ضاعت المحمودية وأرصفة نقل البضائع من أجل أصحاب عربات النقل والمقطورات الضخمة، التي تتسبب كل وقت في تدمير الطرق بما تحمله، فيعودون إلى سفلتة الطرق من جديد ويكسبون من ذلك، أو يكسب أصحابهم من المقاولين، وتستمر اللعبة. أذكر أنى لم اكتفِ بالكتابة عما قلته، بل تحدثت مباشرة في ذلك في بعض اللقاءات، فجاءت النتيجة عكس ما طالبتُ به؛ وهكذا الأمور في بلادنا، إذا تحدثت عن شيء جميل نسفوه، وعن شيء قبيح زادوا منه.. للأسف.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...