تطبيع العلم الاجتماعي وأنسنة العلم الطبيعي

بواسطة | يونيو 22, 2023

بواسطة | يونيو 22, 2023

تطبيع العلم الاجتماعي وأنسنة العلم الطبيعي

يدين محلّلو السياسة، ومتنبّئو الظواهر، ومستشرفو المصائر إلى غيب الأمور. إذ خلق الغدُ المجهول لهم فرصَ عمل، وسّعت أمامهم المضائق، وألانت لهم العرائك، وأسبلت عليهم خيرا كثيرا.
والغيب نفسه، ولاسيما الغيب القريب، قد أعضلَ الأشياءَ عند علماء الاجتماع والإنسانيات، فنراهم يفتقرون وبشدة إلى إمكان التثبّت، ويعجزون عن كشف مآل الأحوال، ولاسيما الأحوال التي يكون في وقوعها تبدلا عميقا لطبائع الأشياء وموازين القوى. المسألة لدى علماء الطبيعيات كما هو معلوم على النقيض منها عند علماء الاجتماع، فالمقاييس التي حازوها تمنحهم في كثير من الأحيان قدرة الكشف عن ماهية الظواهر الطبيعية التي بصدد أن تقع، ويكون باستطاعتهم أيضا التعرّف على حجمها ومواقيت حدوثها المتوقعة، كظاهرة المطر والرياح والعواصف والأعاصير، وحتى الزلازل وإن بدرجة أقل.

المتبصر في تاريخ نموّ العلوم في الغرب، في عمومَيْه (عمومه الطبيعي الرياضيّ وعمومه الإنساني الاجتماعي)، لن يخطئ بصره حقيقة أنهما تطورا بنحوٍ تزامنيٍّ، وأن خطوطهما المتصاعدة قد تلاقت وتقاطعت والتصقت التصاقا وثيقا.

إن هذه المعضلة -وعلى صعيد المبالغة- لتمسُّ العلوم الإنسانية في صميمها، وتحديدا في جدواها. أعني معضلة القصور في تعيين التحولات المحتملة القادمة تعيينا لا أقول دقيقا دقة تامة، ولكن يحوم حول الدقة ويقاربها. ومن أمثلة هذا الإخفاق -وهو ليس إخفاقا بقدر ما هو عجز بنيوي يلتحم في بنية العلوم الإنسانية والاجتماعية ذاتها- وبوصفه مثالا شاع في نطاق واسع، هو فشل التنبؤ بأحداث الربيع العربي، إذ لم يستطع أي من علماء الاجتماع والسياسة أن يتبيّنوا قدوم الثورات -لا في الشرق ولا في الغرب- ووقوعها المحتوم، بل كان لتحققها وقع الدهشة، حتى إن كثيرا من علماء الاجتماع ظل فاغرا فاه حينا من الدهر، غير مُصدّقٍ لما يحدث. والمفارقة أن الوحيد -تقريبا- الذي تلمّس احتمال وقوع حراكٍ [ثوري] كبير في الشرق، وتحديدا في مصر، هو جهاز الاستخبارات الأمريكي، استنادا منه -وبلا شك- إلى معلومات أمنية متواترة ودقيقة.
كثيرًا ما يثور الجدل بين علماء هاتين الجبهتين الكبريين -الطبيعيين والإنسانيين- في تحديد أي العلوم أكثر أهمية، وأيهما أعلى قيمة في حياة الإنسان اليومية. والحق أن مثل هذا الإشكال، لا يجوز -بأي شكل- اختزاله في بُعده الملموس المباشر، إذ إنه أوسع من تلك المقدمات التي ينطلق منها علماء الطبيعة في تقرير القول حول مكانة العلوم الاجتماعية والإنسانية ودورها ومغزاها.
من خلال متابعتي لهذا الجدل المتكرر، الذي يحتمي وطيسه في أروقه الأكاديميات العربية، فالثابت مما رأيت وسمعت، هو التقدير المطّرد من قبل المتخصصين في الإنسانيات تجاه العلوم الطبيعية، مقابل تقليل الطبيعيين للعلوم الاجتماعية والإنسانية الناجم أصالة عن عدم استيعاب دينامياتها.
ليس للحديث عن المفاضلة بين المجالين وزنٌ يذكر، بل إن المفاضلة لتوقع في شِراك التحيّز والتضليل والمكابرة، وتقود من ثمَّ إلى استنزافٍ لا طائلَ من ورائه. والآفة الكبيرة في هذا المقام أن تكون المنافحة عن المهنة والرغبة والميول -بما يعتريها من ضعف في التقدير ونقصٍ في التقييم- هي الدافع الرئيس وراء الحط من قيمة العلوم -إن إنسانية أو طبيعية- ومساءلتها بنحو غير علمي، البتة.
المتبصر في تاريخ نموّ العلوم في الغرب، في عمومَيْه (عمومه الطبيعي الرياضيّ وعمومه الإنساني الاجتماعي)، لن يخطئ بصره حقيقة أنهما تطورا بنحوٍ تزامنيٍّ، وأن خطوطهما المتصاعدة قد تلاقت وتقاطعت والتصقت التصاقا وثيقا. وهذا مما يثير الإعجاب من جهة، كما يبعث من جهة أخرى على التعجّب من كل أولئك الذين أمعنوا في جهلهم المركّب -من كلا الفريقين- خالعين عن كل علم قدره ومكانته.
لقد أفادت العلوم الاجتماعية من تطوّرِ العلوم الطبيعية إفادةً جمة، كما إنّ كبار العلماء الطبيعيين قد خرجوا من عباءة الفلسفة، ورموا بسهم وافر في ميادين الفكر والاجتماع وغيرها. لذا، فلا يُقبَل القول بنقصان علم عن علم، ولا يُعتَدُّ بشعار يرفعه قُصّار النظر في أولويّة علم على آخر. ويا لبؤس الإطلاقات التي لا تزن العلوم بوزنها الصحيح البيّن، كأن يقطع أحدهم بعلوِّ كعبِ مجالٍ علميٍّ محدّدٍ على غيره من المجالات، وأنه الأساس الذي تُبنى عليه الحضارة أو تُستعاد. والقول الحق هو أن العلوم تتكامل وتتواشج وترسم معا مسيرة التقدم والتفوق للبلدان والمجتمعات.
أما الالتباس بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية الاجتماعية، أعني ذلك الالتباس الذي أثار النكايات واستثار حظوظ الأنفس، وألّب الأقوام، فإنّما مردّه لحقيقة مفادها أن العلوم الطبيعية تتأسس على اكتشاف النواميس الكونية، وباكتشافها يتحقق لأصحابها القدرة النسبية العالية في رصد الظواهر وتعيينها؛ في حين يتمحور موضوع العلوم الاجتماعية والإنسانية حول الإنسان، وبما إن الإنسان ليس محكوما بنَظْمٍ صارم يُملي عليه أفعاله وتصرفاته، فمن أين لتلك العلوم -إذن- القدرة على إحكام نطاق ظواهر الإنسان إحكاما يضع بين أيديها إمكانات التنبؤ بخطواته التالية؟ قصارى الأمر -جُلّ الأمر- هو التسديد والتقريب والنمذجة المتعددة، التي تسعى نظريات العلوم الاجتماعية والإنسانية من خلالها إلى تحقيق فهم أعمق للإنسان بمرور الزمن، وتسكين أكبر لطرق تفكيره المتجددة.

حين يفشل علماء الاجتماع والسياسة في تحديد المآل الذي سيفضي بالوضع السائد إلى وضع غير سائد، أي: وضع جديد، سواء كان في هيئة تحوّلٍ على مستوى الجذور، أو على شكل تَبَدُّلٍ لبعض الموازين القائمة، فإن فشلهم هنا نسبيٌّ لا مطلق.

الإنسان كائن دولتي. وفي تكوينه النفسي والعصبي والفسيولوجي والروحي والثقافي تنظيمٌ يشبه تنظيم الدولة من حيث تقسيمه وحيويته. والدولة كائن إنسانيٌّ بلغ من العملقة مبلغا عتيّا. يتبدّى لنا في ضوء ما تآنف: منظورٌ صِيغَ لغرض تفسير أسباب التماثل بين التحديات التي تواجه دراسة الإنسان وتلك التي تجابه دراسة الدولة. لذا وبقدر ما يصعب في غالب الأحايين الوقوف على مسارات الفعل الإنساني بما يحوي هذا الوقوف من براهين جازمة، فإن استشراف مآلات الدول والمجتمعات مثل حدوث ثورة أو طروء انتفاضة صعب للغاية، بل يستحيل في بعض الحالات.
علّة ذلك هو كمُّ القرارات الهائل المتداخل في إطارٍ شاسع من التفكير وإعادة التفكير، المقيّد بمنظومة من العلاقات المعقّدة، والمحكوم بموازين تحتوي قدرا من التقارب بين قُدرَات فئاتها الاجتماعية، وبوصف تلك الفئات فواعل تقتسم الفضاء نفسه، وتمتلك ذات الخصائص والميزات العقلانية. تؤول محصّلة ما سبق إلى وجود احتمالات عديدة ضمن معادلة حاكمة. تُعَدُّ هذه المعادلة -بدورها- الضابط لما يُسمى “الوضع السائد”.
وحين تُختَرم المعادلة، فإن اخترامها لا يحدث فجأة إنما يكون نتاج تآكل طويل. وحين يفشل علماء الاجتماع والسياسة في تحديد المآل الذي سيفضي بالوضع السائد إلى وضع غير سائد، أي: وضع جديد، سواء كان في هيئة تحوّلٍ على مستوى الجذور، أو على شكل تَبَدُّلٍ لبعض الموازين القائمة، فإن فشلهم هنا نسبيٌّ لا مطلق. ذلك أنهم يبرعون في تشخيص العوامل، ويَجِدّون في تحليل مركّبات التفاعل بينها، وهذان مفصلان رئيسان في عملية دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية، ولا علم بغير تحققهما.
فإن انتهى المطاف بأولئك العلماء أن عجزوا عن تبيُّنِ مآل الظاهرة الاجتماعية أو السياسية، فإن عجزهم لا يكون سوى إخفاقٍ في جزء أوحد، ما لا يعني فشلهم التام، كما يرى المتطرفون من أساتذة علماء الطبيعة، الذين يلاقون توافقا من طرف -وللمفارقة- بعض المتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية، الغارقين في حالٍ من الكفر والإنكار.

يقول فيلسوف العلم غاستون باشلار «تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه». فإن اكتشاف الخطأ أمر اعتياديٌّ أصيلٌ في المعرفة البشرية، وهو العتبة الأولى للصواب الذي قد يتبيّن خطؤه لاحقا فيُصوَّب من جديد.

إن هذا الإخفاق في النتيجة لدى علماء الاجتماع والسياسة في تقييم كثير من الظواهر والأحداث، يشبه تمام الشبه ذلك الفشل الكائن في نتائج بعض النظريات الطبيعية، إذ يُكتشَف خطؤها بمرور الزمن من قبل عالم آخر. والاكتشاف هنا لا يعدو أن يكون تجليّا للحتمية الثاوية في منطق منظومة التطور العلمي، تلك التي يسميها مؤرخ العلم توماس كون “بنية الثورات العلمية”.
من شواهد الفشل الواقع في العلوم الطبيعية بما هو حالٌ طبيعية تلتحم في بنية العلوم الطبيعية ذاتها! يبرز لنا استدراك نيوتن على أرسطو، كما واستدراك آينشتاين على نيوتن نفسه فيما بعد.
ومثلما يقول فيلسوف العلم غاستون باشلار «تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه». فإن اكتشاف الخطأ أمر اعتياديٌّ أصيلٌ في المعرفة البشرية، وهو العتبة الأولى للصواب الذي قد يتبيّن خطؤه لاحقا فيُصوَّب من جديد.
لا بد إذن من تطبيع العلم الاجتماعي الإنساني، وأنسنة العلم الطبيعي، ليكون ذلك مدخلا للتقارب بين هذين المجالين، بعد أن فرّقهما تنامي بل تنائي: رأس مال الحرب والسوق والاستبداد.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...