تمهيد الطريق للقرن التركي!

بقلم: نديم شنر

| 22 أغسطس, 2023

بقلم: نديم شنر

| 22 أغسطس, 2023

تمهيد الطريق للقرن التركي!

ما الرسالة التي تم إيصالها للعالم من إزاحة مركبة الأمم المتحدة في قبرص إلى جانب الطريق؟.
مع “عملية السلام” في عام 1974، وضعت جمهورية تركيا بصفتها دولة ضامنة، حدا للاضطهاد في جزيرة قبرص، في مواجهة الموقف اللاإنساني لليونانيين الذين كانوا يمارسون الإبادة الجماعية ضد الأتراك منذ سنة 1960. فقد تم آنذاك إقرار “خط أخضر” بطول 180 كيلومترا، يمتد من الشرق إلى الغرب، ليقسم جزيرة قبرص إلى قسمين، الأول يشكل جمهورية جنوب قبرص اليونانية، والآخر جمهورية شمال قبرص التركية؛ وكما يوحي الاسم، فإن اليونانيين يعيشون في جنوب الجزيرة، بينما يعيش الأتراك في الشمال، وبين القسمين أُنشِئ خط أخضر، نُشرَت على طوله قوات تابعة للأمم المتحدة لحل النزاعات بين الطرفين. ومنذ عام 1974 لم تتم تهيئة الظروف للتعايش بين اليونانيين والأتراك في جزيرة قبرص؛ وكان موقف القبارصة اليونانيين، ومعهم البلد الضامن (اليونان) الذي تلقّى دعما غير محدود من البلدان الغربية، حاسما في عدائه للأتراك، كما هو معتاد في كل قضية تخص تركيا.
بالنسبة لتركيا، شكلت خطة عنان الخطوة الأكثر تقدما نحو إعادة توحيد الجزيرة، وقد بدأت مناقشتها في عام 2003، وجرى الاستفتاء عليها عام 2004. كانت تلك خطة الأمم المتحدة، وقد حملت اسم “خطة عنان” نسبة إلى كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة الذي تقدم بها، واقترحت توحيد جزيرة قبرص، المقسمة إلى شطرين تركي ويوناني، كدولة مستقلة وفيدرالية، باستثناء منطقة القواعد البريطانية؛ واقتضت الخطة أن يكون ثلث الوزارات على الأقل في جمهورية قبرص المتحدة للأتراك، وأن يتم تبادل منصبي رئيس الدولة ورئيس الوزراء بين الأتراك واليونانيين كل 10 أشهر. طُرِحت الخطة للتصويت في أبريل 2004، لكنها لم تُنفَّذ بسبب تصويت القبارصة اليونانيين لها بالرفض بنسبة 75.38%، على الرغم من أن التصويت لها بالقبول من الجانب التركي جاء بنسبة 64.91%، وذلك بناء على نتائج الاستفتاءات التي جرت في شمال وجنوب الجزيرة.
الشيء المثير للاهتمام هو أن جمهورية جنوب قبرص اليونانية، التي رفضت خطة عنان، أصبحت عضوا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي باعتبارها “دولة مستقلة”، في حين تمت معاقبة الأتراك الذين قبلوا خطة عنان المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، ولم يتم الاعتراف بدولتهم، وعوملوا كمحتلين لأراضي القسم القبرصي اليوناني التي مُنِحَت صفة “دولة ذات سيادة”، ولا يزالون يواجهون العقوبات حتى اليوم.
مع ذلك فإن جمهورية تركيا، الدولة الضامنة في مواجهة المعايير المزدوجة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، عززت مسيرتها مع جمهورية شمال قبرص التركية، وكثفت المبادرات الدبلوماسية الدولية للاعتراف بجمهورية شمال قبرص كدولة ذات سيادة، وكبداية في هذا الاتجاه شكلت الرحلات الجوية المباشرة من أبو ظبي وأذربيجان خطوات مهمة، حتى وإن كانت رمزية؛ وبالإضافة إلى ذلك، كان لانتشار خبر تقديم روسيا لخدمات القنصلية في جمهورية شمال قبرص التركية تأثيره على الساحة الدولية.
نعم، لم يتم الاعتراف بعد بجمهورية شمال قبرص التركية كدولة مستقلة ذات سيادة، لكن هذا لا يقلل من أهمية دورها الرئيس في شرق البحر الأبيض المتوسط، بل الواقع عكس ذلك؛ ثم إن في زيادة وتنويع قوة تركيا العسكرية في جمهورية شمال قبرص التركية خدمة لهذا الاتجاه أيضا؛ وهذا من التطورات المهمة التي تؤكد أنه لا يمكن اتخاذ أية خطوة في شرق المتوسط بدون تركيا، وأنه حتى لو تم اتخاذها فلن تكون ناجحة.
إن علاقة تركيا الوثيقة مع ليبيا في البحر الأبيض المتوسط، وآخر الأخبار التي تفيد بأن تركيا ستدير هناك ميناء لمدة 99 عاما، وتعزيز التعاون الدبلوماسي مع مصر، والعلاقة الوثيقة التي بدأت إسرائيل في إقامتها مع تركيا، ذلك كله لا يشد انتباه العالم فحسب، بل يُثير أيضا ردود فعل الأعداء؛ والواقع أن التوتر عند الخط الأخضر بين الجزء القبرصي اليوناني، وجمهورية شمال قبرص التركية في الأسبوع الماضي شكل انعكاسا لتلك الحالة.
حصلت صراعات على الخط الأخضر في أوقات عديدة مختلفة، وكانت قوات الأمم المتحدة تتدخل من وقت لآخر وتمارس دورها في تهدئة الأجواء، وهذا في الحقيقة من مهام الأمم المتحدة؛ لكن هذه المنظمة يبدو أنها نسيت دورها عند تنفيذ مشروع طريق بيله- ييغيتلر الذي بدأته إدارة جمهورية شمال قبرص التركية لتأمين الوصول إلى قرية بيله الواقعة على الخط الأخضر تحت سيطرة الأمم المتحدة، بل وأصبحت طرفا غير محايد في ذلك؛ حيث تدخل جنود قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في قبرص بشكل فعلي ومباشر، ضد شرطة الجمهورية التركية لشمال قبرص وفريق إنشاء الطرق، في محاولة منهم لعرقلة المشروع وإيقاف العمل فيه، وقاموا بوضع الحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة، ووضع المركبات التي تحمل شارة منظمة الأمم المتحدة “UN” على الطريق. لكن تنفيذا للأمر الذي أعطته سلطات جمهورية شمال قبرص التركية، قامت إحدى الجرافات بإزاحة المركبات التي تم ركنها إلى جانب الطريق، وكان لهذا التصرف رمزيته.
فالأمم المتحدة، التي من المفترض أنها أُنشِئت من أجل السلام وتعزيز الحوار في العالم ومنع الحروب، تصرفت كطرف صراع هنا؛ إذ الواقع أن الأمم المتحدة سمحت بمد طريق لارنكا- ديكيليا- أيا نابا، الذي أنشأه القبارصة اليونانيون في عام 1996، وتمت خلال ذلك مصادرة الأراضي التركية عمدا، وتم شق طريق بيله- فوروكليني من قِبل الجانب القبرصي اليوناني في عام 2004، والتزمت قوات الأمم المتحدة الصمت رغم اعتراضات واحتجاجات الجانب القبرصي التركي.
إن أعمال الطرق التي تريد جمهورية شمال قبرص التركية تنفيذها بالكامل لتلبية الاحتياجات الإنسانية ستكتمل بالطبع، حتى لو عملوا على إيقافها؛ ومع ذلك، فالحدث الذي جرى لا يعني فقط الرد على محاولة منع إنشاء طريق بسيط، ولكنه أيضا إشارة إلى تعزيز مكانة جمهورية شمال قبرص التركية في الساحة الدولية بدعم من تركيا.
إن سلوك مسؤولي الأمم المتحدة في مواجهة قوات جمهورية شمال قبرص التركية كان مُستفزّا، وفيه استخدام للعنف، وليس لذلك معنى آخر. والواقع أن بيانات ومواقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، كما هو حال الأمم المتحدة، تدعم ذلك التوجه؛ وإلا فكيف يمكن للمرء أن يفسر حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية رفعت حظر الأسلحة المفروض على الجمهورية القبرصية اليونانية لجنوب قبرص وأرسلت سفناً حربية إلى موانئها؟!. في مقالاتي السابقة كنت قد كتبت أن هذا السلوك، قد يأتي في إطار العقبات التي ستوضع أمام تركيا، لمنعها من أن تصبح لاعبا إقليميا في الشرق الأوسط، وفي منطقة الجمهوريات التركية في آسيا، وفي دول الخليج وأفريقيا.
هناك قول يُنسَب للسلطان العثماني العظيم محمد خان، الذي غزا إسطنبول عام 1453، وهو: “من الصعب أن تكون تركيّاً، فأنت عندها ستقاتل العالم، لكن الأصعب ألا تكون تركيّاً لأنك بذلك ستقاتل ضد الأتراك”.
نعم، تركيا التي تحاول حل الأمور بطريقة دبلوماسية مع الغرب، دفعت بالجرافة مركبات الأمم المتحدة جانبا، وهذا بمثابة العمل على فتح الطريق أمام “القرن التركي”.. إن المواجهة مع مؤسسات الدول الغربية قادمة، لكن تركيا مصممة على السير في هذا الطريق، وهي الآن على طريق اللاعودة؛ والذين هم مع تركيا سيسيرون في هذا الطريق، أما أولئك الذين يقفون ضدها فسيحددون مصيرهم بأنفسهم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في تاريخها السياسي والاجتماعي، تمثل في سقوطها بيد العسكرة الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع الهجري، وجاء في إطار الصراع السياسي والعسكري المستمر بين الإمبراطورية البيزنطية والدولة الحمدانية العربية، التي كانت تسيطر على...

قراءة المزيد
الناقد ومراوغة النص..

الناقد ومراوغة النص..

استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض الانصياع للقانون الأدبي لتكون حرة طليقة لايحكمها شيء.. وتحكم هي بمزاجها ما حولها..   تأطيرها في قانون متفق عليه لتخرج من كونها حكما مزاجيا، وتدخل عالم التدرج الوظيفي الإبداعي الذي نستطيع أن نتعامل معه ونقبل منه الحكم على...

قراءة المزيد
هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها؟

هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها؟

مع تزايد الدعوات في واشنطن لكي تتولى أوروبا مسؤولية دفاعها وأمنها، ترتجف بروكسل خوفًا من النتائج.. إن التحول في الكيفية التي ينظر بها كل من جانبي الأطلسي إلى موقف الآخر من شأنه أن يوفر الدفعة التي يحتاجها الاتحاد الأوروبي لكي يصبح حليفًا أقل اعتمادًا على الولايات...

قراءة المزيد
Loading...