جاءت غزّة.. وجاء طوفانها فأحيا الإنسان

بواسطة | أكتوبر 11, 2023

بواسطة | أكتوبر 11, 2023

جاءت غزّة.. وجاء طوفانها فأحيا الإنسان

في ظلّ هذا الانسحاب الإنساني لصالح طغيان السلاح وطغيان الاستبداد، تأتي حوادث مفصليّة لتعيد التوازن إلى طريقتنا في التفكير وتعاطينا مع قيمة الإنسان، واقعيا لا شعاراتيا.
عندما أغارت إحدى القبائل على مضارب قبيلة عبس وهزمت كبار سادتها، ومنهم شدّاد، وأخذت نساءها سبايا، واستنجد منادي عبس: “ويكَ عنترة أقدم”، تقاعس عنترة، فجاءه أبوه الذي كان يرفض الاعتراف به؛ ليس بوصفه ولدا فحسب، وإنما بوصفه إنسانا.. وقال له: “كرّ يا عنترة”، أي اهجم وحارب، فقال عنترة: “إن العبد لا يحسن الكرّ والفرّ، وإنما يحسن الحلاب والصرّ”، فقال شدّاد: “كرّ وأنت حرّ”، فقال: الآن إذن.
ما دام الإنسان في ظلّ الطغيان لا يرى نفسه إلا حلّابا للزعيم، ولا يرى الشعب والوطن إلا محلوبا له، فعن أي شيء يدافع؟ وعمّن يدافع؟! إن كلًّا من طغيان السلاح في العالم وطغيان الاستبداد في الأوطان لا يقوم بنيانُهما إلا على أنقاض الإنسان، فكلما ارتفعا كفرَ الإنسان بذاته، وانسحب مخذولًا من مشهد الفعل والتأثير.
وفي حالةٍ مثل دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهي دولة نووية، ومن أكثر الدول تفوّقا في الصناعات العسكرية، ومصدِّرةٌ لأرقى أنواع الدبابات، فإننّا نتلمّس خَوَر العروش الممتدّة من المحيط إلى الخليج أمامها، وعدم تجرُّئها على التفكير بمبدأ المواجهة، بعد أن آمنت هذه العروش بالسلاح الذي تتوسّله من عدوّها، وكفرت بالإنسان الذي حوّلته، في البلاد التي علا فيها طغيان الاستبداد، إلى عبدٍ لا يجد قيمة أو جدوى في الدفاع عن أي شيء وعن أي أحد؛ ففي زمن التماهي بين الوطن والزعيم، لا يجد الإنسان نفعا لأي بذلٍ منه سوى أنه تحسين لشروط عبوديّته.
في كل خطابات الزعماء العرب كان الشعب حاضرا بقوة، ولا تكاد تجد في خطاباتهم واحدا لا ينطوي على مصطلحات “قوة الشعب” و”إرادة الشعب” و”الإيمان بالشعب”.. وهكذا كل الذين يجثمون على رقاب الشعوب ويجلدونها بسياط الخُطب والعنتريّات عقودا مالحة، في حين أن الشّعب لا يملك من الوطن شيئا، ولا يعرف من الوطن أكثر من تماثيل الزعيم وصوره التي تتناثر على امتداد جغرافيا القهر.
حتى إذا جاءت غزّة، وجاء طوفانُها في ليل بهيم زاغت فيه الأبصار وتكلّست فيه الآمال؛ أعادت إلينا اليقين أن الإنسان لا السلاح هو الفاعل الحقيقي، وأن الإنسان هو القوة العظمى التي أهدرها الطغاة، وأن الإنسان هو قِبلة النصر الحقيقي؛ الإنسان الذي رضع الحرية حتى ارتوت منها أطراف أظافره، فهو الذي يعرف جيدا عمّن يدافع ولِمَ يكرّ.
 الإنسان لا يغدو جبانا حين يملك عدوُّه السلاح، ولكن عندما يفقد إرادة المواجهة ومبررها، فلا قيمة للشجاعة من أجل وطن ليس لنا، وكرامة لن ننال بدمائنا شيئا منها.
غزة اليوم، وهي التي لا تملك من السلاح شيئا مقارنة بما يملكه عدوها، تقول لنا إنها عندما ملكت الإنسان الذي آمن بنفسه إنسانا مقاتلا في درب الحرية، وشعبا حاضنا يتحمل المشاقّ الجسام من أجل زادٍ عظيم من الكرامة، قد أعادت للإنسان اعتباره بعد أن عمل الطغاة على تهشيمه في أشباه أوطان، وعملت عولمة السلاح على مسح قيمته في غابة يقال لها الكرة الأرضية.
فالذي يصنع النصر اليوم في غزة وطوفانها ليس السلاح ولا الصواريخ، بل الإنسان الذي عرف أنه لم يُخلق للحلاب والصرّ، بل خُلق ليكون هو غاية الحياة، وهو منطلق الحياة؛ ولكن بمنطق غزّة الفطري السويّ، لا بمنطق الطغاة المستبدين.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...