جذور الجدل الديني السياسي في تركيا الحديثة
بقلم: مهنا الحبيل
| 7 مايو, 2023
مقالات مشابهة
-
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ...
-
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق...
-
لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!
لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر...
-
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين
شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في...
-
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض...
-
شكرا للأعداء!
في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وكتاب "سراج...
مقالات منوعة
بقلم: مهنا الحبيل
| 7 مايو, 2023
جذور الجدل الديني السياسي في تركيا الحديثة
لم تكن الصدمة التي عاشها الشرق المسلم وليدة لحظتها سنة 1924م، حين أعلنت الجمعية الوطنية التركية، وهي المؤسسة البرلمانية الكبرى في تركيا الحديثة، قرار الإلغاء لـ (الخلافة) العثمانية، والذي ظل يُتداول لمئات السنين في سلطنة العثمانيين، وشكل جزءا مهما من رحلة الشرق، في رابطته الإسلامية الرمزية أو الفعلية، وفي حماية الحدود السياسية والجغرافية أمام حملات الغرب؛ كما شكل مساحة مهمة أيضا في مرارات الشرق المسلم.
هذا الشرق الذي عانى من مساحة صراعات مصلحية أو قومية في داخله، كما عانى في مواجهات العثمانيين مع حصون الغرب المسيحي الصليبي القديم، ثم قيام الغرب الحديث الذي أسقط الأستانة في نهاية الأمر، بعد أن تورطت في الحرب العالمية الأولى، حين تحالف العثمانيون مع ألمانيا النازية، برجاء أن يشفع لهم ذلك الانتصار المؤمل، في وقف زحف الدول الغربية على أقاليم المسلمين، بل وفي وقف نفوذهم القوي داخل مؤسسات الدولة العثمانية.
اليوم، تكاد تلك المعارك تكتسب قداسة خاصة لدى شرائح واسعة من الشعب، فضلا عن الأيدولوجيات الحزبية الأناضولية المتعددة، ولذلك فهي ما تزال قائمة في شعاراتها وفي روحها، رغم مرحلة حكم حزب العدالة ذو الجذور الإسلامية عند تأسيسه.
ورغم أن تلك الصدمة حملت علماء ومفكرين عديدين في الشرق المسلم، على الدعوة لإنقاذ رابطة (الخلافة)، ومحاولة إيجاد بديل لها، إلا أن الواقع الضعيف لحاضر العالم المسلم، في ذروة تمكُّن الغرب مع ما رافقه في الوقت نفسه من تخلف المسلمين متعدد الجوانب في الروح الإيمانية الأخلاقية، وفي وسائط النهضة والعمران، أسقط أحلام الجميع.
ولم يكن إعلان إلغاء مرحلة (الخلافة) مفاجئا، فلقد كان صعود الحركة القومية التركية في ذروته، وكانت آمال الأتراك الحديثة، التي تمحورت فيما بعد في مشروع مؤسس الجمهورية العلمانية المعاصرة، كمال اتاتورك، يُسمع صداها في كل أرجاء حاضر العالم الإسلامي وفي الغرب؛ وفي داخل تركيا كان أتاتورك يُنظر إليه كمنقذ وطني عسكري وسياسي، في حماية وطن قومي للأتراك، خاض في سبيله معارك مركزية قاسية.
واليوم، تكاد تلك المعارك تكتسب قداسة خاصة لدى شرائح واسعة من الشعب، فضلا عن الأيدولوجيات الحزبية الأناضولية المتعددة، ولذلك فهي ما تزال قائمة في شعاراتها وفي روحها، رغم مرحلة حكم حزب العدالة ذو الجذور الإسلامية عند تأسيسه. وهذا ليس بسبب النص الدستوري الذي يحمي قدسية أتاتورك فقط، ولكن أيضا لكون هذه القصة التاريخية، يتناقلها الأتراك كركيزة لنجاة وطنهم واستقلاله.
ففي حين هيمنت أوروبا على بقية تركة الرجل المريض، كان أتاتورك في العقل التركي المعاصر، هو من عوّض حالة الفساد والفوضى، التي عاشتها الدولة العثمانية في أواخر أيامها، وصنع قوة عسكرية إنقاذية، أُعلن فيها صمود الوطن التركي المستقل، وتطلعه إلى تتبع الخطوات الأوربية في المدنية العلمانية، التي تحولت إلى راديكالية سياسية صلبة، استهدفت الروح والقيم والشعائر الإسلامية؛ فالبربوغندا العاطفية التي تُتناقل في الوطن العربي عن قصة أتاتورك، وأنه منبوذ شعبيا ولا قيمة له في الوجدان التركي، هي رواية زائفة.
هناك عمقا آخر في تمسك الإنسان التركي بالوطن القومي الحديث، قد يغيب عن فهم الكثيرين من العرب، بين خطاب التبتل الموالي للعثمانية الجديدة، وخطاب العداء المطلق للإرث العثماني الشرقي والقومية التركية المناهضة للعرب.
ولا يشك باحث منصف بأن مشروع كمال أتاتورك، المؤسس للجمهورية الحديثة، كان مناهضا لقيم أساسية في الإسلام، وأن حركة المقاومة المدنية للشيخ سعيد النورسي وغيره من العلماء، واجهت عنف وتطرف تلك العلمانية الراديكالية، قبل أن تنضم لها قطاعات من المثقفين ومن الشعب، ثم من ميراث السياسيين الوطنيين، الذين اختلفوا مع الدولة العثمانية وعانوا من صلفها في رفض الإصلاح، لكنهم بعد أن ضيع السلاطين الفرصة، تبنوا رؤية متوازنة تسعى لرد الاعتبار للروح الإسلامية بين أجيال تركيا الحديثة.
ولكن خط الجمهورية الوليدة، وبعد إرث كبير من تضخم الروح القومية، بعضه مبرر وبعضه تحول إلى حالة عنصرية إيديولوجية، كان يبتعد تماما عن هذه الروح؛ في حين تتطلع الأجيال الجديدة إلى مدنية أوروبا، والحياة الدستورية السياسية والحقوقية، رغم أن هذا الجانب الغربي في تداول السلطة، لم يبرز في تركيا الحديثة، بل كانت السلطة محتكرة تحت إيديولوجية الرئيس أتاتورك وحزبه.
ولكن هناك عمقا آخر في تمسك الإنسان التركي بالوطن القومي الحديث، قد يغيب عن فهم الكثيرين من العرب، بين خطاب التبتل الموالي للعثمانية الجديدة، وخطاب العداء المطلق للإرث العثماني الشرقي والقومية التركية المناهضة للعرب.
فلحظة سقوط الأستانة سبقها كفاح تاريخي مدني واسع، شكل فيه الإصلاحيون الدستوريون الأتراك ذوو التوجه الإسلامي، الذي يجمع بين الروح الإسلامية، والتقدم المدني النهضوي، ورابطته مع حاضر العالم الإسلامي؛ قوة ضغط في الأستانة عبر عدة سلاطين. ولكن هذه المحاولات بمجملها لم يكتب لها النجاح، وهذه النخبة من الشخصيات التركية، وجد الإصلاحيون العرب وغيرهم، مساحة تفهم وتعاون معهم في سبيل إنقاذ (الخلافة) ووحدة الأمة الإسلامية، عبر الإصلاح الدستوري والسياسي، وعبر تنظيم العلاقات مع أقاليم المسلمين المتعددة، قبل أن تقتطعها قوة أوروبا الزاحفة. وكانت أهم عناصر التمكن الغربي: انشغال المركز العثماني بالصراعات مع الغرب، وفرض بقاء الأقاليم من خلال الفرمانات السلطانية، وإهمال مؤسسات العدل التشريعي والتنموي، وحقوق الأقاليم العربية وغيرها، وهي التي كانت تعيش عهود انحطاط وفوضى حقيقية، تتزامن مع ضعف الروح الإيمانية للشباب الغاضب من هذا الواقع، والذي شهد صراعات على أساس قومي وديني، وهو أيضا ينظر للنموذج الغربي الصاعد، كما ينظر له الشباب التركي.
في تلك العقود التي سبقت إلغاء الخلافة وما بعدها، كان التعليم والثقافة اللذان حجبهما العثمانيون عن أقاليم الشرق، يدقان أبواب إسطنبول الجديدة؛ بل وتفتح المدينة جامعاتها، وتندفع فيها المطابع، ويندفع صرير الأقلام.
دُفنت كل مشاريع الإصلاح ودعوات الإنقاذ، وشكلت كلمة السلطان عبد الحميد التاريخية، رمزية مهمة لهذا المآل، حين سعى الإصلاحيون الإسلاميون إلى رسم طريق إصلاح فيدرالي، وحيوية في النظام التشريعي العثماني، فرد عليهم بقوله: ماذا تركتم لتكية آل عثمان!. لقد كان منظور الولاء هنا، ليس للرابطة الأممية، التي تتبع مقاصد الرسالة في دلالة المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وأن الحكمة والعدالة العُمرية هي طريق النجاة، ولكنه كان للولاء لاسم الزعامة في ذات السلاطين العثمانيين؛ فانهارت لذلك الدول وقُسمت، وأُسقط المركز، ونُزعت الأقاليم.
لكن الحكاية هنا لم تنتهِ، ففي تلك العقود التي سبقت إلغاء الخلافة وما بعدها، كان التعليم والثقافة اللذان حجبهما العثمانيون عن أقاليم الشرق، يدقان أبواب إسطنبول الجديدة؛ بل وتفتح المدينة جامعاتها، وتندفع فيها المطابع، ويندفع صرير الأقلام. ثم وُلدت الجمهورية، ووقر في وجدان ذلك الجيل، أن تلك العلوم، وفضاء الحريات الغربية التي يسمع صداها، أشياء حجبها عنهم عهد السلاطين؛ فاكتسبت الروح المدنية المتولهة فكرة إيديولوجية متناقلة، بأن ذلك السوط أُشهر عليهم باسم الدين، وأن الحرية تعني رفضه؛ وبالتالي بقي للفكرة الغربية حضورها، لكن ذلك من خلال وطن قومي مستقل، كادت أن تُضيّعه السلطنة العثمانية، وترهق الأتراك برابطة الأمم الأخرى.
حينها تبين بعد فوات الأوان أن مشروع الإصلاح الدستوري السياسي، كان يخلق فكره النهضوي للتقدم بين الأمم ومقارعتها، من خلال الروح الإسلامية والمركز الأخلاقي الإيماني، دون قمع حقوق الناس وحرياتهم، لكن الرسالة لم تصل للجيل، فقطع الحبل في وسط الطريق.
رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
مع الهمجية ضد التمدن
يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...
0 تعليق