جنجويد الأمريكان وأنبياؤهم الكَذَبَة

بواسطة | أكتوبر 4, 2023

بواسطة | أكتوبر 4, 2023

جنجويد الأمريكان وأنبياؤهم الكَذَبَة

ارتبط اسم الجنجويد بالسودان، وعلى ذمة أهل دارفور في غربِهِ، هم نفر من الجن على صهوات الجياد، ظلوا منذ عام 2003 يمارسون القتل والحرق والاغتصاب والنهب بحق الزُرقة، أي من هم سود البشرة من أهل الإقليم، فالشخص الأزرق في العامية السودانية هو أسود البشرة، وفيها يُسمَّى الأسمر أخضرا، وذو البشرة الفاتحة أحمرا.
ويعود استهداف الزرقة (السود) في الأراضي الأمريكية ،على أيدي الجنجويد البيض إلى قرابة 180 سنة، فرغم أن البيض هم من استورد السود بقوة المال والسلاح، ورغم أن النهضة الاقتصادية الأمريكية منذ مطلع القرن التاسع عشر نشأت بعرق ودماء أولئك السود، فإن جزاء إحسانهم كان تعريضهم للإذلال وقتلهم بدم بارد، وقد يكون ذلك من أجل “المتعة” أحيانا. ولعل أشهر جنجويد أمريكا منظمة كوكلاكس كلان التي ولدت عام 1860، وابتدعت ما يعرف في التاريخ الأمريكي بـlynching ، وهو الإعدام خارج نطاق القانون، شنقا أو بـ”الاصطياد” بالبنادق، أو -في أحوال كثيرة- بوضع دولاب سيارة مطاطي حول الأسود المراد إعدامه وإشعال النار فيه، ليركض مُوَلوِلاً حتى يحترق بالكامل، وسط التصفيق والضحك الصاخب.
في الولايات المتحدة اليوم 48 مليشيا عنصرية مسلحة، قامت بتوسيع دائرة المغضوب عليهم من غير البيض، لتشمل اللاتينيين (السمر)، أي الوافدين من أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، وتعمل تحت سمع وبصر السلطات الأمنية الرسمية، وتمارس تدريبات الرماية والطوابير العسكرية علنا وفي مضامير خاصة بها.
وفي ألمانيا، مسقط رأس النازية، يجرِّم القانون التبشير العلني بالأفكار النازية، ولكن في الولايات المتحدة ستة أحزاب نازية، أشهرها وأشرسها “رابطة الأخوة الآرية” في ولاية تكساس، وجميعها أجندتها وأنشطتها معلنة، وتعمل على تنقية الجنس الأبيض من “الشوائب” المتمثلة في وجود السمر والسود في “أرض البيض”، وهذه الأحزاب مسنودة بقساوسة يلوون أعناق نصوص الإنجيل، ليجعلوا التمييز على أساس العرق واللون واجبا دينيا مقدسا.
وكان صعود دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة مكسبا كبيرا للعنصريين وغلاة اليمينيين، لأنه لم يُخْفِ قط أنه واحد منهم؛ وإن ما يسمى باليمين المسيحي في الولايات المتحدة، وقوامه حماة وسدنة الحزب الجمهوري، يدير مؤسسات إعلامية ضخمة تبث خطاب الكراهية العنصري، وتعضد جرائم الجنجويد البيض بتوفير غطاء وتبرير ديني لها، وهي التي أوحت لجورج بوش الابن أنّ ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية أمر من السماء، ولعل كثيرين منا رأوا نفرا من القساوسة التبشيريين وهم “يرقون” ترامب داخل البيت الأبيض، كي يحميه الله من الكورونا ومن كيد الحزب الديمقراطي.
ويتباهى الأمريكان بأنهم أكثر الشعوب المسيحية تدينا، وهذا صحيح ولكن بمعيار أنهم أكثر ميلا من غيرهم للالتجاء الى المسيح شفاهة، وأنهم الأكثر ارتيادا للكنائس، ثم تستعرض المشهد الديني في الولايات المتحدة، فيخيل إليك أن كل شريحة وكل فئة من أهلها لديها مسيح خاص، ففيها اليوم ثلاث وثلاثون كنيسة لا رابط بينها سوى “الرب”، ولكنهم حتى هنا لا يكادون يتفقون، فتجد كنائس يؤمن أتباعها بربوبية المسيح، ومنها من يفصل بين المسيح البشري والرب، ومنها من يقودها “مسيح معاصر”.
ومجاراةً للقوم البيض، وعملاً بعقلية “ونجهل فوق جهل الجاهلينا”، ابتدع بعض الأمريكان السود إسلاما خاصا بهم، ونصب إلايجا محمد نفسه نبيا مكلفا بإعادة بعث الإسلام، مع بعض التعديلات التي تكفل له مساندة بني قومه السود، فكان أن قال بأن الملائكة سود بينما الشيطان أبيض، وجعل الصوم في ديسمبر من كل عام، ولما صار تلميذه مالكوم إكس يفند تلك المعتقدات، ويصرح بأنها تخالف صحيح الإسلام، أمر بقتله.
دستور الولايات المتحدة لا يسمح بوجود فرد واحد معبود، ولكن صارت الأرض الأمريكية مرتعا خصبا لطوائف، لكل منها كهنتها وسدنتها وأنبياؤها الكذبة، فإلى جانب عشرات الكنائس ذات التعاليم الخاصة بكل واحدة منها، تنهض معابد لمعتقدات يبشر بها أشخاص معاصرون، ورغم الوقائع المتلاحقة التي تثبت أن كثيرا من تلك الطوائف مشبوهة التعاليم، بل وإجرامية الطابع، فإنه ما إن تنهار طائفة حتى تقوم بدلا عنها بضع طوائف، تختلف عن تلك المنهارة في أمور وتتفق معها في أخرى كثيرة.
في سبعينيات القرن الماضي كانت طائفة بوابة السماء هي “الموضة الأمريكية”، وفي مارس من عام 1997 أمر مرشدها الروحي أتباعه بتناول أقراص مخدرة ووضع أكياس بلاستيكية حول رؤوسهم، فكان أن مات منهم 39 على الفور. وفي مدينة سان فرانسيسكو كان جيمس وارين جونز قسا معتمدا، ولكنه رأى أن يصبح زعيما روحيا ذا تعاليم خاصة، ولهذه الغاية هاجر مع مريديه إلى غيانا في أمريكا الجنوبية؛ ولما أرسلت المباحث الأمريكية فريقا للتحقيق فيما تردد عن انتهاكات لحقوق الإنسان في المعسكر الذي أقامه لأتباعه، أمر جونز بقتل أعضاء الفريق، ثم أقنع جميع الأتباع بتناول سم السيانيد، فكان أن مات 918 منهم على الفور، ومن بينهم 304 أطفال.
في فبراير من عام 1993 توجهت الشرطة الاتحادية لاعتقال  ديفيد كوريش، زعيم طائفة الداووديين في واكو في ولاية تكساس، بعد وصول معلومات تفيد بأنه يتحصن وأتباعه في مبنى أشبه بالقلعة، ولديهم مخزون هائل من الأسلحة غير المرخص بها، وبأن النساء الداووديات من جميع الأعمار يتعرضن للعنف الجنسي؛ وصمد كوريش وأصحابه في وجه الحصار الأمني 51 يوما، ولكن ما إن نفِدَت مؤنهم حتى أشعل كوريش النار في المبنى، فكان أن هلك 75 منهم حرقا، واتضح أن كوريش اختار وسيلة أسرع للموت بأن أطلق النار على رأسه.
وهكذا فإن الأمريكان، وكما جعلوا أنفسهم شرطة العالم، نصبوا أنفسهم قضاة في كل مجال، يحتكمون إلى نصوص مطاطية تجعل منهم أخيار العالم، ثم يصنفون الذين يخالفون نهجهم أعضاء في محور الشر، وهم بهذا يرمون غيرهم بشرورهم وينسلّون.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...