جيل التقنية يقود طوفان الجامعات الأمريكية

بقلم: خالد صافي

| 26 أبريل, 2024

بقلم: خالد صافي

| 26 أبريل, 2024

جيل التقنية يقود طوفان الجامعات الأمريكية

التغريدة الأولى

“ابتداءً من الساعة 4 صباحًا، نحن – طلاب جامعة كولومبيا- نحتل وسط الحرم الجامعي، وننصب مخيّمًا للتضامن مع غزة، مطالبين بسحب الاستثمارات ووضع حد للتواطؤ في الإبادة الجماعية”.. كانت هذه هي التغريدة الأولى على حساب (طلاب كولومبيا من أجل تحقيق العدالة لفلسطين) على إكس، للتضامن مع غزة.

كان من الممكن أن تكون تغريدة عادية، تجمع مائة طالب أو ألفًا – على أقصى تقدير- للاعتصام والتعبير عن رأيهم وسط جامعة كولومبيا في مانهاتن بولاية نيويورك، ثم ينفض الجمع وتنتهي القصة بتغريدة أخرى تجمع صور المعتصمين وهم يشاركون أهل غزة مصابهم، ويرفعون عن أنفسهم ربقة التخاذل.. كان من الممكن أن تسمح رئيسة الجامعة، نعمت شفيق – خاصة وأنها من أصول عربية- باستمرار الاعتصام، ولو على الأقل من باب التنفيس عن الطلاب وإعطائهم شعورًا زائفًا بالتأثير، لكنها اتخذت ضدهم عقوبات أكاديمية واستدعت الشرطة لأولئك الذين نصبوا خيامهم في الحرم الجامعي، لتعتقل أكثر من مائة متظاهر بدعوى إثارة الفوضى، ما دعا آخرين للتظاهر نصرة لزملائهم، وتدحرجت الأحداث وبدأ طوفان الجامعات.

طوفان الجامعات

فار التنور في الساحل الشرقي وتهاوت الجامعات، الواحدة تلو الأخرى، وانطلق جيل Z التقني متسلحًا بأدواته الرقمية للصعود على متن سفينة الطوفان؛ للتعبير عن رأيه وحشد المناصرين باستخدام المنشورات على مواقع التواصل، مع الوسوم والصور والمقاطع المرئية، فركب في السفينة من كل ولاية جامعة أو اثنتان للاحتجاج على مصادرة حق الطلاب في الرأي، والتعبير عن استيائهم من تواطؤ حكومة بلادهم مع الاحتلال في جريمة الإبادة ضد غزة، وفي أيام قليلة امتدت المظاهرات الطلابية لتشمل الجامعات الأمريكية طولاً وعرضًا، من أبرزها جامعات بوسطن وجورج واشنطن وييل وميشيغن وهارفارد و UNC وMIT وغيرها، ولم تنحصر الاحتجاجات في الطلاب، بل انضم إليها أعضاء هيئة التدريس، ثم أهالي المعتصمين أنفسهم، بعدما تعرض أبناؤهم للقمع والاعتقال، ما أصابهم بصدمة حضارية صدّعت أسوار المبادئ التي تربوا عليها.

صدمة الحضارة

الصدمة التي تلقّاها الجيل زادت الاحتجاجات عنادًا، ومدّت في عمرها، صدمة في إعلامه وشرطته ومسؤوله، الثلاثي الذي كان يدين له بالولاء والتقديس، وإذ به يرى كل شيء آمَن به يتهاوى بين عشية وضحاها، فقدَ مصداقية إعلامه لمّا أذاع أخبارًا ملفقة عن طبيعة الحراك والمحتجين وهمّش تأثيرهم، وفقد أمنه لمّا انبرى رجال الشرطة للتنكيل بالمتظاهرين ومصادرة حقهم في الاعتصام السلمي، وفقد انتماءه لما رأى المسؤول يأمر باعتقاله ويتهمه بالانحياز إلى جهات مشبوهة.

وأخيرًا فقد بوصلته حين انهار أمامه حق الإنسان في الحياة والكرامة، الشعار الذي رفعه في الاحتجاجات، فإذا بالدولة تمنعه من استخدامه، وهي التي تتخذه ذريعة لتبرر هيمنتها على أي دولة أخرى.

السياسيون التقليديون والمتظاهرون الجدد

لا شك أن الأنظمة الأمنية تتوارث الجينات ذاتها، وتصنع أعداءها بأيديها، وتزيد دوافع الثأر الشخصي بشكل مطرد في كل مرة تتعامل فيها بهمجية مع المتظاهرين السلميين، والعجيب أنها في كل مرة تظن أنها ستنجو بفعلتها، وأن إعلامها المنحاز قادر على نجدتها وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه بضغطة زر، متجاهلة سلاح الفضاء الرقمي الذي تمكنت منه أيدي رواحل الجيل، وقدرته على رصد وتوثيق الانتهاكات، وإبقاء جذوة الثورة متقدة، وجاهلة أن الجيل الذي خرج في المظاهرات ما عادت تستهويه أروقة السياسة ولا التعامل مع الأحداث بدبلوماسية.. بهاتفه المحمول يبحث عن الحقائق، وينحاز إلى الحق، وينشر الحقيقة بالصوت والصورة والكلمة التي لم يعد في مقدور الأنظمة حجبها؛ لذا أعلن متظاهرو جامعة كولومبيا من اللحظة الأولى عن ثلاثة مطالب رئيسية على صفحاتهم الرقمية، هي وقف إطلاق النار، ووقف المساعدات العسكرية لإسرائيل، وسحب استثمارات الجامعة من الشركات التي تستفيد من العدوان الإسرائيلي على غزة.

في المقابل، كانت تهمة «معاداة السامية» فزاعة تقليدية جاهزة من السياسيين لتنميط المعتصمين وردعهم عن مواصلة احتجاجاتهم، وهي الذريعة الوحيدة لداعمي الاحتلال، وكأنهم يخربون قِيَمهم بأيديهم، ويجرفون ما زرعوه على مدى عقود طويلة في أجيال عشقت الحلم الأمريكي والعيش في بلد الحريات، فإذا بهم يقدّمون أمن الاحتلال على كل الجرائم التي ارتكبها أو سيرتكبها بحق الآخرين، حتى ولو وصلت حد جريمة الإبادة الجماعية.

إنهم يتخبطون

وفي محاولة لوأدها، حاول الإعلام الرسمي إقناع الجمهور أن خلف الاحتجاجات مؤامرة كونية، حيث أكدت صحيفة فوكس نيوز أن “هذه الأفكار لم تأت من فراغ، فهناك خوارزميات تيك توك، وتعليم المساواة ونظرية العرق الحرجة، كل ذلك يعزز الكراهية التي نراها في الشوارع”، في حين أكد رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون أن حماس دعمت الاحتجاجات في جامعة كولومبيا.

أدرك قادة الاحتلال خطر الحراك الطلابي على كيانهم، وأن شرعيته على المحك، وأن الحراك قادر على إنهاء نظام الفصل العنصري في الكيان؛ لذا سارع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ببث خطاب موجه للمعتصمين عبر منصات مواقع التواصل، حاول فيه أن يقرن بين الشعارين “الموت لإسرائيل” و”الموت لأمريكا”، على اعتبار أنهما شعاران يرددهما المتظاهرون في احتجاجاتهم، في محاولة بائسة منه لشيطنة المنظمين للاعتصامات، ولم يكتف بذلك بل هدد وتوعّد بـ”الرد للدفاع عن الطلاب اليهود الذين يتعرضون للاعتداء”، حسب تعبيره.

كما غرد حساب على إكس موثق باسم (الموساد)، مهددًا الطلاب المتظاهرين والمنظمين للاحتجاجات في الجامعات الأمريكية باستخدام تقنية التعرف على الوجوه للوصول إلى المشاركين، وابتزهم بإيقاف شهاداتهم الجامعية ودرجاتهم، وألمح إلى أن فرص توظيفهم ستكون محدودة.

الخطر الحقيقي

يكمن الخطر الحقيقي وراء هذه الاحتجاجات في من أطلقها وموطن انطلاقها، فهذه الجامعات العريقة تخرّج قادة أمريكا، وترسم سياسة المستقبل وتوجهاته السياسية، وليس من الصحي انتصار مظاهرات بمزاج مضاد لتوجهات البيت الأبيض، بينما انتصار القوة الأمنية على الاحتجاجات الشبابية هو هزيمة لمستقبل الحريات والقيادات الشابة.

احتواء الأزمة وإنهاؤها في أسرع وقت دون وقوع المزيد من الأضرار الجانبية هو ما تسعى لتحقيقه الإدارة الأمريكية، والنقطة الحرجة التي تخشى منها هي وقوع أحد المتظاهرين قتيلاً، خاصة في عصر مواقع التواصل وتقنيات البث المباشر، وهذا ما جنته بدعمها اللامحدود للكيان في عبثه بالأرواح وتماديه في القتل، فإذا بالنار تحرق مُسعّرها.

الإعلام الرقمي يدعم الجيل الجديد

حين تغفل الحكومات عن معرفة مزاج الجيل على الشبكات التقنية، وتنسى أن قوته في امتطاء صهوة ثورته الرقمية، حينئذ يسبقها هو بسنوات ضوئية، ما يفسر تهاوي قدرة أجهزتها على إحكام القبضة الأمنية على الشارع، فهي لا تتعامل معه إلا بلغة البطش والقمع والسجن وتلفيق التهم للمتظاهرين؛ ويفسر في الوقت نفسه تنامي قوة الجيل حين يستخدم أدوات الإعلام الرقمي للانتشار بشكل أفقي سريع، لحشد المتضامنين تحت مظلة الحريات والحقوق العامة، من خلال التغريدات المكثفة والمنشورات المدعمة بالأدلة والبراهين، والصور والمقاطع التي تقلب الطاولة على المنظومة برمتها.. هي لا تقبل بالتغيير، وتريد استنساخ الأجيال وفق رؤيتها، وهو يكتشف مع الأيام تواطؤها؛ فتزداد الهوة بينهما اتساعًا.

صدمة الجيل في إدارة البلاد

كاد هذا الجيل يؤمن أن أمريكا هي البلد الوحيد الذي يدافع عن حريات الشعوب وحقوق الإنسان، وكانت صدمته حين تعرّض على مدار نصف عام لجملة من الحقائق والصور التي توثق مساندة أمريكا للاحتلال، ودعمها له بأحدث التقنيات العسكرية والأسلحة المتطورة لقتل الأطفال والنساء في غزة، وتمده بمليارات الدولارات من الضرائب التي يدفعها، في الوقت الذي يئن فيه الاقتصاد الأمريكي من أزمات غير مسبوقة، رأى بعينه كيف تتهاوى كل قيم الديمقراطية وحرية التعبير حين يصدح ضد الصهيونية بشطر كلمة، وشاهد بلاده تستخدم الفيتو على مشروع قرار عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، وهي التي تدعي إداراتها المتعاقبة أنها تسعى لحل الدولتين!

حسب مركز Pew للدراسات، فإن 60% من الشباب الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً يساندون الشعب الفلسطيني في معاناته، مقابل 46% يساندون إسرائيل، و58% من الأمريكيين يرون أنه يجب السماح بحرية التعبير لمعارضة حق إسرائيل في الوجود.

تؤكد هذه الأرقام أن الأجيال الجديدة في أمريكا تغيرت نظرتها لطبيعة الصراع، ولم تعد تحت تبعية ثقافية تفرض هيمنتها على تفكيرها أو توجيه رؤيتها، طالما بقيت أدوات الثورة الرقمية للوصول إلى المعلومة متاحة بين يديها.

اقتلاع من الجذور

طوفان الجامعات سيتمدد ويتمرد ويجتاح الولايات وما بعدها، ويكشف القناع الذي تسربل خلفه تمثال الحرية، ليرى أهله سوءته؛ وسيتمادى الطوفان على البحار والمحيطات ليصل إلى عواصم أخرى، كيما ينالها من تقصيرها بحق دماء الأبرياء في غزة نصيب، فهو سيقتلع العشبة الضارة التي غرسوها في خاصرة بلادنا، ليشتت شملها ويعيدها سيرتها الأولى.

3 التعليقات

  1. Reem Aboheef

    جميله كالعاده

    الرد
  2. حبيب

    بارك الله فيك أخي وإن شاءلله الله في ميزان الحسنات يارب

    الرد
  3. رحيق شهاب الدين

    مواقف تاريخية لطلاب وأساتذة الجامعات الأمريكية الأحرار، وسيمتدُّ طوفان الأقصى إلى كل بقاع الأرض بإذن الله؛ معركة طوفان الأقصى المباركة معركة تحرير عالمية، حيث أنها لا تشمل فقط تحرير أقصانا وأسرانا وفلسطين الحبيبة🤍من دنس الصهاينة المحتلين، بل إنها أيضاً معركة تحرير الأمة الإسلامية والعالم بأسْرِه من دنس ورجس وسرطان الصهيونية…

    نسأل الله لأمتنا الهداية والثبات، وأن يعزَّ الإسلام والمسلمين بدخول أحرار العالم في دين الله أفواجاً لينالوا رضوان الله في الدنيا والآخرة بإذن الله.

    شكراً جزاك الله خيراً وبارك الله فيك أستاذ خالد.🤍

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

همام ليس في أمستردام!

همام ليس في أمستردام!

لم يكن استدعاء في محله! فعقب الموقف البطولي لأحرار المغرب في العاصمة الهولندية "أمستردام"، استدعى البعض عبر منصات التواصل الاجتماعي اسم فيلم "همام في أمستردام"، ولا يمكن قبول هذا الاستدعاء إلا من حيث أن "القافية حكمت"، فلم يكن هذا الترويج لفيلم خفيف كالريشة، إلا في...

قراءة المزيد
400 يوم من الحرب

400 يوم من الحرب

كيفَ تطحنُ الآلة العسكريّة في شعبٍ أعزلَ على مدى أربعمئة يومٍ ويبقى أهلُها على قيد الوجود؟ إنّ حريقًا واحِدًا شَبّ في روما أيّام نيرون قضى على أكثر من عشرة أحياء في روما من أصلِ أربعةَ عشرَ حَيًّا ودمّر كلّ ما فيها ومَنْ فيها. ليسَ صمودًا اختِيارًا وإنْ كان في بعضِه...

قراءة المزيد
ترامب في البيت الأبيض مجدداً

ترامب في البيت الأبيض مجدداً

لا شك أن الفوز الذي أحرزه الجمهوريون بقيادة دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابق، والفائز الحالي في انتخابات 2024، يشكل فوزاً تاريخياً، كما قال عنه ترامب نفسه.. هذا الفوز يأتي في مرحلة بالغة التعقيد محلياً ودولياً، حيث يقف المجتمع الدولي فيها على حافة أزمات اقتصادية...

قراءة المزيد
Loading...