حقيقة الرسالة والنبوة | ومظاهر تكريم الإنسان

بواسطة | أغسطس 4, 2023

بواسطة | أغسطس 4, 2023

حقيقة الرسالة والنبوة | ومظاهر تكريم الإنسان

النبوة والرسالة اصطفاء خالص من عند الله، يختص به من يشاء من عباده، وليستا شيئا يكتسبه العباد من ذات أنفسهم بعمل يعملونه من جانبهم؛ وكل ما يقع للبشر في حياتهم هو من عند الله، ولكن الله قدَّر أن يكون للإنسان جانب من الكسب في كل ذلك، فقد أعطى الإنسان القدرة على المعرفة، ووهب له ذكاء يتفاوت من شخص إلى شخص، ومنحه طاقة تتباين أيضا بين فرد وآخر، ثم كلفه أن يعمل، وأن يبذل جهدا معينا لتحصيل المعرفة، واستخدام الذكاء في عمارة الأرض وغيرها من شؤون الحياة؛ قال تعالى: {هو الّذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وإليه النّشور} [الملك: 15]؛ وقال تعالى: {هو الّذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61]؛ وقال تعالى: {الّذي علّم بالقلم علَّم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 4 ـ 5]؛ وقال تعالى: {واللّه أخرجكم من بطون أمَّهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لعلَّكم تشكرون} [النحل: 78].
ويستطيع الإنسان بتحصيله الشخصي أن يُنمّي ما هيَّأ الله له من مواهب، فيستطيع مثلا أن ينمّي قوته الجسدية بالرياضة البدنية والتدريب، فيصبح قوي الجسم، متين العضلات، ويستطيع أن ينمّي قوته الذهنية بالتدريبات العقلية، وتعلُّم العلم، وإمعان الفكر، فيستنبط ويكتشف ويخترع ويدبر ويخطط، ويستطيع أن ينمّي قوته الروحية بالامتناع عن بعض لذائذ الحسّ، وبالتأمل وبإبعاد النفس بعض الوقت عن عالم الحس القريب بصورة من الصور، فتصفو روحه، ويكتسب طاقة روحية كبيرة. كل هذه الأعمال هي في أصلها موهبة من الله، وهي فيما تنتهي إليه كسب يكسبه البشر بجهد يبذلونه، وتحصيل يكدون فيه ويكدحون.
  أمّا الرسالة والنبوة فموهبة من الله ذات طبيعة مختلفة، إنه لا يد للإنسان فيها ولا كسب ولا اختيار، إنّما هي اصطفاء خالص من جانب الله سبحانه وتعالى لعبد من عباده يجتبيه، وينعم عليه، ويبعثه بالهداية إلى الناس؛ قال تعالى: {اللّه يصطفي من الملائكة رسلاً ومن النّاس إنَّ اللَّه سميعٌ بصيرٌ} [الحج: 75]؛ وقال تعالى: {أولئك الّذين أنعم الله عليهم من النّبيين من ذرِّيّة آدم وممَّن حملنا مع نوح ومن ذرِّيّة إبراهيم وإسرائيل وممَّن هدينا واجتبينا} [مريم: 58]؛ وقال سبحانه في إبراهيم عليه السلام: {ولقد اصطفيناه في الدُّنيا} [البقرة: 130].
والنبوة واسطة بين الخالق والمخلوق في تبليغ شرعه، وسفارة بين الملك وعبيده، ودعوة من الرحمن الرحيم تبارك وتعالى لخلقه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وينقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة؛ فهي نعمة مهداة من الله تبارك وتعالى إلى عبيده، وفضل إلهي يتفضل به عليهم، وهذا في حق المرسَل إليهم؛ وأما في حق المرسَل نفسه، فهي امتنان من الله يمنُّ بها عليه، واصطفاء من الرب له من بين سائر الناس، وهِبَة ربانية يختصه الله بها من بين الخلق كلهم. ولا تُنال النبوة بعلم ولا رياضة، ولا تدرك بكثرة طاعة أو عبادة، ولا تأتي بتجويع النفس كما يظن من في عقله بلادة، وإنما هي محض فضل إلهي واصطفاء رباني، فهو جل وعلا كما أخبر عن نفسه: ﴿يختصُّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم﴾ [البقرة: 105].
فالنبوة لا تأتي باختيار النبي ولا تُنال بطلبه، ولذلك لما قال المشركون: ﴿وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجُلٍ من القريتين عظيم﴾ [الزخرف: 31]، أجابهم الرب تبارك وتعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسمون رَحْمَتَ رَبِّكَ نحن قَسَمْنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ﴾ [الزخرف: 32]؛ فالله تعالى هو الذي يقسم ذلك ويتفضل به على من يشاء من الناس، ويصطفي من يشاء من عباده، ويختار من يشاء من خلقه، ما كانت الخِيَرة لأحد غيره، وما كان الاجتباء لأحد سواه. (كتاب النبوات، ابن تيمية، 1/20)
وإن الإيمان بالنبوة هو الطريق الموصل إلى معرفة الله ومحبته، والمسلك المفضي إلى رضوان الله وجنته، والسبيل المؤدي إلى النجاة من عذاب الله والفوز بمغفرته. يقول ابن تيمية – رحمه الله -: والإيمان بالنبوة أصل النجاة والسعادة، فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والإيمان والكفر، ولم يميز بين الخطأ والصواب. (كتاب النبوات، 1/337).
وإن حاجة العباد إلى الإقرار بالنبوة أشد من حاجتهم إلى الهواء الذي يتنفسونه، وإلى الطعام الذي يأكلونه، وإلى الشراب الذي يشربونه؛ إذ من فقد أحد هذه الأشياء خسر الدنيا، أما من عَدِم الإقرار بالنبوة فخسارته أشد وأنكى، إذ خسر الدينا والآخرة –عياذاً بالله تعالى-. ولا شك أن معرفة الله، والإيمان به وعبادته، ومعرفة رسوله وطاعته، أهم ما يحتاجه كل مخلوق مكلف؛ ومن حكمة الله تعالى أنه كلما كان الناس إلى معرفة شيء أحوج، جعله -جل وعلا- سهلاً ميسراً غير ذي عوج. (درء تعارض العقل والنقل، 9/66)
ولحاجة الناس إلى معرفة النبوة، والإقرار بالرسول، فقد وضحها المولى عز وجل في كتابه توضيحا أعظم من أن يشرح في هذا المقال، إذ الشرح يطول؛ يقول ابن تيمية -رحمه الله-: فتقرير النبوات من القرآن الكريم أعظم من أن يشرح في هذا المقام، إذ ذلك هو عماد الدين، وأصل الدعوة النبوية، وينبوع كل خير وجماع كل هدى.
إن يوسف -عليه السلام- النبي الكريم قام بواجب النبوة وتبليغ الرسالة على نهج إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، وإن يوسف عليه السلام من صفوة الخلق الذين أكرمهم الله بالنبوة، وقام بدعوة التوحيد وإفراد العبادة خير قيام، ونفع الله به الناس في عصره على مستويات عدّة في العقائد والأخلاق والاقتصاد وإدارة الأزمات. وكان قدوة مميزة كمّله الله بالأخلاق الفاضلة، وعصمه من الشبهات والشهوات النازلة؛ فساهم في تطهير النفوس وتزكيتها وتطهيرها من كل ما يضرها، وظهر أثره على كل من احتكَّ به، من امرأة العزيز وصاحبيه في السجن والملك وإخوته…إلخ.
ومن الأمور التي تميز بها الأنبياء:
1- الوحي.
2- الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
3- الأنبياء لا يورثون.
4- تخييرهم عند الموت.
5- لا تأكل الأرض أجسادهم.
6- العصمة.
وقد ذكرت تفاصيل ذلك بالأدلة، مع قضايا تتعلق بهذا الموضوع كالفرق بين النبي والرسول والنبوة والرسالة، وحقيقة النبوة، والحكمة من بعث الرسل، ووظائف الأنبياء والمرسلين، وأهمية الإيمان بالأنبياء والمرسلين، وأولي العزم منهم؛ في كتبي: (نوح عليه السلام والطوفان العظيم وميلاد الحضارة الإنسانية الثانية) و(إبراهيم خليل الله) و(موسى كليم الله)، فمن أراد التوسع فليرجع إليها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...