حكام ومعارضون وشعوب “يمثّلون على بعضهم” !

بقلم: شريف عبدالغني

| 14 مايو, 2024

بقلم: شريف عبدالغني

| 14 مايو, 2024

حكام ومعارضون وشعوب “يمثّلون على بعضهم” !

في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية التي تحاصر كثيراً من بلدان الأمة على امتداد الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج، يشكك كثيرون في خفة دم الشعب العربي، ويقولون إنه لم يعد قادراً على إنجاب “كوميديانات” جدد، وأن روح النكتة والمسخرة ذهبت في خضم صراع الكائن المسمى “مواطن عربي” على قوت العيال.

لكن المتابع لشؤون وشجون السياسة العربية، لن يتعب في اكتشاف أن الكوميديا لا تقتصر فقط على تصرفات أهل السلطة، خصوصاً الممثلين منهم الذين يخرجون على شعوبهم في صورة الأب الحنون كبير القرية راعي القيم.. العفيف.. اللطيف.. الظريف، وأنها – الكوميديا- تمتد وتتوغل لتغلف تصرفات وتصريحات الإخوة المعارضين هنا وهناك، لدرجة تجعلهم إذا وجدوا مُخرجاً يكتشفهم أكبر منافسين لنجيب الريحاني وعبدالفتاح القصري وعبدالسلام النابلسي ودريد لحام في المسخرة، والقدرة على “زغزغة” جماهير الشارع لانتزاع الضحكات منهم.

أتاحت لي ظروف عملي أن أغطّي انتخابات مجالس بلدية ونيابية في أكثر من بلد عربي  منذ العام 2000؛ وكانت الملاحظة المشتركة بينها أن المعارضين “يمثلون” أنهم معارضون، بينما الحكومات “تمثل” أنها ديمقراطية، وانتقلت العدوى إلى الشعب ليقف في طابور لجان التصويت ليمثل أنه يُدلي بصوته، والنتيجة أننا إزاء دول عبارة عن “استوديوهات تمثيل”!

كنت أضحك في سري، حينما أجد معارضاً شرساً خلال مؤتمر انتخابي يهاجم الحكومة بعنف، لكنه في الوقت نفسه يشيد بحاكم الدولة ودوره في تنميتها واستقرارها، وقيادته سفينة الوطن بحكمة وحنكة ومهارة وسط الأمواج المتلاطمة؛ ولا أدري لماذا يصرون على اختيار “سفينة” وسط البحر كوسيلة نقل يقودها الحاكم، لماذا – مثلاً- لا يقود سفينة الصحراء.. الجمل؟!

 مازال هاجس نقد المسؤول الأكبر يدخل في باب العيب مع أنه أساس الحرية، ودور المعارض أصلاً أن يقدم نفسه بديلاً لنظام الحكم القائم، وهذه أول قواعد اللعبة الديمقراطية؛ لكننا طبعا شعوب “متربية”، وفي قول آخر مواطنون شُرفاء، نسمع كلام الكبار بعدم اللعب في الشارع السياسي.

عاصرت كثيرين من صنف المعارضين الذين وصلوا في البراعة الكوميدية إلى حد التفوق على محمد هنيدي والأحمدين حلمي ومكي؛ لعل في مقدمتهم الراحل أحمد الصباحي، وكان زعيم ما يسمى بـ “حزب الأمة”.. كان كل همّ هذا الرجل تأليف كتب قراءة الكف والطالع، وارتداء الطربوش، والزواج حتى آخر العمر، واكتسح كل زعماء المعارضة في المسرح الساخر خلال أول انتخابات رئاسية تشهدها مصر في 2005، حيث ترشّح منافساً للرئيس مبارك رحمه الله، لكنه خرج بعد التصويت ليقول بفخر إنه أعطى صوته لمبارك!!

وعلى نسق الصباحي، عشنا أواخر عهد مبارك فقرة ساخرة مع الملياردير السيد البدوي، رئيس حزب الوفد السابق، فبعد “هلّيلة” صاحبَت انتخابه رئيسا للحزب العتيد، الذي أسسه الزعيم الخالد سعد زغلول وشكّـل الحكومة أكثر من مرة خلال العهد الملكي، كانت صحف الحكومة والصحف الخاصة على حد سواء تحيط الرجل بهالة ضخمة من الغزل والهيام، رغم أن تاريخه السياسي “لا شيء”.

كان الرجل يملك أربع قنوات فضائية، صحيح أنه ليس من بينها قناة سياسية جادة، بل كلها تدور في فلك المنوعات والمسلسلات والأفلام وكرة القدم، لكنها كفيلة بفتح أبواب ما يطلق عليه في الوسط الصحافي المصري “سبابيب” لتقديم برامج أو إعدادها أو الاستضافة مقابل مبلغ مالي، ومن هنا ازدادت حدة المديح له، كما سارعت شخصيات كثيرة معروفة، لا يجمع بينها أي رابط فكري أو سياسي، بالانضمام إلى حزبه أملاً في تقديم برنامج في إحدى فضائياته، وكان منظراً لافتاً ظهور البدوي بنفسه أثناء توقيع أي عضو جديد على استمارة العضوية، حتى إن البعض شبهه بعدلي القيعي، مسؤول التعاقدات بالنادي الأهلي حينذاك، وهو يظهر أثناء توقيع اللاعبين الجدد على الانضمام للفريق.

كان البدوي لا يكف عن التصريحات المضحكة، إذ كان يردد باستمرار “لست طمعانا في كرسي الحكم، ولا مقاعد مجلس الشعب”.. إذا كان لا يطمع في الحكم ولا في مقاعد البرلمان، وهو رئيس حزب معارض عمله الأساسي أن يقدم نفسه بديلا في الحكومة، فما هي “شغلته” إذن؟!

عموماً، الرجل الذي أقسم أنه لا يطمع في منصب ولا مقاعد برلمان، أثبت أنه بالفعل كذلك، حيث اختفى تماماً عن المشهد – سواء السياسي أو الإعلامي- دون أن نعرف لماذا جاء على رأس أحد أكبر الأحزاب الليبرالية العربية، ولماذا راح.. والله جاب.. الله خد.. الله عليه العوض.

أما الراحل الدكتور رفعت السعيد، والذي جلس على المقعد نفسه الذي شغله مناضل كبير وشخصية عظيمة هو خالد محيي الدين، الزعيم التاريخي لليسار المصري في رئاسة حزب “التجمع الوطني التقدمي الوحدوي”، فلم يكن يقل كوميديا عن البدوي، إذ كان الدكتور رفعت لا يعارض الحكومة، وإنما يعارض من يعارض الحكومة!! وخصص قلمه – غزير الكتابة- وصحيفته – كبيرة المساحات- لمعارضة من يخالفونه في الرأي.

ولأن قدر مصر التاريخي باعتبارها “قلب الأمة” أن تؤثر في “الأطراف” بمحيطها العربي، فقد انتقل المشهد المصري إلى كثير من بلاد العرب.. ما حدث في مصر سنة 1952 رأيناه في دول عدة، فظهرت أنظمة عديدة أخرى تحاكي نظام يوليو عبد الناصر، ولما قام السادات بتوقيع “كامب ديفيد” كان عمله مقدمة لتوقيع “أوسلو” و”وادي عربة”، ورحِماً خرجت منه كل أفكار التطبيع الحالية في عموم الأمة مع الكيان الصهيوني، الذي يوشك أن يتغير اسمه في الإعلام الرسمي العربي إلى “دولة إسرائيل الشقيقة”.

بالتالي.. وبالتبعية..

 فقد تكررت على المستوى العربي ظاهرة “كوميديا المعارضة”.. لقد رأيت أثناء تغطيتي للعديد من الانتخابات في كثير من الدول، مثل نماذج الصباحي والبدوي والسعيد وغيرهم، من شخصيات “تمثل” دور المعارض، بينما تحركها من بُعد أصابع خفيّة تدير المشهد من وراء ستار.

أما قمة الكوميديا..

 فهو ما يحدث في القنوات التلفزيونية السورية حالياً، إذ ظهرت هوجة برامج للتنفيس عن الناس، تنتقد الأوضاع الخدمية والمعيشية، وتتيح المجال لأشخاص ينتقدون ويعارضون ويطالبون الحكومة بتحسين الأوضاع، لكن بمجرد أن ينطقوا اسم بشار الأسد، تتبدل اللهجة وتلهث الأنفاس وهي تعدّد مزاياه وتتغزل في سجاياه، وتشرح كيف يقود محور “الممانعة”، وبالتالي يغور أي نقص في الخدمات وكلام عن انعدام للحياة الكريمة، ما دام القائد بخير وصامداً في وجه المؤامرة الصهيونية!!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...