حينما يقع أهل الفن في فخ قصور الحُكم!

بواسطة | فبراير 6, 2024

بواسطة | فبراير 6, 2024

حينما يقع أهل الفن في فخ قصور الحُكم!

يتناول المقال تأثير الأنظمة الحاكمة على المثقفين والفنانين في العالم العربي، موضحًا كيف استفادت بعض الأنظمة منهم لأغراض سياسية بينما واجه آخرون التضييق والتهديدات.
يسلط المقال الضوء أيضًا على البحث عن الحرية الفنية والتعبيرية رغم الصعوبات التي يواجهها الفنانون والمثقفون في بعض البلدان العربية.

المثقفون والفنانون في العالم العربي – بين الشراك والتضحية

في مقال الأسبوع الماضي، كتبت أن أول شخصين استفادا من وجود ملايين المصريين في العراق خلال ثمانينيات القرن الماضي، أحدهما الرئيس الراحل صدام حسين، حيث دشن نفسه زعيماً شعبياً حقيقياً في الشارع المصري، والثاني المطرب الكبير سعدون جابر الذي أحبه “مصريو العراق” وأصبحوا سفراء له، وعبْر شرائط الكاسيت نقلوا صوته إلى عموم الجمهور في الداخل المصري، فصنعوا له شعبية كبيرة.
بعد المقال تلقيت تعليقات عديدة من أصدقاء عراقيين، منها أن سعدون لم يستفد فقط من وجود المصريين في بلاده، بل استفاد من صدام حسين نفسه، وأنه كان أحد أبواق نظامه.
حقيقة.. يقودنا تعليق هؤلاء الأصدقاء إلى قضية مهمة، وهي وقوع المثقفين عموماً، وأهل الفن خاصة، في فخ أو شراك العديد من أنظمة الحكم العربية، التي لم يتوقف فسادها على الحياة السياسية أو الاجتماعية في عموم الأمة، لكنها أفسدت كثيراً من النُخب الفكرية وكبار القامات الفنية بـ”سيف المعز وذهبه“. هذه النُخب وتلك القامات تُعد – لو حسن توظيفها لخدمة المجتمع وقضايا الأوطان- قوى ناعمة حقيقية تُحسّن من صورتنا العامة أمام العالم.
لقد وقع كثير من الفنانين – وسأركّز هنا على أهل المغنى خصوصاً، ونحن بصدد الحديث عن عمنا سعدون جابر- سواء برغبة منهم أو مُكرهين، في أفخاخ قصور الحكم، إما طمعاً في خيرها، أو محاولة لدرء شرها؛ فخاضوا معها معاركها، وعملوا على مسح بلاطها مما يعلق فيه من أوساخ بفعل قرارات خاطئة أو تصرفات طائشة لسكانها.

في حالة سعدون جابر تحديداً، نحن أمام تساؤل يحتمل إجابتين: أتطوع بإرادته لخدمة النظام، أم إنه تعاون معه مُكرهاً؟
لأني أحب هذا الرجل ومُنحاز له، فليس لديَّ خيار سوى تصديق روايته بشأن علاقته بنظام صدام.. سعدون جابر فنان كبير، ومثقف حقيقي حاصل على الدكتوراه؛ سمعته كثيراً يتحدث في لقاءات تلفزيونية عن هذه العلاقة، من نبرات صوته أحسبه صادقاً بشأن إجباره من قِبل نظام صدام حسين على أداء أغنية “شعبنا العربي” بعد غزو الكويت عام 1990، والتي كانت سببًا في مقاطعته فنيًّا من السعودية لمدة 30 سنة. قال النجم الكبير في مقابلة مع برنامج “مجموعة إنسان”، الذي يبث على قناة “إم بي سي”، إن إحدى الحلقات القريبة من السلطة استدعته، وعرضوا عليه أغنية مليئة بالشتائم ضد قيادات السعودية ومصر والكويت في تلك الفترة، لكنه رفض لأنها لغة شارع ولا يصح أن يقدم هذا الفن.
وأضاف عندليب العراق القول إنه دخل في صراع مع النظام وقتها، حتى جاءته قوة عسكرية في منزله تطالبه بتسجيل الأغنية فورًا للإذاعة، وإلا سيتم إلقاؤه في سجن أبوغريب؛ ما اضطره إلى غنائها. وتابع سعدون قائلاً إنه قابل وقتها الشاعر ومدير الإذاعة والتلفزيون العراقيين سامي مهدي، الذي قال له إنه سيتم إلقاؤه بسجن أبو غريب إذا لم يغن الأغنية وستنتهي حياته بهذا السجن، موضحاً أنه طالبه بغنائها وتهذيب كلمات الأغنية على طريقته حتى ينقذ حياته.

ما عاشه المطرب العراقي الكبير مر به فنانون عرب كُثر مع أنظمة مختلفة؛ لقد غنوا للحُكّام، مجدّوا معاركهم حتى لو كانت خاسرة، حوّلوهم عند الشعوب إلى أبطال لا يعرفون سوى الانتصار، وأساطير لم تلدهم ولّادة، وعباقرة يفهمون في مختلف العلوم، وملائكة “تُنقّط حنيّة” على أبناء الوطن. كان الملعب وقتها خالياً من المعلومات، بالتالي أثمرت أغاني المطربين في تجميل صور قبيحة ووجوه عليها غبَرة، لحُكّام جلبوا الويلات والهزائم لشعوبهم، في زمن لم تكن فيه مواقع تواصل، ولا إعلام بديل ينقل الحقائق، ويكشف المخفي للرعيّة.
أم كلثوم في مقدمة هؤلاء! غنت للعصر الملكي المحافظ، ثم للعصر الجمهوري الثوري، بدون أن تشعر بأي تناقض بين مفردات وأفكار هذا وذاك.
بعدها عبد الحليم حافظ، وهذا الفنان حكايته حكاية، و”لو حكينا ياحبيبي نبتدي منين الحكاية؟!”.. مثلما أشعل هذا المطرب العظيم الحرب بين معاصريه بين “حليمي” و”كلثومي” و”فيروزي“، فقد كان سبباً في عركة ما زالت منصوبة في مصر حتى الآن بين “الناصريين” الذين يعتبرونه ابناً بارّاً لعبد الناصر ومشروعه، وبين “الساداتيين” الذين يقسمون أنه كان مُجبراً على تمجيد العصر الناصري، وأنه عاد لرشده وغنّى لبطل الحرب والسلام “عاش اللي قال للرجال عَدُّوا القنال”.

في ظني الشخصي، أن عبد الحليم لم يكن ناصرياً ولا ابناً شرعياً لمشروع عبد الناصر العروبي القومي، كما لم يكن ساداتياً ولا منتمياً لانفتاحه.. حليم كان ابناً لنفسه، مُنتمياً فقط لمشروعه الخاص وطموحه الشخصي، ويذهب إلى من يجني من ورائه المصلحة والمكانة والمكسب بالبقاء على عرش الغناء؛ إذ كان على يقين بعد ما حدث مع المطرب والملحن الكبير محمد فوزي، أن السلطة لو غضبت على فنان فـ”قل عليه يا رحمن يا رحيم”.
لقد سمعتُ تسجيلاً إذاعياً للقاء مع عبد الحليم خلال أحداث مايو 1971، التي أسماها الساداتثورة التصحيح” بعد قضائه على من وصفهم بـــ “مراكز القوى“، ويقصد بهم الوزراء وكبار المسؤولين المتبقين من عصر عبد الناصر؛ إذ دخلوا في صراع معه لتمسكهم بنهج زعيمهم الخالد الراحل، بينما كانت إرهاصات مشروع السادات قد بدأت وملخصه “السير على خط سلفه عبدالناصر بـــــــ… أستيكة”!.

تحدث عبد الحليم في اللقاء وكأنه متحدث باسم السادات نفسه، وراح يعدد ما كان يريده أصحاب “مراكز القوى”، ويبين ضرورة القضاء عليهم، رغم أنه كان يُفترض منه أن ينحاز إليهم، فهم من أرادوا إبقاء فكر ورؤى الزعيم الذي غنى له “ياحبيب الملايين” و”ريّسنا ملّاح ومعدّينا” و”كانت الضربة القوية من الميدان في إسكندرية.. صرخة أطلقها جمال.. إحنا أمّمنا القنال.. وضربة كانت من معلم.. خلّى الاستعمار يسلّم”، وغير ذلك الكثير !
أزعم أن عبدالحليم لو كان عاصر عهد مبارك، أو أي رئيس لاحق من بعده، لما قصّر في التغنّي بأمجاده؛ فهو – رغم موهبته الفذة وصوته البديع- كان يتعامل مع الحُكّام بمنطق أي فهلوي مصري “اللي يتجوز أمي أقوله يا عمي“!.
تبقى فيروز وحدها، التي نأت بنفسها عن أفخاخ ومخالب قصور الحُكم، فغنت بحنجرتها الذهبية للقدس، وللوطن مجرداً دون أن تربطه بأي رئيس أو مسؤول. واللافت أن العديد من مطربي لبنان – ربما للانفتاح الفكري في هذا البلد- ساروا على النهج الفيروزي مع لمسة ثورية أضافوها، ومنهم مارسيل خليفة وجوليا بطرس.

وباستثناء تجربة الشيخ إمام عيسى والشاعر أحمد فؤاد نجم، فإن الساحة المصرية لم تشهد مطرباً يغني للوطن بصدق وحب دون ربطه بمصلحة من وزير أو غفير، اللهم إلا تجربة حمزة نمرة التي ما زالت في طور التشكل، وليس معروفاً إذا كان سيصمد في هذا الطريق، أم سيقع في الفخ الذي جعل موهبة مثل محمد ثروت ينتهي تماماً بنهاية عصر مبارك، إذ اعتبره كثيرون مطرباً للحزب الوطني الحاكم أيامها، وأن صوته احترق مع حريق مقر الحزب على كورنيش النيل!
ليت أنظمة الحكم العربية تبحث عن طريق آخر لتجميل صورتها، بدلاً من حرق أصوات مثقفين ونُخب وفنانين يحبهم الناس، ويتمنون أن تبقى سيرتهم خالية من النفاق والتزلف وقلة القيمة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...