خمسة دروس من تجربة الحياة

بقلم: كريم الشاذلي

| 23 مارس, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: كريم الشاذلي

| 23 مارس, 2024

خمسة دروس من تجربة الحياة

كأي تاجر محترف، يتعامل العاقل مع شهر رمضان كأنه نهاية مرحلة وبدء مرحلة أخرى، يجلس في خلوته التي يستطيع أن ينفرد فيها بقلبه، ويحضر عقله معه، ويبدأ الجرد!

جرد فِكَر ثبت خللها، وتجارب تحتاج إلى أن تحتل جانب الأولوية في حياتنا، وصغائر ثبت أنها لم تعد تليق بنا، لا سيما وأن الشعيرات البيضاء تسللت في خفة لتعلن أن الشيب لم يعد بعيدًا.. كل هذا يحتاج إلى كشف حساب مستمر.

التاجر الذكي يفعلها كلما حانت فرصة ليوقف مد الخسائر، فيحاول أن يبتعد عن صخب الدنيا وضجيجها، ويعيد ضبط البوصلة؛ إذ الاشتباك مع الأحداث اليومية كفيل بأن يغرقك فيها فتذهل عن رؤية الصورة الكاملة، كفيل بأن يصيبك بالإنهاك، والأخطر أن يحول دون حدوث تغير في تفكيرك ورؤيتك، فتكون عرضة للوقوع في الأخطاء لمرة ثانية وثالثة.. وللمرة الألف.

ولقد تعلمت ـ وما زلت ـ من الفترة الماضية خمسة دروس هامة، أحببت أن أشاركك إياها:

الدرس الأول: قليلة هي معارك الحياة الصفرية

المراهق دائماً يتعامل مع الأمور بمنطق أكون أو لا أكون، حدي النظرة، عنيف في تبني الآراء، والحياة تقسو كثيراً على المراهقين، لا تتورع عن تلقينهم الدرس تلو الآخر بشدة وعنف.

تعلمت الآن أن الحياة أكثر براحاً من فِكَري ومعتقداتي وما أؤمن به مهما بدا لي صحيحاً، ومعاركها تحتاج إلى المرونة والتفاوض أكثر مما تحتاج إلى التصادم المستمر، ومن يدخل معاركها بمبدأ “أكون أو لا أكون” في الغالب لن يكون!

 أنا هنا لا أتحدث عن معارك إثبات الذات والطموح، بقدر ما أتحدث عن مجمل تصادماتها، الحياة تحتاج إلى تعلم فقه المرونة، وفضيلة الصمت، ومهارة التأمل، وغير قليل من أدبيات الاعتذار والتسامح، والتراجع خطوة أو أكثر عن تقدم كنت تظنه صحيحاً وأثبتت الأيام غير ذلك.

الدرس الثاني: الحيرة طريقك للطمأنينة

لا تركن إلى الموروث مهما بدا لك آمناً، أتقن فن السؤال، كن مستفزاً ما أمكنك ذلك!

فلقد تعلمت أن الحياة لا تبوح بأسرارها لمن أغلق باب عقله عن فريضة التدبر، واحتمى بأرض المألوف ولم يهاجر إلى دروب الدنيا الواسعة ليفهم ويتأمل ويتدبر، الصدمة آتية لا محالة، غير أن صدماتك وصداماتك وأنت تبحث عن الأجوبة جهاد مبرور إياك أن تترفع عنه، ذلك أن البديل سيكون صدمات مزلزلة لفِكَرك التي ظننت أنها خلاصة الحكمة، وسقوطك حينها سيكون مروعاً.

 لا تحتمِ بنصائح شيخ، ولا تطمئن لتجربة مفكر، ولا تقبل الوجبات الجاهزة، اصنع وجبتك بنفسك، ولا تخش الخطأ والزلل، سل عن الله والناس والحياة، أعد طرح الأسئلة البديهية، وشكك في كل الإجابات الجاهزة، لقد خلقك الله حراً ووهبك عقلاً هو آية من آياته، صدقني.. تعطيله لحساب الآخرين هو كفر بأنعم الله عليك، ولن يوصلك أبدا إلى طمأنينتك المرتجاة؛ وهب أنك ودعت دنياك حائراً، وتركتها وأنت تسعى للوصول، أليس هذا بأفضل من راحة موهومة وسكون لم يفد الحياة بشيء؟

كل الأفكار المبدعة، والتحديات الخلاقة، والتطورات في هذه الحياة.. ذلك كله أتى من قِبل الحائرين، الذين احترموا عقولهم وقرروا أن يخلخلوا أرضاً طالها بوار الكسل والتقليد، ونفثوا فيها من أرواحهم الوهاجة، فأخطؤوا حيناً وأصابوا أحياناً، والاجتهاد عليه أجر ولو كان خاطئاً.

الدرس الثالث: لا تبتئس لغلبة الشر

انظر في كتب التاريخ، وسترى الحقيقة جليّة، الشر على مر الزمان هو صاحب الكلمة العليا، والظلم خيّم على دنيانا منذ الفجر الأول، قابيل وإن كان أول من خطّ سطرًا في كتاب القهر فإنه لم يكن الأخير، إبراهيم أبو الأنبياء أُلقي به في النار، ونوح احتمى بالسفينة، وموسى خرج بأهله خائفًا في ظلمة الليل، ولوط لم يجد له ركنًا آمنًا يحميه، ورأس زكريا تلاعبت بها بغي، ورأس الحسين لحقتها هي الأخرى.

لحكمة أرادها الله ولا نعلمها أبناء قابيل يحكمون الأرض، والعدالة لم تسيطر على دنيانا إلا لحظات كسنا البرق، يقينا هناك ثمة حكمة، ربما هي تأكيد لمفهوم الاختبار في الدنيا، ربما هي التمحيص.. لا بأس، ما أراه وأؤمن به الآن أن دوري في المعادلة هو ما يجب أن أشغل بالي به، ما الموقع الذي يجب أن أجد نفسي فيه؟ أي جيش سأنضم إليه؟

الحياة قصيرة مهما بدا لنا غير ذلك، ومقاومة الشر بكل أشكاله يجب أن تكون ديدن أهل الحق كل حسب طاقته وقدرته، لقد طلقت اليوتوبيا منذ زمن، لم أعد أحلم بأرض الميعاد، سيهبط الستار وأنا في أرض المعركة، كل ما يشغل بالي الآن أن أكون في المكان الصحيح يوم تنتهي الحكاية.

الدرس الرابع: اغتنم صفو الليالي

استمتع بالحياة قدر استطاعتك، حربك ستضع أوزارها لساعات فاغتنم من طيب لذتها، لو كنت مؤمناً بالنبي محمد فيسرني إخبارك أن حياته ـ على مشقتها ـ لم تخل من متعة صادقة بالحياة، وكل ما ثبت عنه في ذم الدنيا كان وفق معادلة مشروطة، وهو ألا تنغمس فيها فتطغى، وتنسيك هدفك الأسمى وغايتك الأهم.

 دعك ممن يحاول إخبارك أن ربح الآخرة يستوجب خسارة الدنيا، فبعضهم يكذبك والأكثر موهوم.

ارتدِ أجمل ثيابك، ضع أجمل عطورك، أطلق نظرك واستنشق من عبير الدنيا واملأ رئتيك جيداً، ليرى الله أثر نعمته عليك.. ليس فقط في ملبسك وزينتك، وإنما في إقبالك على الدنيا وحبك لها، والذي سينعكس على خلقه، اُنثر السعادة بين الناس، فإنهم أضعف بكثير مما يظهرون، لا تؤجل متعة أنت قادر عليها، فالدقائق التي تذهب لا تعود.

 الدرس الخامس: العائلة تأتي أولاً

هذه كانت نصيحة الدون في فيلم “الأب الروحي”، وقد يصيب رجالُ العصابات أحيانا!

لا شيء في الدنيا يساوي راحة الانتماء، ولا انتماء يسبق أبدًا انتماءك لأسرتك، ووضعها قبل أي شيء.

لأعترف، أنا لم أعرف هذا مبكرًا، طموحاتي الشخصية قللت من انتمائي، وبحثي عن ذاتي ذهب بي بعيدًا عنهم، غير أنه لا بأس من الحضور متأخرًا ومحاولة تصحيح ما ذهلت عنه لزمن.

 وأجزم أن غير قليل من ارتباكنا يأتي من غياب الانتماء، الأسرة وحدها هي القادرة على لملمة شتات روحك، أبناؤك هم من يجمعون ما تكسر منك في معركة الحياة، مخدعك الآمن لن يكون إلا في حضن زوجك، ولن تجد كراحتها طبيبًا يداوي جرحك.

مؤسسة الأسرة اليوم في خطر داهم، ولعل هذا يفسر لنا حالة الاضطراب التي تخيم على دنيا الناس، إنهم لا يجدون الملجأ الذي يستريحون فيه، فيخرجون علينا كل يوم بأرواح أنهكها الأنين، ووجع لا يعرفون له سببا.

 الساعات التي تقضيها في بيتك ليست وقتًا ضائعًا، كل كلمة، كل ابتسامة، كل توجيه، كل مشاكسة.. كل شيء من ذلك قادر على ملء حياتك بالتفاصيل المبهجة، ونشر الدفء والمودة، ومن ثم الشعور بقيمتك الحقيقية، فقط جرب أن تنظر إلى الأمور من هذه الزاوية.

هذه خمسة دروس علّمني إياها التأمل، شكَّلت لي قدرًا لا بأس به من الراحة الحقيقية، آمل أن تجد فيها شيئًا يمكن أن يفيدك في مشوار حياتك.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

سوريا وثورة نصف قرن

سوريا وثورة نصف قرن

سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...

قراءة المزيد
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع "إصلاح" مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا...

قراءة المزيد
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها أهليته لأن يكون حاكماً عربياً مكتمل الموهبة، فلم يعد ينقصه شيء لاستقلال دولته، بل وأن يكون الحاكم على غزة عندما تلقي الحرب أوزارها، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل قبل أن يفعلها! فعلها أبو مازن، فقد أغلق مكتب الجزيرة في رام...

قراءة المزيد
Loading...