دانشمند: تحولات الغزالي وروح عصره (1)
بقلم: إبراهيم الدويري
| 4 يونيو, 2024
مقالات مشابهة
-
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ...
-
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق...
-
لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!
لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر...
-
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين
شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في...
-
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض...
-
شكرا للأعداء!
في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وكتاب "سراج...
مقالات منوعة
بقلم: إبراهيم الدويري
| 4 يونيو, 2024
دانشمند: تحولات الغزالي وروح عصره (1)
من محاسن الكتابة عن عمل أدبي لكاتب بمنزلة أحمد فال ولد الدين أنه يريحك من عناء الأبجديات النقدية، التي يختبئ وراءها الأكاديميون عادة ليحاكموا الكُتَّاب إلى قوانين أضحت لطول استخدامها قوالب جاهزة لخنق النصوص، وسلبها محاسنَها أو إلباسها من أثواب الفضل ما لا تستحق، تحاملا أو مجاملة.
ولم يكن للكاتب عن أعمال ابن الدين أن يستريح من ذلك العناء لولا شجاعة أحمد فال الأدبية التي اقتحم بها عالم الرواية، وهو يوثق قصة اختطاف فريق قناة الجزيرة في ليبيا عام 2011، ثم في كتابته لرواية تاريخية عن شخصية أدبية تأسيسية بمنزلة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت204هـ)، مازجا فيها بين عصرين مختلفين وبيئتين متناقضتين وبطلين بهموم شتى.. فكان “الحدقي” البكر الروائي الجاد لأحمد فال، وهو السلف الصالح لرواية “دانشمد”، الصادرة حديثا عن دار مسكلياني.
ليس غريبا أن يكون أبو عثمان سلفا لأبي حامد، فكم أشعري خرج من ظهور أهل العدل والتوحيد، بمن فيهم مؤسس المذهب الأشعري نفسه، ولئن اعتبر مؤرخو الأشاعرة أن ظهور الإمام أبي الحسن الأشعري مثَّلَ لحظة بلوغ الفكر العقدي الإسلامي رشدَه ونضجَه؛ فإن الرواية التاريخية بالنسبة لي وصلت مع رواية “دانشمد” ذروة إمتاعها وإغرائها.
تدور الرواية حول حياة الإمام حجة الإسلام الغزالي الشخصية، وتحولاته الفكرية والعملية، وتجاربه السياسية والروحية، واشتباكه مع قضايا عصره؛ ولن يفهم قارئ معاصر سيرة هذا الإمام حق فهمها في عمل روائي ما لم يعش أجواء عصره وأحداثه المتدفقة في ثنايا 636 صفحة، يزور القارئ فيها مدن الإسلام النابضة بالعلم والحياة والحضارة حينها، في الطابران وطوس ونيسابور وأصفهان وبغداد ودمشق والقدس ومكة، بل وفي كليرمونت الفرنسية والقسطنطينية.
لا يمر القارئ بهذه المدن مرور العابرين وأبناء السبيل، بل يعيش تفاصيلها الجغرافية ويمتلئ أنفه من “روائحها العطرة”، ويعرف أزقتها وأسماء شوارعها ودروبها، وما يروج في أسواقها من مواد وبشر، وفي مكتباتها من كتب ومصنفات، وما يشغل بال طلاب العلم في مساجدها ومدارسها.. وما تتهامس به ربات البيوت وأمهات الأولاد في أفنية البيوت عن الرجال والحرائر والإماء، وما يحاك في القصور من مؤامرات سياسية بين الأشقاء والأقارب والتيارات السياسية، وما يناقشه الحشاشون في الغرف المظلمة من خطط لاغتيال رجال الدولة والمؤثرين، ورصدهم للأجواء العامة، وطرق تواصلهم وأساليب تمويههم وتخفيهم عن الأعين المترصدة.
يستمع القارئ في هذه الأمصار العامرة إلى أزيز حجج المتناظرين في الأديان والعقائد والمذاهب، ويرى كتبا تشتعل، وأقواما يتظاهرون احتجاجا على فقرات في كتاب لم ينصف إمام مذهبهم، ويصغي فيها إلى حشرجات المتصوفة المنقطعين في الخانقاوات، لا يقطع صمتهم الطويل إلا ذكر أو تأوه، تستوقفه حالات وجدهم وجذبهم وبذاذتهم التي يقابلها ترف لا حدود له في القصور والدور المجاورة.
تأخذ الرواية قارئها خارج المدن الإسلامية حيث سنابك خيول القادة الطامحين، المتصارعين داخليا والمحاصر بعضهم لبعض، وحيث أفواج الغزاة القادمين من معاقل الصليبية المتوثبة حينها لقضم العالم الإسلامي، وبين تلك المدن التي كانت تعيش ذروة تواصلها الحضاري والتجاري كانت القوافل لا تهدأ، وبُرُد الرسائل لا تكلّ، والحمام الزاجل لا يتوقف.
بين هذا الموج المتلاطم من الأحداث المتناقضة والأهواء المتضاربة كان “دانشمند” محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي حاضرا في كل التفاصيل، تلاحقه كاميرا أحمد فال القلمية في أزقة الطابران، وهو طفل يتيم يلعب مع شقيقه أحمد أمام حجرة طينية ضيقة، ووالدتهما تنظر إليهما بشفقة الأم التي تتضاعف على محمد الذكي “الهادئ الصامت دوما كأنما جاء الحياة على كبر”، وتتساءل في سرها: هل تحميه نباهته من أنياب الأقدار؟
في الجزء الثاني سنرى مدى صدق حدس الأمهات، وأين وصلت بالغزالي نباهته، وما فعلته به الأقدار في سرائه وضرائه.
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
مع الهمجية ضد التمدن
يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...
تعليق غني ومدخل فسيح للرواية يشدك اكثر لقراءتها بل ربما يكون ضروريا لكشف نقابها وهتك اسوارها واسرارها
لا جف مدادك اخي الكريم