دعوة أبينا إبراهيم (عليه السلام) لمكة والمسجد الحرام .. السبب والأثر

بواسطة | يوليو 1, 2023

بواسطة | يوليو 1, 2023

دعوة أبينا إبراهيم (عليه السلام) لمكة والمسجد الحرام .. السبب والأثر

من جملة ما ذكره الله سبحانه عن أبينا إبراهيم عليه السلام؛ دعاؤه لمكة بالأمن والأمان، وعرض الله لنا هذا الدعاء في كتابه الكريم مرتين؛ الأولى: قبل بنائه الكعبة فجاء في سورة البقرة المدنية {ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً} [سورة البقرة: ١٢٦]. والثانية: صدر فيها دعاء إبراهيم بعد بناية الكعبة فجاء التعبير في سورة إبراهيم المكية {ربِّ اجعل هذا البلد آمناً} [سورة إبراهيم: 35]؛ والمعنى هنا: ربّ اجعل هذا المكان الذي مصّرته وصيّرته معرّفاً كما سألتك من قبل، اجعله آمناً. ولقد مهّد إبراهيم -عليه السّلام- بهذا الدعاء الذي استجابة الله له السبيل للعابد في هذا البلد أن يتمكن من عبادته، بلا خوف أو تهديد من عدوّ، وساد الأمن والطمأنينة والاستقرار في ربوع مكة، وعمّ الخير فيها وكثر ساكنوها، وتوافد إليها أصحاب الحرف والتجارات.
وقال تعالى في سورة إبراهيم: {ربِّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام} [سورة إبراهيم: 35]. وهذه بداية الآيات التي اشتملت على فقرات كثيرة من الأدعية، ومنها ما جاء على سبيل الرمز والتعريض تأدباً وحياءً، وأكثرها جاء عن طريق الإيضاح والتصريح استعظاماً وطمعاً، ونلاحظ أن إبراهيم مزجها بالثناء والحمد لله في أولها وأوسطها وآخرها.
وفي قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد آمناً}:

{وإِذ} أي واذكر ما جاء على لسان إبراهيم، وقد رفع دعاء للخالق المربي طالباً عطاء الربوبية من الرب الكريم سبحانه وتعالى.
{ربِّ} وقد تكرر الدعاء هنا مستفتَحاً بلفظ {ربِّ} الذي يدل على تذلل الداعي وخشوعه من رغبته الأكيدة في الاستجابة من المدعو عزّ وجل.
{اجعل} وهذا يدل على رقة إبراهيم وسلاسة دعائه وانكساره بين يدي الله تعالى.
{هذا البلد آمناً}: فالملاحظ هنا مجيء لفظة (البلد) معرّفة بــ”الـ”، بينما خلت من هذا التعريف في الآية الواردة في سورة البقرة {ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً}، وما ذاك إلا أن الدعاء أولاً كان لمكة المكرمة قبل أن تكون من جملة البلاد، إذ كانت مجرد واد قفرٍ خال من كل شيء، فطلب عليه الصلاة والسلام الدعاء لها أولاً لتتمكن هاجر وابنها إسماعيل، عليه الصلاة والسلام، من سكنى المكان والبقاء فيه، أما وقد استقر الأمر وأصبحت بلدا كسائر البلاد آهلا بالناس عامراً بما فيها، فكان من الطبيعي، بل من حكمة النبي الكريم، أن يدعو لها بالأمن، إذ لا قيمة للحياة في بلد خالٍ من الأمن.

ومر أن كلمة (بلد) جاءت مرتين في القرآن الكريم بصيغتين مختلفتين، وإذا تساءلنا: كيف جاءت “بلداً” النكرة في سورة مدنية، بينما جاءت “البلد” المعرفة في سورة مكية، وكان المتوقع أن يكون العكس؟ فالجواب: لأن ذلك الكلام كان حكاية عن إبراهيم عليه السلام، فلا فرق بين نزولها بمكة أو المدينة. (وجوه البيان في دعاء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، سميرة عدلي محمد رزق، ص130)
لقد أصاب إبراهيم -عليه السلام- الحقيقة في دعائه المذكور؛ لأن الأمن مصدر الخيرات، وأعظم نعم الله على بني الإنسان إذ به تتم أعمال الدين والدنيا، ولذلك سئل بعض العلماء: الأمن أفضل أم الصحة؟ فردّ قائلا: لو أن شاة انكسرت رجلها لصحّت بعد مدة من الزمن، ولقامت بعد ذلك مقبلة على الرعي والأكل؛ ولو أنها رُبطت في موضع ورُبط بالقرب منها ذئب، لأمسكت عن تناول الأكل إلى أن تموت، وإن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدل على أن الضر الحاصل من الخوف أشد إيلاماً من الضر الحاصل من ألم الجسد.
وطلب إبراهيم – عليه السّلام – الأمن لمكة واستجاب الله له دعاءه، فخصها بمزيد من الأمن، فهي دوحة الإيمان، وفيها أول بيت وضع للناس في الأرض للعبادة والأمن والإسلام، فأمن الخائف إذا التجأ إليها، حتى كان المرء يلقى قاتل أحب الناس إليه فلا يمسه بسوء أو مكروه.
لقد أدرك إبراهيم -عليه السّلام- بما وهبه الله من عقيدة راسخة منذ آلاف السنين، أن البلد الذي أقيمت فيه الكعبة الشريفة لن يكون بلداً يرفع الحضارة الإنسانية الربانية بحق إلا إذا كان آمناً، وفعلا استجاب الله لدعاء خليله، فحتى طيره لا يطارد، بل حتى نباته لا يُعضد، أمّا عن حجاجه فحدث ولا حرج؛ وحتى عندما أشرك الناس كان للبيت حرمته، وبقي الأمن فيه.
فلتنتبه البشرية اليوم عندما ترسي قواعد العمران أن ترسي أسباب الأمن معها؛ وهي لن تكون آمنة بحق إلا إذا استمدت قوانين تعاملاتها ممّا جاء في شريعة الإسلام من كليات في هذا الشأن، ومن بينها أنّ جبريل ما زال يوصي النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجار حتى ظن أنه سيورثه، فأين مثل هذه المعاني مما تتألم البشرية من ويلات فقدانها في حواضر العالم مترامية الأطراف، حيث يتجرع المواطن من مرارة الفزع ما لا يخطر على بال مما لا يتفنن الأدباء في تصويره عسى أن يظفروا بشيء من الأمن، ولكن يبقى هذا الأمن بعيداً، ذلك أنهم ضلوا سواء السبيل. (وإبراهيم الذي وفّى، فرحات بن علي الجّعبيري، ص93).
إن نعمة الأمن نعمة ماسة بالإنسان، عظيمة الوقع في حسِّه، متعلقة بحرصه على نفسه، والسياق هنا يذكرها ليذكِّر بها سكان ذلك البلد، الذين يستطيلون بالنعمة ولا يشكرونها، وقد استجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم فجعل البلد آمناً، ولكنهم سلكوا غير طريق إبراهيم، فكفروا النعمة وجعلوا لله أنداداً، وصدوا عن سبيل الله، ولقد كانت دعوة أبيهم التالية لدعوة الأمن.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...