ذِمَم الناس
بقلم: كريم الشاذلي
| 19 يناير, 2024
مقالات مشابهة
-
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ...
-
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق...
-
لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!
لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر...
-
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين
شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في...
-
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض...
-
شكرا للأعداء!
في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وكتاب "سراج...
مقالات منوعة
بقلم: كريم الشاذلي
| 19 يناير, 2024
ذِمَم الناس
تقدم هذه المقالة رحلة فلسفية وعملية نستلهمها من لقاء بين عمر بن الخطاب وطليحة الأسدي، تُلقي الضوء على تحديات التعامل مع تباين المشاعر وتناقضات البشر في مسارات الحياة. يسعى المقال إلى تقديم منهجية تساعد على التأقلم مع التحديات الشخصية والاجتماعية.
تفهُّم حكمة القدر – رحلة التأقلم مع تناقضات البشر
يُروى أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قابل طليحة الأسدي حينما جاء ليعلن إسلامه، وكان طليحة قد ادَّعى النبوة وحدثت بينه وبين المسلمين حروب، قُتل في إحداها الصحابي الجليل عكاشة بن محصن، الذي بشَّره النبي بالجنة، فقال له عمر: «قتلت عكاشة، لا يحبك قلبي أبدًا»، فقال له طليحة: «فمعاشرةٌ جميلة يا أمير المؤمنين، فإن الناس يتعاشرون مع البغضاء».
قرأتُ هذه القصة منذ زمن، فتعلمت منها أن مشاعر القلب يجب ألا تكون هي المتحكم الأول في علاقتي مع شركاء الحياة، ذلك أنها تُصدر أحكامها بتطرف، وقد تسجن أحدهم في صفة، وتخلع عن آخر خصالًا؛ ولو تركنا القلب يصنِّف الناس ثم يرفع أحكامه لننفذها، لأحببنا وخاصمنا وأقمنا العداوات لأسباب شعورية نفسية قد تضلِّلنا، فضلًا عن المشقة النفسية التي ستواجهنا.
فالبشر – كل البشر- يحملون بداخلهم أرصدة للخير والشر، للقبح والجمال، للحب والكراهية.. لا وجود لإنسان نقيٍّ بشكل كامل، ولا لسيئٍ في الجملة، بل يمكننا أن نرى في الشخص الواحد صفات متضاربة، فقد يكون لطيف المعشر في تعاملاته الإنسانية غير أن به جبنًا وتخاذلًا في قول الحق، وقد نهرب من شخص ما، اشتهر بسوء خلقه، ثم نتعجب إذ يصلنا خبر شهامته في موقف مشهود، أو دعمه لأحدهم في شدته. وغير قليل من هذه الشواهد يؤكد لنا أن طبائع الناس لم تُخلق على خط مستقيم، وأنَّ تعرجات نفوسهم وأرواحهم قد تجلب الدهشة والعجب؛ ولذا ينبغي في التعامل معهم وجود قواعد معينة، تجعل عيشنا بعضنا مع بعض محتمَلًا.
ولقد اتَّخذت خطة في حياتي جنَّبتني غير قليل من شظايا الناس، وحَمَتْني من وجع جراحاتهم؛
والخطة تقوم على محورين:
المحور الأول، يقيني بأنني واحد من الناس، وأي نقد لهم وتعجُّب من شخصياتهم يجب أن يطالني أنا أيضًا، ما يعني تفهمًا مبدئيًا لوجود أي صفة فيهم، وعدم العجب مما قد تفاجئني به طبائعهم؛ فلو أني ضبطت نفسي -وأنا عليم بها- قد وقعتْ في جريمة الحسد أو الكراهية، أو طفَّفتُ ميزان العلاقة مع أحدهم لأثبت صحة موقفي، فمن باب أولى أن أتفهم حدوث هذا الشيء من الآخرين.. وفكرة تفهُّم حدوثه تختلف عن فكرة قبوله، قد أرفض سوء أحدهم غير أني لا أرفضه بالجملة، وإلا لنفيت نفسي ابتداءً جراء ما بي من عِلَّة سابقة.
وعليه، وعيتُ جيدًا أثر حرب لقمة العيش على الناس، وحجم الصعوبات التي تواجههم في الحياة، فتجعلهم أكثر نزقًا وتهوُّرًا مما ينبغي أن يكونوا عليه، وحقيقة أن التجارب التي يواجهونها قادرة على أن تغيِّر من طبائعهم وخصالهم؛ وكان لهذا الوعي أثره في معالجة مشكلاتي معهم بهدوء أكبر وروية وصبر، دون إصدار أحكام متسرعة عليهم.. أعانني على هذا تصريح النبي محمد (ﷺ) الرافض لفكرة إصدار الأحكام بالجملة بقوله: «من قال هَلَكَ الناس فهو أهلكهم»؛ ذلك أن اتهام الناس بالجملة دليل على شطط في العقل، ولوثة في النفس، وله عند الله سوء الجزاء.
أما المحور الآخَر، فهو أن لله حكمة في طبع خلقه وتصريف شؤونه، ذلك أن أكثر الأسئلة بؤسًا ومشقة سؤالنا حول حكمة الأشياء.. كلنا – بلا شك- نُصدم من فكرة وجود خونة بيننا، وننزعج بشدة من احتكاكنا بأناس تحرِّكهم نوازع الأنانية وحب النفس، أو لديهم حساسية تجاه نجاح الناس وتوفيقهم؛ وهذا الانزعاج وما يتبعه من رفض وتعجب أمرٌ منطقي لا يمكن إنكاره، لكن التماهي مع حالة الرفض والإنكار المستمر لوجود أنماط لا أحبها من الناس حولي هو ما أعترض عليه، ذلك أن رفضي لوجود الأشرار والأنانيين وأصحاب المصالح أعده رفضًا لسُنة الله في الكون! لكن تفهُّمي لوجودهم – يقينًا- لا يعني ترحيبي بهم وإفساح الطريق أمام مخططاتهم.
لقد تعلمتُ أن الراحة تكمن في تفهُّم حكمة القدر في خلق أنماط من البشر، مغايرة لما أحبه وأتمنى مخالطته، وقضيتي في هذه الحالة تكون منصبَّة على تقوية إيماني بمنهجي، وإزعاج المعسكر الذي أختلف معه بسلوكي وفكري، ما يجبره على المضيِّ في أضيق الطرق.. بمعنى آخر، أنا غير معنيٍّ بالقضاء على الظلم، قضيتي الشخصية هي أن أكون عادلًا، وألا أسمح للظلم بأن يدخل دائرتي التي أتعامل فيها؛ وكما أن سلوك الظلم مزعج لنا، فإن سلوك العدل والإنصاف مزعج للمعسكر الآخر، ولن يمكنني أن أواصل معركتي في الحياة إلا بالاعتراف بوجود معسكرات أخرى تخاصمني وأخاصمها.
وهنا يجب أن نؤكد معلومة بدهية لا يراها المثاليون، وهي أن معارك الحياة ليست صفرية، ولن يستطيع معسكر الخير أن يقضي على الشر، ولا الجمال أن يُنهي القبح، ولا العدل قادر على أن يجعل الشر مجرد ذكرى.. التصادم سيظل إلى الأبد، ومن المرهق لنا أن نعيش حياتنا في معركة صفرية من أجل فرض قيم، يتأكد أنها – مهما كان نُبلها- لن تنتصر وتتصدر المشهد وحدها. جُلُّ طموحنا يجب أن يوجَّه إلى طرح تلك القيم ودعمها، فلربما انتصرت على أيدينا في هذه الجولة، أو بقي أثرها ليكمل مَن بعدنا باقي فصول المعركة.
كل هذا جعلني متقبلًا لوجود طاغية على كرسي الحكم رغم رفضي للظلم، ومتفهمًا لأن يخدعني صديق لم يراعِ أصول الصداقة، ويغشني بائع وفي يقينه أنه يمارس نوعًا من المهارة وذكاء السوق! سأرفض كل هذا وأنوِّه إليه وأدعو الناس لكرهه، ومع ذلك لن أكتئب من وجوده، وإن أحزنني الموقف لبعض الوقت، ولن أشكو من ذمم الناس ولا أخلاقهم حتى وإن حاربت عوجها.
في الأخير، سنعود لما بدأنا به من حديث طليحة لعمر بن الخطاب من أن الناس تتعايش مع البغضاء، تتعايش مع تباين المشاعر، تتعايش بهذه الطريقة لأنه لا توجد طريقة أخرى، اللهم إلا الحسرة والحزن والتباكي على أناس ليسوا أناسًا، وعلى بشر ليسوا كما نتمنى.
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
مع الهمجية ضد التمدن
يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...
هذا هو المنهج الصحيح في التعامل مع الناس لنستطيع العيش بثبات في هذه الحياة
لكاتبنا الرائع أجمل التحايا وجزيل الشكر.