رموا حماس بدائهم وانسلوا

بقلم: جعفر عباس

| 25 أكتوبر, 2023

بقلم: جعفر عباس

| 25 أكتوبر, 2023

رموا حماس بدائهم وانسلوا

بعثتُ قبل أيام بمقالي الراتب إلى صحيفة عربية تصدر في لندن، فجاءني منها اتصال يرجوني أن أرسل مقالا بديلا، لتعذر نشر ذلك المقال، لأن الصحيفة تلقّت تحذيرا من نشر أي مادة تشيد بطوفان الأقصى الذي زلزل كيان دولة الصهاينة، وتَصِف حركة حماس التي سيَّرت الطوفان بالبطولة، كما فعلتُ في مقالي المرفوض.
تدافَع قادة أوربا الغربية وكندا والولايات المتحدة، لذرف الدموع على الإسرائيليين الذين اجتاحهم الطوفان، ولاستنكار توغل مقاتلي حماس في العمق الإسرائيلي، ولم يسبق لأحدهم أن استنكر عشرات الاجتياحات التي قام بها الجيش الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية، وأشبع الفلسطينيين فيها قتلا وسحلا، بل بلغ الشطط بالحكومة الكندية أن أوقفت الحسابات المصرفية، وأنهت خدمات كل من صدرت عنه كلمة مكتوبة أو هتاف إشادة بحماس، وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن -الذي عينه وقلبه على أصوات الناخبين الأمريكان اليهود في انتخابات 2024- الأجهر صوتا في التباكي على إسرائيل، قائلا إنه لم يسبق لليهود أن عانوا كما عانوا على أيدي مقاتلي كتائب القسام منذ المحرقة النازية، ثم واصل بايدن السقوط الأخلاقي العمودي، حين قال إن دماء المئات الذين قضوا خلال دقائق في المستشفى المعمداني في غزة في عنق حماس، التي اتهمها بقصف المستشفى (ولم يوضح بايدن ما إذا كانت بلاده قد سبق أن باعت طائرات إف 16 لحركة حماس).
يعاني القادة الأوربيون والأمريكان من عقدة الذنب تجاه اليهود، لأن أسلافهم ساموهم سوء العذاب على مر القرون، بوصفهم المسؤولين عن “صلب المسيح”، وبوصفهم مصدر كل الشرور في العالم. وخلال جائحة كورونا كانت هناك جماعات مسيحية غربية تقول إن اليهود هم من طوروا فيروس كوفيد 19 القاتل.
فلقد واجه اليهود في أوروبا بعد انتشار المسيحية ممارسات الإقصاء الاجتماعي والتحقير، وأصبحت الكراهية المفرطة لليهود أمرا مغروسا في الوجدان الأوربي، وجزءًا من الحياة اليومية للمجتمعات اليهودية في أوروبا؛ وذاعت في القرن الحادي عشر حكاية مؤامرة لليهود لاختطاف وقتل أطفال مسيحيين لاستخدام دمائهم في طقوسهم الدينية، وقد ذاعت هذه الأسطورة بدايةً في إنجلترا، ثم في فرنسا. وفي عام 1294، عُثِر على الصبي “رودولف فون برن” ميتا في مدينة بِرن في سويسرا؛ وعلى الفور، توجهت أصابع الاتهام إلى مجموعة من اليهود، وتم طرد  جميع اليهود من المدينة، وترسيم رودولف هذا قديسا نكاية باليهود، وهناك نافورة ونصب تذكاري له كي لا تنمحي ذكرى مقتله. وعندما اجتاح الطاعون أوروبا في نهاية القرن الرابع عشر، واجه يهود أوربا تهمة تسميم الآبار، و”جَلْب الموت الأسود أو الطاعون إلى السكان”، وبسبب ذلك تعرض اليهود في فرنسا وألمانيا وسويسرا لعمليات تنكيل وتقتيل وتهجير واسعة النطاق.
 وخلال الحروب الصليبية تم رفع شعار “قتل أعداء المسيح”، وأُرغم اليهود على الاختيار بين الموت واعتناق المسيحية، وفي القرن الثالث عشر، أصبح إقصاء اليهود عقيدة كَنَسية. وفي عام 1213، دعا بابا الكنيسة الكاثوليكية مسنودا بالمجمع الكنسي إلى إرغام اليهود على ارتداء شارات أو علامات مميزة، ليبقوا موصومين ويسهل التعرف عليهم، شأنهم في ذلك شأن الفئات المُهمَّشة الأخرى حينذاك، مثل البغايا والمتسوِّلين والمصابين بالجُذام؛ وفي الصور التي تمثل “آلام المسيح” في العشرات من الكنائس الأوربية، ترى اليهود يرتدون الشارات الجديدة التي فُرِضت عليهم، مثل القُبَّعات الصفراء، والخواتم الصفراء -حيث يرمز اللون الأصفر إلى الجشع والحسد والغطرسة- وأصبحت وجوههم تُصوَّر بأنوف كبيرة معقوفة بغية تقريب أشكالهم من الشيطان، الذي كان يُصوَّر بأنف معقوف منذ أمد بعيد؛ وقد ترسَّخَت الصورة النمطية للأنف اليهودي بقوة في الخيال الأوروبي.
وقد نجح القادة الصهاينة منذ مطلع القرن الماضي في ابتزاز قادة أوربا عاطفيا، بتذكيرهم بمعاناة اليهود الأوربيين عبر القرون، ثم جاءت المحرقة اليهودية في ألمانيا النازية، فكان أن تواطأ الأوربيون -وعلى رأسهم بريطانيا- على التخلص من الصداع اليهودي، وباعت بريطانيا فلسطين كي يصبح وطن اليهود، وها هي العزّة بالإثم تجعلهم يناصرون إسرائيل في المنشط والمكره.
عاش مئات الآلاف من اليهود في مختلف الدول العربية لقرون دون أن يمسهم سوء، ومن ثم لم يفتح الله على المؤرخين اليهود بكلمة سوء بحق العرب فيما يتعلق بتعاملهم مع يهود أوطانهم، وإلى اليوم لا يعرب العرب والمسلمون عامة عن كره لليهود، إلا فيما يتصل باغتصابهم لأرض فلسطين وتدنيسهم للمقدسات الإسلامية.. وحماس لم تمارس قط اضطهاد اليهود كما فعل الأوربيون، ولكنها تدافع فقط عن أرضها وعرض أهلها ضد عدو غادر متغطرس؛ وطالما بقيت إسرائيل سادرة في غيِّها، فرحم حواء الفلسطينية خصب ولود، فإذا قتل الوحش ثائرا أنجبت حواء تلك ألف ثائر.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في تاريخها السياسي والاجتماعي، تمثل في سقوطها بيد العسكرة الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع الهجري، وجاء في إطار الصراع السياسي والعسكري المستمر بين الإمبراطورية البيزنطية والدولة الحمدانية العربية، التي كانت تسيطر على...

قراءة المزيد
الناقد ومراوغة النص..

الناقد ومراوغة النص..

استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض الانصياع للقانون الأدبي لتكون حرة طليقة لايحكمها شيء.. وتحكم هي بمزاجها ما حولها..   تأطيرها في قانون متفق عليه لتخرج من كونها حكما مزاجيا، وتدخل عالم التدرج الوظيفي الإبداعي الذي نستطيع أن نتعامل معه ونقبل منه الحكم على...

قراءة المزيد
هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها؟

هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها؟

مع تزايد الدعوات في واشنطن لكي تتولى أوروبا مسؤولية دفاعها وأمنها، ترتجف بروكسل خوفًا من النتائج.. إن التحول في الكيفية التي ينظر بها كل من جانبي الأطلسي إلى موقف الآخر من شأنه أن يوفر الدفعة التي يحتاجها الاتحاد الأوروبي لكي يصبح حليفًا أقل اعتمادًا على الولايات...

قراءة المزيد
Loading...