زمن التفاهة
بقلم: د. عبد الله العمادي
| 15 مايو, 2023
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: د. عبد الله العمادي
| 15 مايو, 2023
زمن التفاهة
مثلما أن ثورتي الاتصال والمعلومات دفعتا بالبشرية سنوات عديدة نحو الأمام، مقارنة مع ما كان البشر عليه قبل أكثر من قرن من الزمان، فإن من بعض نتائجهما السلبية أيضا، ظهور ما اصطلح على تسميته بنظام التفاهة الذي صار يتعاظم ويتعملق وينتشر، بل ربما يسود بعد حين من الدهر قليل.
إنه نظام التفاهة، كما ذهب إلى تسميته الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو في كتابه ” نظام التفاهة “، أو النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على معظم مناحي الحياة، وبموجب ذلك تتم مكافأة الرداءة والوضاعة والتفاهة، بدلا من الجدية والمثابرة والجودة في العمل.
العالم اليوم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، صار مبتلى بهذا النظام، سواء أرغب به أم لم يرغب، لأن هناك من يصنع هذا النظام صناعة، ويدفعه دفعا ليسود ويسيطر. فأينما وليت وجهك في هذا العالم، تجد مصانع للتفاهة قائمة وأخرى في الطريق؛ فهناك مصانع للتفاهات الثقافية، ومثلها للتفاهات السياسية، وأخرى للفنون التافهة، إلى آخر قائمة مجالات الحياة المتنوعة، التي تلوثت بتلك النوعية من المصانع التافهة، إن صح وجاز لنا التعبير.
نظام التفاهة هذا يضمن لك ما ترغب.. يضمن لك إن دخلته من أي طرف شئت، تحقيق النجاح الذي تحلم به!. هكذا صار المفهوم عند الراغب في النجاح بأي صورة كان ذلكم النجاح.
المال في عصر التفاهة
هذا الواقع الحاصل يدفعنا في الكثير من الأحيان، وبما أننا صرنا نعيش عصر التفاهة، إلى الاعتقاد بأن المال هو المعيار الأول، إن لم يكن الأوحد، فيما نسميه بالنجاح. أي، إذا أردت أن تكون ناجحا في ظل هذه الظروف المستجدة، فلا سبيل ولا مسلك لك إلا عبر المال. وبمعنى أكثر وضوحا: كلما استطعت جمع الكثير منه، ارتقت درجتك في المجتمع الذي تعيش فيه!. وغالبا ما ينتشر هذا المفهوم في المجتمعات المبتلاة بالتفاهة، وتصبح غارقة فيها.
نظام التفاهة هذا يضمن لك ما ترغب.. يضمن لك إن دخلته من أي طرف شئت، تحقيق النجاح الذي تحلم به!. هكذا صار المفهوم عند الراغب في النجاح بأي صورة كان ذلكم النجاح. هذا النظام إذن يضمن لك بشكل رئيس الحصول على المال، المعيار الأساس للنجاح، كما ذكرنا آنفا.
دخولك عالم التفاهة، إنما يعني دخولك مصنعا من مصانع التفاهة المتنوعة. ولك بعد ذلك أن تختار أي مصنع شئت، لتنتج تفاهة تتناسب ورغباتك وإمكانياتك وقدراتك. ثم لن يؤرقك كثيرا كيفية ترويج وبيع المنتج، وتحقيق الكسب السريع؛ فهذا النظام، صاحب شبكة واسعة، ليس في محيطك فحسب، بل العالم من حولك؛ فهو يتولى ترويج ونشر المنتج، طالما أنه يحقق معاييره، وأبرزها التفاهة. لاحظ كيف أن قيمة النجاح في عالم التواصل الاجتماعي تعني المال، والمال فقط. أي، لتكون ناجحا في مجتمعك، ليس أمامك من سبيل سوى كسب المال وبوفرة ملحوظة، بغض النظر عن طرق ووسائل الكسب.
ما الذي دفع بمن يُطلق عليهم مشاهير التواصل الاجتماعي، ذكورا وإناثا، لتأكيد هذا المعنى، وإن كان بشكل ضمني غير مباشر؟. لقد وجدوا أن من أسهل طرق كسب المال صناعة التفاهة، التي قادتهم إلى البروز والشهرة والأضواء، ودعوة الآخرين من جحافل المتابعين الإمّعات، للسير على نهجهم وتحقيق النجاحات المرغوبة !.
إنها ظاهرة اجتماعية مستجدة، ولا شك أنها مغرية لكل شاب سيبدأ حياته بعد قليل؛ هذا الشاب، لابد أنه فكر وقدّر فيما هم عليه أولئكم المشاهير، أو فقاعات التواصل الاجتماعي، وكيف يحقق أحدهم كسبا سريعا دون كثير جهد. فلماذا عليه البدء بالخطوات التقليدية المعتادة الطويلة، وبذل الجهد في المدارس والجامعات وما بعدها، ليكون ترسا في النهاية ضمن آلة عمل ضخمة تضمن له المعيشة، لكن ليس له الثراء السريع المرغوب، كما الحال الذي عليه أعضاء عالم التفاهة؟!.
هذا الشاب، مدار حديثنا، لا ريب أنه سيعتقد بعد قليل من الوقت، أن الطريق نحو الثراء لا يتطلب مؤهلات ولا شهادات ولا خبرات، بل شيئا من المهارة والقدرة على صناعة التوافه من الأفكار والمشروعات، ثم الدندنة عليها وحولها عبر أدوات نظام التفاهة، ليجد حوله سريعا مستهلكين، وراغبين في بضاعته الجدية! .
أليس هذا هو الحاصل اليوم في أقطار عديدة حول العالم؟!.
عالم التفاهة إذن، ومن يقفون وراءه بالدعم والتأييد والنشر والإعلام، إنما هدفهم كسر القيم والمعتقدات والثقافات والأعراف، وجعل الحياة بلا ضوابط ولا حواجز وموانع
التفاهة في الثقافة
إن تفحصت عالم الثقافة، فستجده هو أيضا مليئا بتفاهات بلا حدود، عبر كاتب هنا أو راو هناك أو شاعر في موقع ثالث، أو غيرهم، وتكون بضاعتهم رائجة مكتسحة، بل الإقبال عليها غير منطقي، مقارنة بآخرين من عالم الصنعة أو عالم الثقافة الحقيقيين. والأمر يتكرر في عالم الفن والسينما والمسرح. ولن نبالغ إن قلنا إن التفاهة اكتسحت عالم المال والصناعة، فصار كل منتج صناعي تافه لا يقدم ولا يؤخر كثيرا، هو الذي يكتسح السوق. ومثل هذا في عالم السياسة وعالم البحث العلمي وعالم الجامعات والإعلام بوسائله المتنوعة، وعوالم أخرى عديدة لم تسلم من ذبذبات التفاهة المتكاثرة والمتعاظمة في الوقت ذاته.
عالم التفاهة إذن، ومن يقفون وراءه بالدعم والتأييد والنشر والإعلام، إنما هدفهم كسر القيم والمعتقدات والثقافات والأعراف، وجعل الحياة بلا ضوابط ولا حواجز وموانع، سواء كانت على شكل تعاليم دينية أو أعراف وقيم مجتمعية وأخلاقية، والدفع بالمجتمعات للانقياد الأعمى نحو هذا العالم، عبر تزيينه وتيسير الولوج إليه، وأنه لا شيء في هذه الحياة يستحق بذل جهد وفكر ووقت من أجله، لأن الحياة سهلة يسيرة، وبالتالي ليس هناك ما يدعو لإضاعة متعة الاستمتاع بها!.
هكذا يحدث التزيين، بل يزيدون عليه أن المسألة حريات شخصية، حتى وإن كانت منتجات التفاهة تضرب بالذوق العام وتدفعه للحضيض، وعلى هذا المنوال نجد عالم التفاهة يكبر، ويكبر معه جيل بعد آخر، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ألم يخرج آلاف الرويبضات يتحدثون في السياسة والاقتصاد والدين والثقافة والفكر وغير ذلك من مجالات الحياة المتنوعة، بلا علم ولا فكر ولا قيم أو أخلاق؟. هذا هو فعلا عصر الرويبضات أو عصر التفاهة بلغة العصر.
عصر الرويبضة
يمكننا في ختام هذا الحديث القول بأننا، نظريا وعمليا، نعيش عصر التفاهة أو عصر الرويبضة – وهو المصطلح الأدق – الذي حذرنا منه نبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم –؛ ومن المهم جدا التنبه له حين نبدأ نراه ونعايش رموزه، كما قال عليه الصلاة والسلام:” سيأتي على الناس سنوات خدّاعات يُصدق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة “..
ألم يخرج آلاف الرويبضات يتحدثون في السياسة والاقتصاد والدين والثقافة والفكر وغير ذلك من مجالات الحياة المتنوعة، بلا علم ولا فكر ولا قيم أو أخلاق؟. هذا هو فعلا عصر الرويبضات أو عصر التفاهة بلغة العصر.
لكن السؤال المطروح: ماذا نحن فاعلون؟. أو، ما المطلوب للتصدي لهذا النظام وتوعية حشود الإمّعات الغافلة؟.
لا شك أن العمل المطلوب كبير ويحتاج كثير جهود، وقد نتحدث عنه في فرصة قادمة بإذن الله.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
0 تعليق