سعدون جابر وصدام.. ومصريو العراق !

بواسطة | يناير 30, 2024

بواسطة | يناير 30, 2024

سعدون جابر وصدام.. ومصريو العراق !

أعاد الفنان سعدون جابر ذكريات الماضي العراقي في كأس آسيا “قطر 2023″، مستحضرًا فترة الثمانينيات وروعة منتخب أسود الرافدين. مقال يتجسد فيه التأثير الثقافي والإنساني للمصريين في العراق، مع رحلة الفنان والعلاقات القوية التي جمعت بين الشعوب. الفنان الذي أضفى جمالًا فنيًا على حياة العديد من العراقيين، سعدون جابر يبقى ملهمًا بأدائه الفني العاطفي وتأثيره الثقافي العميق.

سعدون جابر: فنان العراق الذي نقل الأوطان بصوته

أعادني الظهور الجيد لأسود الرافدين بقيادة أيمن حسن ورفاقه في كأس آسيا “قطر 2023″، إلى ذكريات زمن فات منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كنت وقتها في بداية مرحلة الصبا حين وقعت بين يدي نسخة من مجلة “الرشيد” العراقية، لم يكن في مصر خلال تلك الفترة مجلات رياضية، بل فقط جريدة أسبوعية هي “الكورة والملاعب”.
عبر صفحات “الرشيد” الملونة عرفت أسماء عدنان درجال “القائد” وزملائه حسين سعيد وأحمد راضي وفلاح حسن وباسل كوركيس حنا ورعد حمودي وغيرهم؛ كان هذا الفريق الفذ يحتكر بطولات كأس الخليج، ووصل إلى نهائيات كأس العالم بالمكسيك 1986، رغم أنه لم يلعب أية مباراة داخل بلاده بسبب ظروف الحرب مع إيران.

أما كيف حصلت على نسخة “الرشيد”، فقد كان عبر أحد أبناء قريتنا العاملين في العراق، ومن تلك النسخة عرفت أيضاً أسماء هواة المراسلة من “بوابتنا الشرقـية” العربية من مدن عدة؛ راسلتهم وردوا عليّ، صرنا أصدقاء، تعرفت من خلالهم أكثر على العراق.. بلدي الأصلي الذي قدم منه جدي الخامس واستقر بمصر.
في ذلك العقد كان سفر المصـري من أية قرية نائية في الدلتا أو الصعيد إلى بغداد أسهل من الوصول إلى قاهرة المعز! مجرد تذكرة حافلة بـ 60 جنيهاً (أقل من دولار بأسعار هذه الأيام!)، تحمله إلى ضفاف دجلة ونخيل الفرات بلا تأشيرة، فيعيش ويعمل ويتكسب ويعود مُحمّلاً بالخير.

عدد أهل المحروسة ببلاد الرافدين حينذاك وصل حسب بعض التقديرات إلى نحو 8 ملايين نسمة! أطياف من كل شكل ولون، مهن تشمل كل ما يخطر على البال، متعلمون وجُهلاء، نُخبة ودهماء، مهرة وفهلوية، شغّيلة وعواطلية، من هم كبار القيمة والقامة، ومن هم غلابة على باب الله.. المصـريون – باختصار- شكّلوا ما يشبه الدولة داخل العراق.
هم أفادوا واستفادوا، قدموا خدمات جليلة للبلد الشقيق الذي كان في قلب حرب “الثماني سنوات”، ويحتاج لأيدٍ عاملة وكوادر في المجالات كافة؛ بينما استفادوا – مع وطنهم- من الوضع الاقتصادي العراقي الذي سمح لهم بتحويلات مُعتبرة لبلادهم، فضلاً عن الحصول على المواد الأساسية بأسعار مُدعمة.

بخلاف الاستفادة العامة المتبادلة بين البلدين من تواجد هذا العدد من المصـريين هناك، فإنه على المستوى الفردي كان هناك شخصان يعدان الفائز الأكبر من هذه “الحالة المصرية” في عراق الثمانينيات؛ الأول صدام حسين.. إذ دشن نفسه زعيماً شعبياً حقيقياً في الشارع المصري بالكاريزما والهيبة، وما قيل عن أنه أمر المسؤولين في بغداد بمعاملة المصري كالعراقي زاد محبته في قلوب البسطاء؛ ووصل الأمر أن أطلقوا اسمه على قرية بمحافظة الغربية (نحو 100 كم شمالي القاهرة) تضم أكثر من 1000 منزل مبنية بأموال جلبها أصحابها من عملهم في العراق، و60 % من أبناء هذه القرية يحملون أسماء أولاد الزعيم “عدي” و”قصي” و”رغد” و”رنا” و”حلا”!
هذه القرية جزء مصغر من بغداد بعمارة مبانيها أو أسماء شوارعها، مثل المنصور وابن سينا، فضلاً عن أسماء مدن عراقية أخرى مثل كركوك والموصل، وتقيم فيها أكثر من 18 سيدة عراقية تزوجن مصريين في العراق، وقدمن معهم منذ سنوات للإقامة في القرية؛ كما لا تزال هناك أسر من القرية ذاتها تقيم في العراق وتدير هناك أعمالها.

أما الشخص الثاني الذي استفاد من وجود ملايين المصـريين بالعراق، فلم يكن سياسياً.. بل هو سعدون جابر، العندليب الذي يُشكل حالة خاصة في الغناء العربي، إذ يقتحم قلب من يسمعه بلا استئذان حتى لو لم يفهم لهجته في البداية، كمية الشجن في صوته تدخل الأذن فلا تخرج، وتسـري في الروح فتبقى، الحزن النبيل في نبراته مرسى لكل مهموم يجد فيه تعبيراً عن حالته.
المصـريون بطبيعتهم ميّالون داخلياً للحزن، على عكس ظاهرهم وقفشاتهم وحبهم للنكات؛ إذا فرحوا أو ضحكوا أكثر من اللازم يقولون “خير.. اللهم اجعله خيراً”! ربما لهذا السبب أحب المتواجدون منهم في العراق صوت سعدون جابر، تعلقّوا به، وأصبحوا سفراء له.

العراق كان – ومازال- بعيداً عن الدعاية لفنانيه ومبدعيه في القاهرة “هوليود الشـرق“؛ أعتقد أن سعدون نفسه لم يسوّق لنفسه، اعتماداً على شهرته المدوية في بلاده ودول الشام والخليج.. آنذاك كانت الجهات الفنية والثقافية في دول عربية عدة تجيّش الجمهور لحفلات مطربيها في القاهرة، تشتري تذاكرها كاملة وتوزعها مجاناً، وقبل هذا وبعده تُسخّر الصفحات في المطبوعات المختلفة لعمل الدعاية اللازمة..
لاحقاً يتم تخصيص مساحات كبيرة في الفضائيات تماشياً مع لزوم التسويق وفرض ذوقها، وهذا حق مشـروع على كل حال. لذلك عرف مطربوها الشهرة، لكنها تبقى “شهرة مؤقتة مصنوعة”، هي وميض يضيء سريعاً، ويخفت بسرعة أكبر.. تواجد هذا الصنف من الفنانين يبقى موسمياً حسب مستوى الدعاية والحفلات.
لكن..

حضور سعدون يبقى مختلفاً، حضوره راسخ! المصـريون في الداخل عرفوه عبر “مصـريي العراق” القادمين في إجازات، هكذا سمعت صوته لأول مرة عبر شريط كاسيت من أحد العائدين، يومها لامس ذائقتي الفنية فلم يخرج أبداً، ومعه كوكب الشرق أم كلثوم.
بداية لم أكن أفهم كلماته، لكن جمال الصوت وعذوبته كانا أقوى من العبارات العصية على الاستيعاب! ما حدث معي حدث مع كثيرين غيري، تسلل سعدون إلينا بهدوء وثقة وإقناع، ليظل ملازماً لنا طوال حياتنا.. في كل مرحلة عمرية نكتشف مكامن جمالية أكثر في صوته وفنه، خصوصاً بعد أن فهمنا كل كلمات ومعاني أغانيه، عشنا معه كل معاني الحب للحياة والخير والبشر والوطن.

الشجن هو العامل المشترك في كل أغانيه بمختلف الحالات بمعانٍ طازجة، فتخرج أعماله كتمور شهية مُشبعة بعكار شط العرب.. في عز التعبير عن المشاعر يكون الحزن موجوداً على شاكلة “ضمني بشفافك بسمة وخلي عيوني تدور لك.. يمكن تلقالك نجمة تلاليلك وتنورلك”. ثم بكلمات غاية في الغرابة والجمال يقول لأحبائه الغائبين متمنياً عودتهم: “صغيرون يا بعد أهلنا وبفراقك شلون.. نذراً لأخيط عيوني لمَّن يرجعون.. وينك يامدلل وينك ما الك بينه.. يابُعد أهلنا يابه صبرك علينا.. ياريت بضلوعي أضمك وبوسط العيون”.

وفي أغنية أخرى: “ياطيور الطايرة مُري بهلي.. ياشمسنا الدايرة ضوي لهلي.. سلميلي وغني بحجاياتنا.. سلميلي ومُري بولاياتنا”. ثم يتغزل بـ”بنت الديرة” بكلمات لم نعهدها قبله أو بعده : “خيو بنت الديرة.. خيو حلوة صغيرة.. خيو يامشيتها خيو مثل الطيرة.. خيو عدها قصيبة.. خيو شقرة طويلة.. خيو ليرة وتلهث.. خيو حدر الشيلة.. خيو ورقات الخس خيو جفوف الترفه.. خيو دورة محبس خيو رسم الشفة.. خيو ياضحكتها خيو مي وجوري.. خيو يارقبتها خيو جالفرفوري”.
أما الأغنية التي بقيت خالدة في القلب والوجدان فهى رائعته عن الأم! لقد سمعت قبلها أغنيات شبيهة لعل أشهرها “ست الحبايب”، التي تتحول إلى نشيد وطني في الإذاعة المصـرية يوم الاحتفال بعيد الأم سنوياً. لكن، لسبب لا أعرفه لم أحب هذه الأغنية، ربما لأن محمد عبد الوهاب لحنّها بطريقة الأغنيات الوطنية، التي كان يقدمها بطريقة تُشعرك أنها مصنوعة للمسؤول وليس للوطن.

سعدون روى في لقاء تلفزيوني قصة هذه الأغنية، حينما كان يسير في بغداد صحبة صديقه الشاعر المبدع كريم العراقي “رحمه الله”، وتوقفا عند تمثال لأم تحمل طفلها وتحاول حمايته بعباءتها. راح سعدون يتمعن فيه وتذكّر أمه التي فقدها في عمر 12 عاماً، وبكى كريم لأنه لم يرَ أمه منذ 6 شهور، فقال له الفنان الكبير: هوّن على نفسك.. لم ترَ أمك منذ شهور، بينما أنا ليس عندي أم!
ذهبا إلى ملعب الشعب في بغداد لمشاهدة إحدى المباريات، وخلالها أخرج كريم ورقة وقلماً، وراح يدوّن بعض الكلمات. بعد المباراة أعطى الورقة لسعدون وفيها :

” يا أمي يا أم الوفا، يا طيب من الجنة.. يا خيمة من طيب ووفا جمعتنا بالحب كلنا.. تعلمت الصبر منك يا يمّا.. الهوى إنتي الهوى ومحتاج أشمه.. يا أغلى وأعز مخلوق عندي.. ياماي عيوني أمي.. قلبها البحر أمي.. سلام وخير أمي.. وجه يمطر محنة.. قمر ونجوم كانه.. تعرف تحمل هموم.. وما تعرف المنّة.. يا أمي، يا أمي، يا أم الوفا.. كبرت يا يمّة والأيام تمشي.. شفت ما يعادل الأم ثمن كل شي.. يا يمّة الشمس من تمشين تمشي.. يا تربة طاهرة ودار.. ربينا بحضنك صغار.. المحبة تنحني وتبوس إيدك.. ويصلي الوطن لعيونك يا جنة.. يا أمي.. يا أمي.. يا أم الوفا.. ما بين الناس أسهر يا شمعتي.. تصيرين الحديث الحلو إنتي.. وأسولف لأصدقائي شلون كنتي.. تناديني حبيبي.. ذُخر لأيام شيبي.. ش ما وفينا ما نقدر نجازي.. إنتي النهر واحنا فروع منه.. يا أمي. يا أمي. يا أم الوفا”.

هذه الكلمات البديعة أضفى عليها سعدون جابر لمسته بعذوبة صوته والشجن الكامن فيه، فجعل من الكلمات ولحن عباس جميل، لوحة جمالية كاملة الأوصاف، مع كل كلمة فيها تجد أمك أمامك، كثيرون يبكون حين يسمعونها وأمهاتهم على قيد الحياة، فما الحال بعد فراق ورحيل “أغلى وأعز مخلوق”.

أما ما يكشف عن مدى موهبة سعدون جابر، فهى قصة تعارفه مع عبقري كل العصور الملحن الأسطوري بليغ حمدي.. كان أي مطرب يتمنى التفاتة منه إليه، سعدون روى القصة في حلقة قبل سنوات لبرنامج “المقابلة” مع علي الظفيري على شاشة الجزيرة. حينما سمع بليغ صوت سعدون، بادر بالاتصال به وأبدى رغبته في التلحين له، طار سعدون فرحاً، وحتى يصل بليغ لأفضل شكل يقدمه لعندليب العراق، فقد سافر إلى النجف وكربلاء وراح يستمع إلى ترانيم احتفالات أربعينية الحسين، حتى يقدم ما يليق بصوت سعدون. بعدها لحّن له عدة أغنيات قدمها له على أسطوانة ولم يطلب أجراً، وهو أمر يكشف عن قيمة سعدون عند بليغ، وقيمة بليغ نفسه كفنان حقيقي لا يجري وراء المال.

هذه الحلقة من “المقابلة” كشفت أكثر عن شخصية سعدون، الفنان والإنسان والمثقف الحاصل على الدكتوراه؛ أوضح اللقاء أنه مثلما يُبدع وهو يغني، فهو يُبدع كذلك في الحكي والكلام بما يحمله من رقي في التفكير، وتقبل للآخر، وإدراك لقيمة العراق.

سعدون جابر نموذج للحالة العراقية التي نتمنى عودتها، بكل عراقتها وأصالتها وإبداعها وتسامحها.. وعلى أهل بلاد الرافدين الحفاظ على وطنهم العظيم بتركيبته وفسيفسائه العربية والكردية والتركمانية والآشورية والكلدانية والإيزيدية مع غيرها بلا تهميش ولا إقصاء لأي طائفة أو فرد، وأن يتذكروا دوماً رائعة عندليبهم: “اللي مضيّع ذهب بسوق الذهب يلقاه.. واللي مفارق مُحب يمكن سنة وينساه.. بسّ اللي مضيّع وطن وين الوطن يلقاه؟!”.

2 التعليقات

  1. علي البغدادي

    من أروع ما كًتب عن العراق وعن سعدون جابر .. ما كل كل هذا الآلف أيها الكاتب المبدع نتشرف بأن أصولك عراقية

    الرد
  2. Lady Gaga

    كتاباتك متألقه كالعادة,, عنايتك الفائقة في سرد التفاصيل الصغيره ليس استثناء هنا ، لكنها حالة نعيشها في كل كتاباتك .
    أتمنى أن يقرأ الفنان سعدون جابر هذا المقال .. لأنه تكريم عظيم يليق به ، بل و تكريم يليق بكل عراقي أصيل.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...