سكان المحروسة.. قصص من تاريخ الناس العاديين

بواسطة | سبتمبر 17, 2023

بواسطة | سبتمبر 17, 2023

سكان المحروسة.. قصص من تاريخ الناس العاديين

في أحد مساءات طنطا وأنا طالب في كلية الآداب بجامعتها، صعِدت إلى سطح منزلنا وقرأت كتاب «كل رجال الباشا» للمؤرخ خالد فهمي؛ كان كتابا فارقا، يصح فيه قول كافكا: «على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمّد فينا».
لقد وجدتُ في الكتاب أفكارا هائمة كنت أبحث عن صدى لها مُذ كنت طالبا أدرس تاريخ السلاطين والمماليك والجيوش، لكن من يدرس التاريخ؟ ومن يخرج من سطوة الحكام في مجلدات التاريخ، ليحكي عن أحوال الناس العاديين وحياتهم؟ هكذا صرتُ أتابع ما يكتبه خالد فهمي، من قصة «جنود الباشا» إلى كتابه الثاني «الجسد والحداثة: الطب والقانون في مصر الحديثة»؛ ثم عشتُ أياما قرائية ثرية مع كتابه الجديد «السعي للعدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة».. يغوص فهمي في الوثائق والأرشيف التاريخي ليكتشف حياة سكان المحروسة في القرن التاسع عشر، وبداخل هذه القصص يشتبك مع كثير من الفِكَر التاريخية التي تحتاج إلى نقاش.
ففي كتابه السابق سمعنا صوت الجنود والأنفار العاديين، وعرفنا كيف عاشوا في ظل مغامرات الباشا الحربية، أما في كتابه «السعي للعدالة» فيرهف فهمي السمع لصوت السكان المصريين بعيدا عن تمجيد أبطال القرن التاسع عشر، مثل محمد علي باشا وكلوت بيك، الذي أدخل الخدمة الصحية إلى مصر وبنى مستشفى «قصر العيني». وبهذا الحس التاريخي الذي يهتم بتفاعل سكان المحروسة مع التحديثات الجديدة للدولة كتب خالد فهمي كتابه الجديد.
محمد علي باشا
بطل القرن التاسع عشر في مصر وباني مصر الحديثة، كما تعلّمنا في المدارس الحكومية، لكن رواية فهمي تختلف عنه، إذ يضعنا الكتاب في سياق تحديثات الباشا للمجتمع المصري، يضعنا في لحظة تفكير محمد علي في الطب، ويبدأ فهمي القصة مع وصول محمد علي إلى مصر عام 1801 وسنُّه واحد وثلاثون عاما لحادية، جاء ضابطا في فيلق كبير، لم يكن شريفا لينتسب إلى الرسول، أو غازيا يؤسس شرعيته لفتح مصر بحد السيف؛ ومع تواضع أصله وكونه غريبا عن البلاد، بالإضافة إلى كونه أمّيًّا، لم يبقَ له إلا التمسك بفرمان عام 1805، الذي عيّنه واليا على مصر، وهي الولاية المهمة لدى الدولة العثمانية، وفي خضم هذا القلق أنشأ قوة عسكرية للدفاع عن عرشه.
بدأ الباشا يبحث عن طبيب ماهر يستطيع أن يقيه الخسائر الفادحة في الأرواح، التي كان يُمنى بها في حملاته العسكرية المتتالية؛ ففي حملته العسكرية ضد الوهابيين في شبه الجزيرة العربية (1811-1818م)، ثم حملته على السودان (1818-1820م)، ثم حملته في شبه جزيرة «المورة» جنوبي اليونان (ابتداء من 1824م)، ثم محاولته المبكرة لتجنيد الفلاحين المصريين عام 1821م، تبيَّن للباشا أن المرض يفتك بالجنود في المعسكرات، وأن أعداد الموتى نتيجة التكدس في هذه الأماكن تفوق أعداد القتلى في المعارك، كما أن عدم وجود أي رعاية طبية أدى إلى هلاك أعداد كبيرة من الجرحى في المعارك.. سيكون هذا الطبيب هو «كلوت بك».
لقد أدى انعدام الخدمات الطبية ونقص وسائل النقل الكفؤة إلى موت آلاف العبيد الأفارقة حتى قبل وصولهم إلى مصر، ويوضح الكتاب أن عدد من بقي على قيد الحياة من أصل عشرين ألف عبد أفريقي وصلوا إلى أسوان، لم يتجاوز ثلاثة آلاف بعد وصولهم بأشهر قليلة، أما الباقون فلقوا حتفهم في مصر، ووصفهم المؤرخ دودويل بقوله «كنتَ تراهم يموتون كالأغنام».
يظهر محمد علي في الدراسات التاريخية بمظهر المصلح العظيم، الذي يُعزى إليه فضل إدخال عديد من الإصلاحات الطبية الشهيرة، ويوضح كتاب «السعي للعدالة» كيف قدَّم محمد علي نفسه إلى الأوربيين، ليس في صورة مُحيي نهضة مصر الحديثة، بل باعتباره حاكما مستنيرا يستلهم أفكاره من أوروبا؛ ففي مقولة للباشا الوالي محمد علي وجَّهها إلى مسؤول بريطاني أرسله اللورد بالمرستون لدراسة حكومة الباشا: «لا تحكموا عليَّ بمقاييس علمكم الحالي، قارنوني بالجهل المحيط بي فحسب، لا يمكننا أن نُخضع مصر للقواعد نفسها التي تُطبَّق في أوروبا».
النقطة المهمة التي يوضحها الكتاب أن الباشا لم يُبدِ في الخمس عشرة سنة الأولى من حكمه أي اهتمام بصحة سكان مصر وحالتهم، أو تحسين ظروف المعيشة لهم، بل إنه كان مشغولا بقمع أي معارضة لحكمه، وأن الاهتمام بالصحة كان لخدمة أهدافه العسكرية.
كلوت بيك.. حكيمباشي الجهادية وقصر العيني
بين أواخر عام 1824م وأوائل 1825م أجرى محمد علي باشا، الذي كان قد مر على حكمه مصر عشرون سنة، مقابلة مهمة مع طبيب فرنسي من مارسيليا اسمه «أنطوان بارثيليمي كلوت»، ذلك الطبيب الذي سيكون له شأن عظيم في تأسيس المستشفى، بل في تأسيس الطب الحديث في مصر.
تلك المقابلة التاريخية كانت بإيعاز من القنصل الفرنسي في مصر برناردينو دروفيتي، ولم يكن هذا اللقاء الملحمي هو انبلاج النور كما حاول كلوت بيك تصويره، فالباشا تعلّم من الدروس العسكرية المريرة حاجته إلى فيلق طبي، وهكذا تكلّل اللقاء بإنشاء مدرسة «قصر العيني» بعد سنتين، وأقيمت بجوار معسكر كبير للجيش اسمه «جهاد آباد» في منطقة أبي زعبل شمال شرقي القاهرة. كانت المدرسة ذات طابق واحد على شكل مربع طول أضلاعه مئتا متر، وكان في منتصف المبنى إيوان داخلي مفتوح به حديقة زُرعت فيها النباتات الطبية، التي كانت تمُد المدرسة بما تحتاج إليه من أعشاب وعقاقير طبية.
يوضح فهمي أن مدير هذه المؤسسة الجديدة هو أنطوان بارتليمي كلوت، الذي جرى تعيينه في منصب كبير أطباء لجيش محمد علي، وقدم كلوت فكرة رائدة، وهي توفير أطباء محليين يتعلمون في مدرسة للطب في مصر، وقعت الفكرة على سمع الباشا الذي عانى موت أفراد جيشه، لذلك تفاعل مع هذا الطلب بالموافقة.
بعد عشر سنوات من تأسيس المدرسة أقنع كلوت بيك محمد علي بضرورة نقل المدرسة/المستشفى من أبي زعبل، لأن بُعده عن المحروسة (كما كانت تعرف القاهرة وقتئذ) كان يسبب كثيرا من المشاق للتلامذة، وفي 1837م أجاب محمد علي طلب كلوت بيك ونُقل المستشفى إلى شاطئ النيل عند منطقة «قصر العيني» فعُرف المستشفى باسم موقعه الجديد، واحتفظ بهذا الاسم حتى يومنا هذا.
خلال السنوات العشر الأولى من عمر المدرسة تخرَّج فيها نحو 420 طبيبا لخدمة جيش الباشا وأسطوله، ويوضح كتاب «السعي للعدالة» أن معظم الكتابات التاريخية تبنَّت منطق الرجال العظام لفهم تاريخ الطب، سواء في تعظيم دور الباشا أو كلوت بيك، الذي صار لقبه في مصر «حكيمباشي الجهادية»، وبُنيت المؤسسة على طريقة عسكرية، وكان لخريجي «قصر العيني» رُتب عسكرية.
مع المُضي في قراءة «السعي للعدالة» نرى المشكلات التي عانى منها كلوت بيك والتعقيدات الإدارية والبيروقراطية، فكانت رسائله إلى الجهات الحكومية تطلب المساعدة لتجديد النوافذ وجلب الطعام والإمدادات، وهكذا يقدّم الكتاب قراءة مغايرة لتاريخ هذه المؤسسة، فمنذ وقت مبكر من عام 1848م دُبجت شكاوى منتظمة بشأن الرائحة النتنة التي تفوح في غرف المرضى، وهي الرائحة التي اشتُهرت باسم «عفونة الاسبتاليات»، أو رائحة المارستان، بل إن الكتاب يضم مراسلات لطلب أربطة جراحية، ويصف كلوت بيك في كرب شديد سوء الأنواع التي وصلت إليه منها.
يتتبع الكتاب كذلك مَن هؤلاء الحكماء/الأطباء وأين تلقَّوا تعليمهم، وكيف مارسوا مهنتهم، وكيف استقبل المصريون ممارسات مثل التطعيم ضد الجدري وتشريح الجثث والحجْر الصحي وجمع الإحصاءات الصحية. و يدرس الكتاب ردة فعل المجتمع المصري تجاه جرائم القتل ونوع المحاكم التي درست هذه القضايا.
التاريخ برواية الأهالي
ينقشع كثير من الدعاوى التاريخية عند قراءة هذا الكتاب الضخم الذي حشد الوثائق والأحداث، ليصور لنا حياة القرن التاسع عشر بصورة مختلفة، إذ يظهر محمد علي باشا في هذا الكتاب متجاهلا صحة المصريين، مكرسا جهده لبناء مؤسسات صحية فقط لتساعده في تحركاته العسكرية وغزواته، ويشرح «السعي للعدالة» رفض السكان المحليين فكرة المستشفيات وخوفهم منها، والتوجس الذي شعروا به من هذه المؤسسات، وهنا يقرأ الكاتب الوثائق لفهم الحياة اليومية للمستشفى، وهكذا يتحول المستشفى، مركز الحضارة البرّاق في كتابات كلوت بيك، إلى مكان مُبتلى بعديد من المشكلات التي تتراوح بين الوساخة النتنة والقذارة والافتقار إلى الاستقلال المالي والحضاري، إضافة إلى الطابع العسكري الذي اتسمت به المؤسسة، مع ظهور حالات من الأخطاء الطبية والمهنية تصل إلى حد تشريح شخص حي.
يرصد الكتاب كذلك مقاومة المصريين التطعيم ضد الجدري، ولا يتبنّى الكاتب مفهوم التعارض المزعوم بين الدين والعلم الحديث، بل يُرجِع ذلك إلى خوف الأهالي من التطعيم، لأنهم فهموا أنه «وسيلة تتحايل بها السلطات لتعلّم أجسام أولادهم لكي تجنّدهم فيما بعد»، ولجأ الأهالي إلى رشوة الأطباء وحلّاقي الصحة لكيلا يُطعَّم أولادهم، وفي مواجهة هذا الوضع توصلت السُّلطات إلى حل مبتكر يجمع بين الوثائق والقهر، وهما الأداتان اللتان أصبحتا من أبرز أدوات الدولة المصرية الحديثة، عبر استصدار شهادات تُثبت تطعيم الطفل.
يقدّم الكتاب تصورا أكثر دقة عن فهم الدولة العثمانية التعامل مع مصر باعتبارها من الولايات الغنية، وكيف تعاملت مع السكان، ومنطق الجباية بين القاهرة وإسطنبول، الذي يعني أهمية مصر لإطعام الإمبراطورية، ويلاحظ فهمي غياب أي سبل لعلاج الأمراض الفتاكة أو الاهتمام بصحة السكان، ويقارن الكتاب بين تعامل الفرنسيين مع الأوبئة وفرض الحجر الصحي بالطريقة التي تعامل بها الباشا، الذي اهتم بفرض الحجر الصحي في قصره وحول عائلته، مما دفع الجبرتي إلى التعليق بقوله: «إن الباشا بهذا القرار يُبدي حرصه على الحياة الدنيا، وخوفه من رائحة الطاعون، وتطيّره وهروبه من الموت».
لدينا فرصة لمراجعة كثير من التصورات عن تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، مثل قصة تحديث القاهرة ودور إسماعيل باشا وعلي مبارك فيها.. ترجمة الكتاب بديعة وواضحة وسيجد القارئ متعة في تأمل الوثائق التاريخية التي تنقل أصوات الناس العاديين عبر شهادات جرائم القتل، وفي الكتاب أيضا مراجعة لسرديات المدارس التاريخية المصرية، ونظرة دقيقة عن اختفاء مهنة المُحتسب، وتحليل لاختفاء الضرب والتعذيب ومؤسسة السجن، وفيه كذلك نقاش واشتباك مع سؤال تطبيق الشريعة ومتى اختفت من مصر، وظهور ما عُرف بمجالس السياسة، وهنا يشتبك فهمي مع أفكار وائل حلاق وطلال أسد وطارق البشري وعبد القادر عودة.
يتميز الكتاب بالقدرة على استخدام الوثائق لسماع صوت المصريين، وهي الطريقة التي تُعرف بـ«التاريخ من أسفل»، والعودة إلى الجسد والروائح لتتبع تاريخ تطور مدينة القاهرة..
هذه دعوة لقراءة الكتاب من أجل الاشتباك النقدي معه والتفاعل مع الفِكَر التي قدمها، فهي لا تخص القرن التاسع عشر فقط، بل تُلقي بظلالها على عالم اليوم وفهمنا لحياة أجدادنا وتاريخ المؤسسات المصرية الطبية والقانونية. بالنسبة لي كانت رحلة جميلة في بطن التاريخ، وننتظر سيرة محمد علي بقلم خالد فهمي، كما ننتظر أعمالا تاريخية أخرى تُثري المكتبة العربية بالفهم والتحليل، فكما يقول المؤلف، لقد تضاعف حجم سيرة محمد علي، التي جمعها على مدار عقدين، عن النسخة الإنجليزية التي أصدرها منذ فترة بعيدة.. إن لدينا نقاشا استفاض فيه الكاتب، ووضعتُه على موقع «يوتيوب» حتى نسمع منه قصة الكتاب وكيف كتبه، هو فرصة لمعرفة علاقة كاتب مهم مع التأريخ.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...