سلاح من نوع آخر

بقلم: خليفة آل محمود

| 9 يناير, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: خليفة آل محمود

| 9 يناير, 2024

سلاح من نوع آخر

يستعرض هذا المقال تأثير الدعاية الاستعمارية على تصورات الشعوب وكيف أثرت في إيجاد توازن نفسي وثقافي. يتناول المقال تجارب تاريخية تُظهر الدور الحاسم للإسالة لعاب الأطماع في تشكيل الصورة العامة ونقل اليقين بتفوق القوى الاستعمارية.

من عدسة الفانيلات إلى شر الأموال والخيانة – كيف انقلبت تصوراتنا بفعل الدعاية الاستعمارية

أتذكر مجلساً – وأنا صغير- جلس فيه اثنان في الثمانين من العمر، وكان حديثهما يدور حول ما تملكه أمريكا من تكنولوجيا وأقمار صناعية ترسلها إلى السماء، وما زلت أتذكر من حوارهما تلك الجزئية..

قال أحدهما: أتعلم أن لأمريكا كاميرات يرون فيها مقاس فانيلتك؛ فأجاب الآخر بانبهار “يا الله بسترك، ويفكنا من شرهم”! وللعلم، لم تكن تلك القناعة تقتصر على المتحدّثَين وهما في العقد الثامن، بل كانت موجودة لدى جميع الحاضرين، بمن فيهم من يكتب لكم الآن، وكان حينذاك في مقتبل عمره.

التفوق التكنولوجي لأمريكا – والذي يخدم قوتها العسكرية- يقول به الجميع، وقد دخل في يقيننا أننا لا نستطيع كسر ذلك التفوق مهما بلغت قدراتنا، ما أدى إلى خلق حالة من إيقاف التفكير بالمحاولة، والإيمان المطلق بذلك العلو التكنولوجي واستمراره إلى ما لا نهاية، وهناك من يزيد ويضع تصوُّرات ما قال بها الرجل الأبيض، ولكنها مبنية على قاعدة تفوقهم المطلق.

لم يمدّ الله بعمر المتحدثَين ليتحققا من تلك المعلومة على ضوء التجربة الحقيقية.. الكاميرا التي تصور مقاس الفانيلة لم تستطع أن تصور رجلاً بطول بن لادن الفارع، ولم تلاحق رجلاً بوضوح وجه صدام حسين، حتى أبناؤه غابوا عن عدسة تلك الكاميرا، وهي لم ترصد الملا عمر بلباسه البشتوني المميز.. سنوات طويلة مرت على ذلك الحديث، تبين لي بعدها أن تلك العدسة لم تكن موجودة سوى في خانة أوهامنا.

استعان الأمريكان بشيء آخر بدل العدسة والتكنولوجيا الرقمية، هذا الشيء وُجد منذ أن خلق الله البشر على هذه الأرض، إنه إسالة لعاب الأطماع من خلال المبالغ النقدية المقدمة لكل من يقدم معلومة عن هذا أو ذاك، زرْع خيانة بعضنا لبعض في النفوس بسلاح المال، حتى إذا جاء وقت الحقيقة لم يكن سوى المال ينتظر أول طامع للحصول عليه نظير معلومة توصلهم إلى مبتغاهم.. غابت العدسة وحضر سلاحا المال والخيانة.

نظرية التفوق أو الدعاية أتت نتيجة عمل منظم ولم تكن خبط عشواء، وهي تستهدف التأثير على الشعوب لإيصالها يوماً ما إلى القناعة بأن ما يُقال لها هو حقائق ومعلومات مؤكَّدة لا يمكن أن يفندها أحد؛ فيصل المستعمر إلى مبتغاه ويوقع فينا الهزيمة النفسية. وفي التاريخ نمرّ بشكل عابر على عنترة بن شداد، الذي لم يغب عنه ذلك البعد النفسي؛ وقد سُئل يوماً عن شجاعته فقال: “أفلق رأس الجبان الضعيف، ليخاف القوي الشجاع”.

في الإرث الاستعماري طُبِّق ذلك الأمر، القهر الذي طبقه البريطانيون على الشعوب المستعمَرة لمدة قرنين زرع لديها اليقين بهيمنة الرجل الأبيض، والقناعة بتفوق العرق البريطاني عليهم!. يقول السياسي الهندي “شاشي ثارور” إنه قرأ في طفولته قصة الهندي الذي كان من أوائل من زاروا إنجلترا، واندهش كثيراً حين شاهد الأطفال البريطانيين يلمِّعون أحذية العابرين.. كذلك فإن أحد الأمراء الهنود – وهو الأمير رانجي- كان أكثر ما استوقفه حين وصل إلى إنجلترا للدراسة، هو مشهد البريطانيين المنخرطين في أعمال الطبقة الدنيا؛ فالهالة الكبيرة في أذهان الشعوب المغلوبة على أمرها جعلتها لا تقبل مثل تلك الصور.

“يا الله بسترك”.. قالها رجل هو تحت التراب اليوم، رحمه الله ورحمنا.

لله الحمد، صور مقاس الفانيلات كانت وما زالت بستر الله، ونسأل الله أن يبقينا بستره دائماً في كل أمورنا.. ولكني أتفق معه في قوله “الله يفكنا من شرهم”.. ذلك الشر الذي كان ولا يزال وسوف يستمر ما بقينا.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

سوريا وثورة نصف قرن

سوريا وثورة نصف قرن

سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...

قراءة المزيد
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع "إصلاح" مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا...

قراءة المزيد
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها أهليته لأن يكون حاكماً عربياً مكتمل الموهبة، فلم يعد ينقصه شيء لاستقلال دولته، بل وأن يكون الحاكم على غزة عندما تلقي الحرب أوزارها، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل قبل أن يفعلها! فعلها أبو مازن، فقد أغلق مكتب الجزيرة في رام...

قراءة المزيد
Loading...