سيد قطب في مذكرات أدباء عصره
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 2 سبتمبر, 2023
مقالات مشابهة
-
ذلك يوم عزَّ فيه العرب
" ذلك يوم عز فيه العرب".. هكذا جاءت في المرويات...
-
العلم النافع: أساس التدبّر والتمكين
-
لم يخترع محمد علي الذرة!
أزمة الفنان، والمقاول، محمد علي، مرتبطة بمحنة...
-
الوثنيّة وأسبابُها.. بين يدي ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم
إلى جانب الجاهليّة التي كانت تمثّل الصّنميّة...
-
دولة تسير إلى حتفها!
عندما يريد الله تعالى أن يهلك الباطل ينصّب عليه...
-
وزارة الحقيقة.. حكاية رواية «1984»
قبل حلول كريسماس عام 1936 بأيام قليلة، دخل صحفي...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 2 سبتمبر, 2023
سيد قطب في مذكرات أدباء عصره
بين الشخصيات التي أثار تاريخها الأدبي والفكري جدلا واسعا يبرز سيد قطب.. فقد توفرت بشأنه كل دواعي النزاع والاختلاف، حوله وحيال إرثه الأدبي والثقافي، فهو من الذين قفزوا من جانب إلى آخر، إذ انتقل من عالم الأدب والنقد إلى عالم التفسير القرآني والدعوة الدينية والتغيير السياسي عبر الدين، فكان اصطدامه بالسلطة السياسية بعد فترة قرب وودٍّ جمعته بها، وبلغت قصة حياته ذروة دراميّتها بحكم إعدامه ثم تنفيذه عام 1966م، فمات شهيد أفكاره التي نادى بها، وبموته الأسطوري تحوَّل إلى رمز للحركات الإسلامية، ثم أهَّلته مسيرته وبلاغته ومواقفه وتحولاته ليحجز لنفسه مكانة عالية في هرم المؤثرين فكريّا في القرن الماضي.
كنتُ أطالع صفحات منوعة من ذكريات شخصيات أدبية، فرأيت صورة لسيد قطب تختلف عن تلك الصورة النمطية التي يحب البعض أن يحصره فيها، فصورته في المذكرات الأدبية أكثر ضحكا واستبشارا، وتعبِّر عن أديب رقيق، فهو مثل كل الحالمين حاول الاعتراض على العالم حتى لو دفع روحه ثمنا لهذا الاعتراض.
يحكي الأديب عباس خضر في كتابه “شخصيات عرفتهم” عن سيد قطب، إذ تعرّف إليه أديبا شابّا في طليعة عصره، تخرج في “دار العلوم” وشرع يكتب شعرا ونثرا، ويتردد على مجلس عباس محمود العقاد، حتى صار تلميذه وأحد مريديه المجددين. واشتُهر سيد قطب في بداياته، كما يحكي عباس خضر، بمعركة أدبية نشبت بينه وبين محمد سعيد العريان على صفحة مجلة “الرسالة”، كان أحدهما أهلاويّا والآخر زملكاويّا.. وقد انتمى سيد قطب إلى حزب العقاد، فيما سعيد العريان تعصَّب لمصطفى صادق الرافعي.
ويرى عباس خضر أن سيد قطب مرَّ في حياته الفكرية بمراحل ثلاث على وجه الإجمال: الأولى تتلمذ فيها على يد العقاد، والثانية استقلَّ فيها فكريّا وتفرَّد بثورية أدبية شاملة اتسمت بالسخط على الأوضاع القائمة، سياسية كانت أو اجتماعية، وكان سلاحه في هذا مقالات نارية على صفحات مجلتي “الرسالة” و”العالم العربي”، وكان ذلك عقب نكبة فلسطين واغتصاب الإسرائيليين أراضيها، أما مرحلته الثالثة والأخيرة فكانت تحوله إلى معترك الدين.
كان سيد قطب يزور قهوة “الحلمية” أحيانا طلبا للقاء صديقه الشاعر طاهر أبو فاشا، وكان ما يجمع بينهما انتماؤهما إلى العقاد، وكان خضر يلتقيه مرات مختلفة، منها في إدارة الثقافة بوزارة المعارف، التي انتقل إليها خضر للتدريس، وقال له قطب حين رآه هناك: “مبروك العمل بالتدريس، إنه مجزرة الأديب”. وأحيانا كان القطار هو الذي يجمع خضر بقطب، الذي كان يسكن في حلوان، فيقضيان الطريق في نقاش يقطعه وصول القطار إلى حلوان، كأنَّ صباحا أدركهما وأسكتهما عن الكلام المباح. يقول خضر إن قطب كان في هذه الأيام متقد المشاعر نحو ثورة إصلاحية تغير الأوضاع القائمة، فكان نتاج ذلك أنْ ألَّف كتابه “العدالة الاجتماعية”.
يحكي عباس خضر عن ليلة قضاها في قسم شرطة حلوان، إذ اشتبه رجل شرطة فيه حين رآه ليلا، متهما إياه بـ”وضع قنبلة عند عين حلوان لنسفها”، وبناءً على هذا الاتهام فهو “عميل صهيوني”. كان ذلك عقب الإعلان عن إنشاء دولة الاحتلال.. قال الضابط لخضر: “تعرف حد في حلوان يضمنك؟” قال: نعم.. أعرف سيد قطب!. وجاء المُنقذ سيد قطب، الذي كان ما يزال مأمون الجانب لدى السلطات، حضر مرتديا معطفا فوق بيجامة وفي قدميه “شبشب”.. دخل القسم ومازح الضابط قائلا: “إنه صهيوني خطير.. لا تدَعوه يُفلت”. خرج عباس خضر ناجيا من المبيت في السجن، بعد منتصف الليل، وكتب مقالة في مجلة “الرسالة” حكى فيها ما كتبه الضابط في المحضر: “وبتفتيش المتهم عثرنا في جيوبه على شعر ومقالات”، كأن الشعر والأدب حِرز يُذكر في محضر الشرطة!.
انتشرت حفلات التكريم الأدبي في ذلك الزمان، والحكاية ما تزال على لسان خضر، فأراد طاهر أبو فاشا وجماعة من أصحابه، بينهم سيد قطب، أن يسخروا من هذه الحفلات، فتبرع أحدهم، وهو الشاعر مهدي مصطفى، الشيخ المُعمَّم الذي خلع زيَّ المشايخ ولبس زيَّ الأفندية، وطبعوا بطاقة دعوة ووزعوها، وكان نصُّها: “تتشرف لجنة ذكرى الأحياء من بني آدم بدعوة حضرتكم إلى حضور الاحتفال بإزاحة “الكاكولا” (الزيّ الأزهري) عن جثمان الشيخ مهدي مصطفى”؛ وانتهت الدعوة الساخرة بـ: “لا أراكم الله مكروها في عزيز لديكم”.
كانت حفلة حافلة بدأها سيد قطب بقوله: “بمناسبة تغيُّب المحتفَى به نبدأ الحفل”، وخطب فيها أكثر من عشرين شاعرا، منهم حسين شفيق المصري وسيد قطب وأحمد مخيمر.. وألقى طاهر أبو فاشا قصيدة تغزل في مطلعها بمحبوبته “سبتيَّة”:
سبتيَّةُ لا تكنْ نَجواكِ عذلي .. فإنَّ بمُهـجـتي حِلـلًا بتِغـلي
ولما سافر سيد قطب إلى أمريكا أخذ يتبادل الرسائل مع عباس خضر، فكتب له خضر في إحدى الرسائل أنه “قرفان من الأحوال عندنا”، فردَّ سيد يعاتبه في رسالته: “لستُ أحاول أن أمنعك من القرف، ولكني أحب أن يستحيل هذا القرف سخطا، نحن في حاجة إلى السخط على أوضاعنا الحاضرة، وأن نجمع العناصر الساخطة المتيقظة لننشئ سياسة جديدة”.. كانت هذه الرسالة في عام 1950م، وقطب في سان دييغو بكاليفورنيا. وفي رسائل “خضر-قطب” آنذاك، بدا الغضب الشديد متملّكا سيد قطب، غضب من الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي بين الباشاوات وعموم الشعب، كل هذا في فترة كانت مصر فيها تعيش مرحلة غليان سياسي.
عاد سيد قطب من أمريكا ساخطا عليها هي الأخرى، وأبدى حماسة شديدة لثورة 23 يوليو 1952م، وملأه نشاط غير عادي في هذه الأيام.. لقد رأى في هذه الثورة فرصة للتغيير وأملا في الأفضل، لكنه ركَّز على وزارة التربية، ونقد أساليبها في التعليم نقدا شديدا، وفي مرحلته التي انغمس فيها في الدعوة الدينية جاء ابتعاد عباس خضر عنه، حيث ظلَّ في المجال الأدبي، بينما غاص قطب في مسالك أخرى من المجهول.
يرى خضر أن سيد قطب كان طموحا جدا، وقد أعدَّ لطموحه هذا عدته من دأب وكفاح وتكريس وقت وجهد، فلم يتزوج لئلا ينشغل بأسرة وأولاد: “تزوجنا وانشغلنا، والأولاد مَجْبَنَة وقد وقعنا فيها، وسيد كان جادّا مترفعا”.. يعلق خضر، مضيفا: “ففي جريدة المصري سبقوا اسمه بلقب دكتور، فكتب في العدد التالي أنه ليس دكتورا، وكان يمكن أن يترك ذلك اللقب يجري على الأقلام والألسنة ويشيع دون أن يصححه، لكنه لم يفعل”.
صورة سيد قطب عند الولد الشقي
يرى محمود السعدني في كتابه “مسافر على الرصيف” أن نماذج ثلاثة مثَّلت أدباء مصر في هذه الفترة، ولن تجد بين طائفة المثقفين نماذج خارج هذا المثلث: “الأول رفض أن يصرح السعدني باسمه، والثاني أنور المعداوي، والثالث هو سید قطب!”.
كان السعدني يرى الثلاثة أدباء يجلسون في قهوة “عبد الله” بميدان الجيزة، وكان الحديث بينهم يدور حول مجلة جديدة في طريقها إلى الصدور، وهي مجلة «الفجر الجديد». الغريب أنَّ الثلاثة تجرَّعوا الموت قهرا، وإن اختلفت الوسائل.. فقد اكتشف الأديب الأول -مجهول الاسم- أن الكفاح طريق ليس له نهاية فآثر أن يبتعد، وارتاد طريقا آخر هو طريق “أكل العيش”، لكنه اكتشف بعد فترة أنه كسب عيشه وخسر موهبته! وكانت النتيجة إحساسه بالقهر والمرارة ثم الموت بعد ذلك.. وكان موته الأدبي قد سبق موته الرسمي بفترة طويلة.
أما سيد قطب فيصفه السعدني بأنه: “كان اشتراكيا إسلاميا، واشتُهر بعد ذلك باعتباره أحد زعماء جماعة الإخوان المسلمين، ثم قُدِّر له أن يدفع حياته ثمنا لكتاب أصدره في الستينيات هو (معالم في الطريق)، وبالرغم من غيابه عن دنيانا كل هذه السنين، فإنه ما يزال يُعتبر الأب الروحي لكل الجماعات الدينية المختلفة التي ظهرت في مصر، وربما في العالم الإسلامي كله!”. ويكمل السعدني وصفه لشخصية قطب: “اكتشف قطب منذ البداية أن الطريق الذي يسلكه يؤدي به إلى السجن وإلى القتل، فأسرع الخطى على الطريق الذي اختاره، وعندما صعِد على حبل المشنقة أدرك أن طريقه المادي قد انتهى ليبدأ طريقه اللا نهائي، وهو الذي أدى به إلى الخلود وإلى الأبدية!”.
“كان أنور المعداوي نموذجا ثالثا”، والكلام للسعدني: “لم يكن سلبيّا مُتعايشا مع الظروف مثل الأديب الأول، ولم يكن فدائيّا كسيد قطب الذي رفض الخضوع مع العيش الناعم ورفض الثورة حتى الموت.. وعندما اكتشف أن قوى البطش أعتى وأعنف انفجر داخل نفسه شيء ما، ولم يلبث أن قاطع الحياة كلها ومات”.
صورة سيد قطب عند سليمان فياض
بحثتُ كثيرا عن كتاب “النميمة” للأديب سليمان فياض، فقد توقعتُ من العنوان صراحة في عرض الشخصيات، وفعلا كان الكتاب من أكثر السير جرأة في تشريح حياة المثقفين وفضح سلوكهم وتقدير بعضهم، وقفت أمام فصل بعنوان “تحولات كاتب”، ثم أعجبني كيف يصف فياض شخصية سيد قطب: “بين كُتَّاب مجلة الرسالة شدَّني إليه الناقد الكبير سيد قطب، جذبني إليه قلمه المرهف السيَّال، ولغته الشفيفة، الموحية بما وراءها من معانٍ وظلال، كأنها غلالات رقيقة نسجتها أنغام، بدت لي مقالاته على صفحات مجلة (الرسالة) آية من آيات النثر الفني في أروع وأوضح صورها”.
كان أول ما قرأ فياض لسيد قطب في سنِّ الصِّبا مقالتين على صفحات “الرسالة”، إحداهما عن أم كلثوم التي قال إنها “خامة صوتية كونية مدهشة، لم تجد بعدُ الملحن الذي يحررها من طابع التطريب في الأفراح والليالي الملاح”، يقول فياض: “لقد قلت لنفسي هذا كاتب له قضية، بل قضايا في الحياة والمجتمع والناس، صوت من أصوات التقدم الكونية بين البشر”.
جمعت فياض وسيد قطب عدة لقاءات في دار الأخير الفسيحة بضاحية حلوان، وكانت ثورة يوليو قد بسطت سلطان الجيش على أرض مصر.. زار فياض بيت قطب فوجده جالسا في حديقة بيته تحت شجرة عتيقة.. شكره قطب على مقالته عن أحد كتبه، وشردت عين سيد منصتا للسكون وزقزقة ما خافتة لطيور بين الأغصان في أشجار الحديقة، سأله فياض عن رأيه في الثورة المصرية، فابتسم قطب وقال: “هنا تحت هذه الشجرة، كان الضباط الأحرار يعقدون بعض اجتماعاتهم معي في فترة التمهيد للثورة”.
اتجه سيد قطب إلى مكتبه وعاد يحمل مظروفا أخرج منه صورا له مع الضباط الأحرار.. وقال له فياض: “لا أرى بينهم محمد نجيب”، فابتسم قطب وقال: “هذا جاءوا به واجهة للثورة، الرتبة العسكرية لها حساب”، ثم أشار قطب إلى جمال عبد الناصر في الصورة، وقال: “هذا هو قائد الثورة الحقيقي، يتوارى الآن وراء محمد نجيب، وغدا سيكون له شأن آخر”، ثم سأله فياض: “هل تحوَّلت عن النقد؟”.. دُهش سيد من السؤال، وردَّ: “من قال ذلك؟” ثم ابتسم وقال: “الكاتب حين تكون له قضية يكتب في النقد وفي غير النقد، وغايته أن يبعث العافية في أوصال الناس، الكاتب ليس ناقدا فحسب”.
تُصوّر كتابات سليمان فياض صورة لسيد قطب وأفكاره وكيف اختلف معه لاحقا، وحزن فياض عليه وهو يسمع صوته عبر المذياع في المحاكمات التي تلت ذلك، وكيف اختلفت طرقهما في الحياة، فبعد سهرات الضباط الأحرار معه في بيته تحوَّل سيد قطب إلى خصم للثورة وقائدها، معلَّقًا على المشانق، ليحق فيه قول أمل دنقل:
مُعلَّق أنا على مشانق الصباح
وجبهتي –بالموت- مَحنيَّة
لأنني لم أحنِها.. حيَّة!
ومع الذكرى السابعة والخمسين لإعدام سيد قطب يظل الجدل مُهمًّا حوله وحيال تراثه وصورته في تاريخ مصر، بل في التاريخ الفكري للمنطقة العربية كلها.
مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان
كثيرًا ما أمعنت النظر صغيرًا في لوحة زيتية كانت تزين صالون بيت جدي، تتوسطها صورة رجل طاعن في السن والتعب، يحمل القدس على ظهره مربوطة بحبل الشقاء على جبينه ويمشي حافيًا في صحراء من الرفاق. وكبيرًا عرفت أنها لوحة "جبل المحامل" للفنان سليمان منصور، وهي ترمز إلى الشعب...
ذلك يوم عزَّ فيه العرب
" ذلك يوم عز فيه العرب".. هكذا جاءت في المرويات عن النبي الأكرم ﷺ مقولته، عندما ذُكرت أمامه معركة ذي قار التي قادها العرب في جاهليتهم ضد القوات الساسانية الفارسية، وكان النصر فيها من نصيب العرب. وكأن النبي الأعظم يشير- والله أعلم- إلى مفهوم السيادة والحرية لدى العرب،...
0 تعليق