شاعر الألف سنة: أمير الشعراء أحمد شوقي
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 2 مارس, 2024
مقالات مشابهة
-
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
في روايته البديعة "انفجار جمجمة"، رسم الأديب...
-
نموذج البطل
بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ...
-
العالم الفكري للروائي عبد الرحمن منيف
الرمز في الشخصيات والزمان والمكان توثيق تاريخي...
-
فرية “النامي” وعملية غليلوت
الفرية التي جاء بها مشعل النامي على نساء غزة،...
-
هاريس ضدّ ترمب: ماذا أرى في الكرة البلورية؟
يتذكّر بوب وودورد Bob Woodword، الكاتب الصحفي...
-
مع مذكرات وزير إعلام عبد الناصر
تذكرت أنني اشتريت نسخة من مذكرات محمد فايق، وزير...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 2 مارس, 2024
شاعر الألف سنة: أمير الشعراء أحمد شوقي
يستكمل المقال تقديم نظرة عميقة في شخصية الشاعر أحمد شوقي، حيث يبرز أدبه وحياته الشخصية وصداقته مع شكيب أرسلان. يتم تسليط الضوء على طريقة نظمه للشعر وتأثيره الثقافي، وينتهي بتأمل في مكانته الأدبية المتجددة.
أحمد شوقي – الشاعر وصديق الخلود الأدبي
في أحد صباحات الشهر الماضي، شعرت بوجع قلب عندما استمعت إلى حلقة بودكاست «أسمار» عند حديث ضيوف البرنامج عن الحنين إلى الأوطان في الشعر، كررت قول الشاعر التركي ناظم حكمت: «المنفى مهنة شاقة يا صاحبي»، وتذكرت منفى الشاعر أحمد شوقي في إسبانيا، وهو الذي قال: «أَحرامٌ على بلابله الدوحُ حلالٌ للطير من كل جنس».. هكذا تجدَّد الحنين إلى الوطن، وقفزت إلى ذهني أبيات شوقي عن الوطن ومصر، إذ يقول:
وطني لو شُغِلت بالـخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وقد تذكرت قول الموسيقار محمد عبد الوهاب عن أمير الشعراء أحمد شوقي: «تعلّمت منه أن الفن أهم من كل شيء، قال لي ذات مرة “موت يا محمد، عشان أتأثر وأكتب فيك قصيدة رثاء”، قالها جادًّا رغم أنه كان يحبني كابنه».
وإذا فكرنا في علاقة الشاعر أحمد رامي وأم كلثوم، سنجد أنها قريبة من الحالة نفسها، حبٌّ دون أمل يُنتج قصائد للمحبوبة، العبارة قاسية لكنها معبرة عن حياة بعض الفنانين، فضلًا عن لقاء للشاعر محمد مهدي الجواهري، يقول فيه إن الشاعر «انتحاري، ينتظر أزمة سياسية حتى ينفجر بالقصيدة».
شوقي والوظيفة الحكومية
يورد الأديب أحمد حسن الزيات، صاحب مجلة الرسالة، في كتاب «ذكرى عهود»، الذي جمعه وحرَّره الدكتور عبد الرحمن قائد، قصةً عن تعرفه إلى أمير الشعراء أحمد شوقي، وتبدو فيها حساسية أحمد شوقي من النقد.
يشرح الزيات موقف شوقي من أهمية الوظيفة الحكومية، فقد كان يرى – كأكثر الناس في هذا العهد- أن الرجل إذا لم يعمل في الحكومة كان أشبه بالمتشرد؛ لذلك كان قلقًا على الزيّات من هذه الناحية، فهو يستكبره على العمل الحُر، ويعجب ألا يكون له مكان في وزارة المعارف. ثم أخذ شوقي يسعى – من وراء علم الزيّات- لدى وزير المعارف، علي الشمسي باشا، ويمهد له السبيل للقائه، لكن الزيات رفض الانضمام للوزارة، وقال الزيات لأحمد شوقي: «أنا يا سيدي أستاذ في الجامعة الأمريكية، مرتبي ضخم ومكاني مرفوع ورأيي مسموع وحريتي مطلقة.. فهل نافعي أن أدع الطريق الذي قطعتُ أكثره إلى طريق أبدأ فيه من جديد، وأن أعمد إلى رجلي الطليقتين فأضعهما في قيد من حديد؟!».
ولقد عبَّر مصطفى صادق الرافعي في كتاب «صون القريض»، جمع وتحرير الدكتور عبد الرحمن قائد، عن هذه الحساسية، فقال: «لقد ابتُلي شوقي بحب نفسه وحب الثناء عليها، وتسخير الناس في ذلك بما وسعته قوته، إلى غيرة أشد من غيرة الحسناء تقشعر كل شعرة منها إذا جاءها الحسن بثانية»، وفي وصف الرافعي لشوقي يقول: «هذا الشاعر العظيم هو هدية الخديو توفيق والخديو عباس لمصر، كالدلتا بين فرعي النيل»، لكن الرافعي يعقد مقارنة بين ظرف المتنبي مع سيف الدولة وبين شوقي وحكام الأسرة العلوية.
الفرق بين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم
يصف لنا الزيات شوقي وصفًا بديعًا، إذ يقول: «كان كلما أنشأ شوقي عبقرية من عبقرياته أقرأني إيّاها، وذلك في جميع أطوار عمره، يعرض ما يقرض على الآذان المتباينة والأذهان المتفاوتة ليعلم موقعه من كل ذوق، وأثره في كل نفس.. وكان أشد ما مكن الألفة بيني وبينه تشابُه في الطبع من فرط الحياء، وحب العزلة، وقلة الكلام، والانقباض في الندى الحافل، والابتعاد عن الحفل الجامع، فكأن كلًّا منا كان يرى في الآخر عزاء عن نقصه وعوضًا عن حرمانه».
وفي إحدى الليالي، سهر الزيات مع الشاعر حافظ إبراهيم وأنشده حافظ قصيدة ليرى فيها رأيه، وأخذ شاعر النيل يقرأ للزيات عينيته بصوته الفخم وإلقائه المعبر حتى فرغ منه، ثم نظر إلى الزيات نظر المستفهمِ المطمئن المعجب، فقال له الزيات: «هنيئًا لك التصفيق الحاد والاستعادة المتكررة يا حافظ! قصيدة شوقي للقراءة وقصيدتك للسماع، ومعانيه للخاصة ومعانيك للجمهور! فقال حافظ في لهجته الساخرة الفكِهة: وهل يعنيني غير الجمهور؟».
أحمد شوقي والحساسية من النقد
يقول الزيات عن ضيق شاعرنا شوقي من النقد: «قال لي شوقي وقد أخذ بذراعي والقوم منصرفون: إني أشكرك على نقدك وتقريظك على حد سواء، فإن الحق في ما أخذت لي ظاهر، والعدل في ما أخذت عليّ صريح؛ وإني أسلم لك ما عددت من هفواتي وأرده إلى اختلاف الأثر بين عصرين وثقافتين وذوقين، وليس من السهل أن يتجرد الشاعر أو الكاتب جملة أو فجأة من عوامل الوارثة والدراسة والبيئة.. ولكن، ما رأيك في ما كتب فلان وفلان؟ وهل كان من مقتضيات الحال أن تنشر مجلة صديقي هيكل آراء خصومي في عدد تكريمي؟».
ويحكي أمين نخلة في كتابه «في الهواء الطلق» قصة عن أحمد شوقي في أثناء تنزهه في بيروت، ومعه صديقه محجوب ثابت، وأتى ذكر نقد العقاد الحاد لشعر شوقي، وقال محجوب: «هنيئًا للعقاد!». غضب شوقي، وهو بادي العجب وقال: هنيئًا له؟! فرد محجوب: إي والله، هنيئًا له، فسوف يذكره التاريخ ويشتهر بأنه هذا الذي كان يكره شوقي! ففرح شوقي من حُسن جواب محجوب.
وكما يقول زكي مبارك: «كانت قد تكوَّنت في مصر عصابة لقتل شوقي، وأعدَّت لذلك (نبّوتًا) غليظًا اسمه الديوان، ومع ذلك مات الديوان وانهزمت العصابة وبقي شوقي يطغى كالحية النضناض». وزكي مبارك يعرض بالعقاد وكتابه الديوان الذي كتبه هو والمازني لنقد شعر شوقي، والنبوت، العصا الغليظة ينبت بكثرة في حرافيش نجيب محفوظ، ولا أعرف معنى النضناض، وبالبحث في القاموس رأيت معناها الحية التي تحرك لسانها.
ويشرح الناقد ماهر شفيق فريد في كتابه «حصاد القلم» قوة هجوم العقاد: «ومما ضاعف من قوة الأثر الذي أحدثه هجوم العقاد على شوقي، حدة لفظه، ولدده في الخصومة، وجمعه بين المنطق الصارم وبلاغة القلم، واستراتيجياته الجدلية، وتلك النبرة الحارة التي تسري في تضاعيف نثره، فتُحيله إلى ما يشبه الشواظ الحارق الذي يحرق ويدمر».
لكن مصطفى صادق الرافعي يذكر في كتابه «صون القريض» أن المعركة قد كسبها شوقي: «وقد حاولوا إسقاط شوقي مرارًا، فأراهم غباره ومضى متقدمًا، ورجع من رجع منهم ليغسل عينيه ويرى بهما أن شوقي من النفس المصرية بمنزلة المجد المكتوب لها في التاريخ».
شوقي واحد من صانعي القومية المصرية
يهمني في قول الرافعي في «صون القريض» ربطه بين شوقي ومصر، فقد قال عنه: «هذا هو الرجل الذي يخيل إليَّ أن مصر اختارته دون أهلها جميعًا لتضع فيه روحها المتكلمة»… ويقول: «ومتى ذُكر في بلد من بلاد العالم العربي اتسع معنى اسمه فدل على مصر كلها، كأنما قيل: النيل أو الهرم أو القاهرة، مترادفات لا في وضع اللغة، ولكن في جلال اللغة».
وإذا استعرنا مفهوم الكاتب بندكت أندرسون في دراسته «جماعات متخيلة»، يذهب أندرسون إلى أن الأمم الحديثة لم تكن طبيعية قط، ومتخيَّلة تختلف عن مخترَعة أو وهمية، فهي ليست كيانات قومية مزيفة، بل يجري اختراعها، وينبهنا أندرسون إلى وسائل تكوّن تلك الأمم عبر المطبعة وإنتاج الكلمة المكتوبة، وظهور كُتل القراء الموحَّدة، فبظهور الورق والطباعة والجريدة زادت الأواصر بين قومية واحدة، ويركز أندرسون على وسائل أخرى، مثل التعداد وظهور خريطة للبلد، ومؤسسة المتحف التي تجمع تاريخ بلد بعينه في مكان بعينه، لكن يهمني أن أستعير فكرة أن نضج القومية المصرية كان أحد معالمه أشعار شوقي.
وعلى الرغم من وجود قصائد يمدح فيها شوقي السلطان عبد الحميد، وقد نال رتبة البكوية ثم انقلب عليه ومدح أتاتورك لاحقًا، فإنه ظلَّ ذا هوى مصري، وعلى الرغم أنه من الطبقة الأرستقراطية القريبة من القصر، فإنه أسهم في الدفع بظهور عصر الأفندية، ولا غرابة أن يكون أول اشتباك من الأفندية مع أكبر رأس أدبي، وهو أحمد شوقي.
ولقد جمع شوقي عناصر الفخر بمصر بين رافد عربي إسلامي ورافد الفخر بالفراعنة وعظمتهم، في عصر كان فيه اكتشاف الآثار هو موضة تلك الأيام؛ فلقد شهد عصر اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون، والأهم أن شوقي أراد أن يقوّي ثقة المصري بنفسه أمام الأجانب والإنجليز..
يقول شوقي في افتتاح البرلمان المصري:
مصـر الفتاة بلغـتْ أَشُــدَّها وأثبت الـدَّمُ الزكيّ رُشـدَها
يـا ربّ! قَـوِّ يـدهـا وشُـدَّها وافتح لها السبل ولا تَسُدَّها
هل سرق أحمد شوقي أشعار لافونتين التي على لسان الحيوانات؟
«إن للظّالم صدرًا يشتكي من غير عِلَّة».
يحكي عارف حجاوي في حديثه عن أحمد شوقي شاعر الألف عام، كما يقول عنه في كتابه «إحياء الشعر»، أنه قد عجب كثيرًا لشوقي، هذا الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين ينظم – وهو يطلب العلم في فرنسا- أشعارًا عن الحيوان فيها أصالة وظرف وذكاء، وتنم عن تجربة واسعة ومعرفة بأغوار النفس الإنسانية.
وقرأ حجاوي أشعار لافونتين، وبه اقتدى شوقي في قصائده عن الحيوان، وهو يتمنى ألا يكون شوقي سرق منه شيئًا.. قرأ حجاوي لافونتين بترجمة الأب نقولا أبو هنا، وسعِد به، بخفّته وظرفه وجمال حكاياته، كما سعِد أكثر لأن قصائد شوقي أحلى منها؛ وبلغت سعادته منتهاها عندما وجد شاعرنا شوقي مبدعًا في كل قصصه، فهو لم يسرق من الفرنسي شيئًا، بل استوحى الفكرة لا غير، أما لافونتين فقد تأثر بإيسوب ونقل عنه، وتأثر بـ«كليلة ودمنة» ونقل عنها. وشوقي في قصائده التي على لسان الحيوان صنع قصصه، وصنع لكل منها حكمتها كما يذكر حجاوي، وبعضها ليست فيه حكمة ذات بال، بل فيه نكتة أو كشف لنفاق الإنسان.
ثم يقول حجاوي في «إحياء الشعر»: «شوقي في هذا الشعر شاعر خطير، وفنان كبير، وظريف من ظرفاء الأدب العربي النادرين، وعبقري نضج في روحه ونفسه مبكرًا؛ وهذه القصائد تصلح للأطفال، وتصلح للكبار أكثر.. وكثير منها يحتاج تذوُّقُه إلى نضج ومعرفة بدقائق النفس البشرية لا يتأتى لطفل.. على أن شوقي كتب في المقدمة التي جعلها في صدر الشوقيات عندما صدرت أول مرة عام 1900م، “أتمنى لو وفقني الله لأجعل لأطفال المصريين مثل ما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة، منظومات قريبة المتناول، يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم”».
وينبهنا حجاوي إلى تأثر شوقي كثيرًا بفيكتور هوغو وألفريد دي موسيه ولامارتين؛ أما لافونتين القديم فقد تأثر بقصصه وصنع قصصًا على طريقته. وعرف شوقي شكسبير باكرًا من ترجمات صديقه خليل مطران بعض مسرحيات شكسبير إلى العربية، ولكن مثله الأعلى ظل المتنبي، الذي قال عنه: «صاحب اللواء، والسماء التي ما طاولتها في البيان سماء، ولو سلِم من الغرور، وسلم الناس من لسانه لأجللتُه إجلال الأنبياء».
ماذا يقرأ أمير الشعراء؟
يذكر الكاتب فهد بن عسكر الباشا في كتابه الجميل «الناطق الأخرس: حديث القراءة والكتب» حديثًا عن قراءات الشاعر أحمد شوقي، وينتقي من بطون المراجع المختلفة صورة للشاعر تقرّبنا من ثقافته، ويبدأ مع فتحي رضوان مؤلف كتاب «عصر ورجال».. يقول رضوان: «نظرتُ إلى حجرةِ أمير الشعراء، أو أجَلْت عيني فيها بسرعة، فلم أرَ فيها شيئًا باهرًا من الرياض أو الأثاث، فقد كانت وسَطًا بين الاتساع والضيق، وكان كل ما فيها من الأثاث عاديًّا، ويُخيَّل إليَّ الآن أنَّ ما استوقف نظري وقتذاك هو مجموعة تناثرت هنا وهناك، بعضها مفتوح ومنكفئ، وبعضها مغلق،….، ومنها ما ألقي به في الأرض، وما تُرك فوق وسادة أريكة، وهكذا إذًا شوقي يقرأ، أو أنه لا يزال يقرأ» وأخبرَنا رضوان أنَّه رأى في حُجرة الشاعر من الكتب المعروفة: الأغاني، والكامل، والعِقد، ونَفْح الطيب والأمالي.
ثم يأتي فهد الباشا بنقولات مفيدة من كتاب حياة شوقي لأحمد محفوظ، تؤكد علاقة شوقي بالكتب وشغَفه بالمعرفة بقول محفوظ: «مما أعرفهُ عنه أنه كان يقرأ كل كتاب تُخرجه المطابع، سواءٌ كان مؤلَّفًا أو مترجَمًا لكاتب قديم أو مُحدَث، وهذا لشغفه بالمعرفة وحُبِّه للاطلاع، فهو يقرأ كتب الطب والفقه والحديث والعلوم والجغرافيا والأدب، وكل ضروب المعرفة».
وكان يُعجبه أن يكون وافر المحصول من مفردات اللغة العربية، وقد بلغ في ذلك حظًّا لكثرة نظره في دواوين الفحول من الشعراء الجاهليِّين والمخضرمين والمحْدَثين، وكتب الأدب الرفيعة، كالحيوان للجاحظ، والأغاني للأصفهاني، والكامل للمُبرِّد، والأمالي للقالي.
بل وذكر محفوظ أن شوقي بعد مرضه، وحتى بعد أن أصبح شبَحًا لامع العينين، وذلك أنه كان يَحيف على بدنه في الطعام، ذكر أنه انكب انكِبابًا كُليًّا على النظْمِ والقراءة: «كأنه يريد أن ينسى مرضه في هذين، واختار مِن الكتب: كتب الصوفية، كالإحياء للغزالي وإظهارِ الحق.. وجعل القرآن فاتحة كل قراءة، يقرأ كاتبُه عليه من سورة أو سورتين».
ويأتي الكاتب بقصة من أنور الجندي تحكي عن نفي الشاعر إلى إسبانيا، وهناك أدخل شوقي أولاده المدارس الراقية ثم عكف على قراءة كتب الأدب العربي، فاستوعب منها الكثير، وكانت مكتبة شوقي حافلة بالكتب القيمة، وفيها ما يزيد على الألف سفر عربي وعلى خمسمائة باللغتين، الفرنسية والتركية، وفي كتاب الناطق الأخرس حديث جميل عن قراءات الأدباء مثل علي أدهم والرافعي ومحمود محمد شاكر والروائي سومرست موم وغيرهم.
غزليات شوقي
تغزَّل شوقي بالحِسان في مصر وفي إسطنبول التي كان يزورها كثيرًا، ولم يكن في غزله سوى رجل يحب الجمال، و«الجمال البشري سيد الجمال كله» كما قال ناثرًا.
يقول شوقي:
يوم كُـنَّا، ولا تَـسـلْ كـيـف كـنّـا نتهادى من الـهـوى مـا نـشــاء
وعـلـيـنـا مـن الـعـفـاف رقـيـب تـعِـبـتْ فـي مِـراسِــه الأهــواء
جاذبتْني ثوبي العَصِيَّ، وقالت: أنـتـم الـنـاس أيـهــا الـشــعـراء
فـاتـقـوا الله في قـلوب العذارى فـالــعــذارى قـلــوبُـهـنَّ هــواء
وقال شوقي:
اللهَ في الخلق من صَبٍّ ومن عاني تفـنى الـقـلوب ويبـقى قلـبكِ الجاني
صــونـي جـمالَكِ عـنَّـا، إنـنـا بشـر مـن التراب، وهذا الحسن روحاني
ومن الطريف أن شوقي يحكي عن أولاده، وله قصيدة في ابنته أمينة، لكن زوجته لا تظهر في شعره، ويصرح ابنه حسين في كتابه عن أبيه بأن شاعرنا كان يسهر كثيرًا ويُهمل زوجته، وهي صابرة لا تؤاخذه في شيء.
وهذا السهر نراه في مقولة زكي مبارك: «كما أن السر في نبوغ أحمد شوقي هو تهالكه الفاضح على الموسيقى والغناء، ولولا السهرات الطروبة المجنونة التي يقضيها شوقي في بيئات اللهو والطرب والتمثيل والغناء لمات شيطانه منذ أزمان!».
شوقي: صداقة أربعين سنة مع شكيب أرسلان
يكشف الأديب شكيب أرسلان نفسية شاعرنا في كتابه «شوقي: صداقة أربعين سنة»: «كان شوقي يقيد الشوارد ولا يدعها تفوت، ولم يقل لنفسه في وقت من الأوقات: دعينا من هذا الآن لأن لنا ما يشغلنا عنه وسنعود إليه في ساعة أخرى، بل كان المعنى المبتكر هدفًا له كيفما عنّ وأنّى عرض.. لم يخلط شوقي الشعر بالسياسة ولا التجارة ولا الفقه ولا الإدارة ولا الزراعة ولا عمل من الأعمال الأخرى التي يتعاطاها الناس».
وأحب حديث الأمير شكيب أرسلان عن نفسه في علاقته مع شوقي، إذ خلا قلبه من الحسد لشوقي، فيقول: «ومن نِعم الله عليَّ أنه عافاني من داء الحسد الذي قد يُبتلَى به كثيرون، لا سيَّما من رجال الأدب الذين لا يزال الواحد منهم يتعقَّب ويترقَّب حتى يجد لأخيه غلطةً يبرِّد غلَّته بتكرارها وتنبيه الأفكار إليها.. وأنا لم أكن حاسدًا لشوقي، ولا كافيًا إيَّاه حسدي ونفاستي وغُصَّتي برفيع مقامه فحسب، بل كنت مُفتخِرًا به فرِحًا بنبوغه سعيدًا بعبقريته، أجده من حسنات هذا الزمان الكبرى، ولا تُتاح لي الفرصة للإتيان بذكره أو للاستشهاد بشعره إلَّا توردتها. وقد كان يبدو لي من كُتُبه إليَّ أن ذلك يَرُوقه، لا سيَّما عندما كان في أول ميدانه ولم يكن أحرز ما أحرز في ما بعدُ من الشهرة الطائرة والزعامة القاهرة، وقد كان يُفضِي بما يشعر به من افتتاني به إلى خليله وخليلي معًا، شاعر القطرين وثالث القمرَيْن، خليل بك المطران، فكان الخليل يقول له: إن شكيب لا يحسدك ولا يحسد أحدًا، ولذلك تراه دائمًا مُفتخِرًا بك».
وسر نبوغ شوقي أنه «كان يفكر في الشعر قاعدًا وحاضرًا وباديًا وسائرًا وساريًا وفي المركبة وماشيًا، إلى غير ذلك؛ فقد أعطى شوقي نفسه للشعر فأعطاه الشعر ما لم يعطه غيره في هذا العصر»، كما قال عنه صديقه خليل مطران.
كيف ينظم الشاعر قصيدته؟
في كتاب «إحياء الشعر» تورَد لنا طريقة شوقي في النظم من مصادر عدة أهمها وأوثقها رواية سكرتيره الشخصي أحمد عبد الوهاب أبو العز، الذي حدثنا كيف نظم شوقي قصيدة «قفي يا أخت يوشع خبرينا»: «جاء شوقي من منزله في المطرية فوجدني في المكتب في الساعة الحادية عشرة والنصف، فأملى علي ثمانية وعشرين بيتًا، ثم قال لي لا تبعد عني حتى إذا جاءني شيء أمليتُه عليك؛ وخرج يمشي حول العمارة، فكان كل بضع دقائق يعود فيُملي عليَّ خمسة أو ستة أو سبعة أبيات. وأخيرًا دخل المكتب وجلس على مقعده وأخذ يمر براحته اليسرى على رأسه، ففهمت أنه ينظم في سرِّه، قال: اكتب، فكتبت وكتبت، ونظرنا إلى الساعة فإذا هي الواحدة بعض الظهر، فقال: كفى، أعطني ما كتبت لأني على موعد في هذه الساعة مع داوود [بركات] في جريدة الأهرام، فقدمتها له بعد أن عددت أبياتها ووجدتها أربعة وثمانين بيتًا».
ومن حديث عبد الوهاب وغيره عن شوقي، نعرف أن شاعرنا كان يرجع إلى المعجم كثيرًا.. نجد ذكرًا لرجوعه إلى المعجم وهو في بيته بالقاهرة، الذي أسماه «كرمة ابن هانئ»، وهو في السفينة مسافرًا إلى فرنسا. وفي بيته كان له من يساعد في إعادة ترتيب كتبه على الرفوف، فبعد الخاطر «تيجي هنا عملية الصنعة».
شوقي والخلود الأدبي
وقد حزنتُ على صورة قبر أمير الشعراء أحمد شوقي، شاعر الألف سنة.. الحكومة في مصر نفت هدم قبره، لكن الصور التي خرجت تُظهر إهمالًا في المقبرة وكسرًا في الأرضيات، والأمم الحية تمجِّد الشعراء والمفكرين وتعتبرهم واجهة البلد ومستودع هويتها الثقافية ورمز قوتها الناعمة وفخر عزها، ونحن نهدم قبورهم ونطردهم من ذاكرة الأجيال القادمة، بدلًا أن نشيد لهم مقابر للعظماء.
وقرأت قصة أوردها الفنان محمد عبد الوهاب عن زيارة الزعيم سعد زغلول بيت شوقي لتهنئته بعُرس ابنه البكر.. وكيف التقط لهما المصور صورة، وفي أثناء التحضير للصورة بمعدات ذلك الزمن قال أحدهم، هذه صورة تجمع الخلودين: خلود الوطنية، وخلود الشعر! فعلَّق سعد زغلول ويده على كتف شوقي: «هذا الرجل وحده هو الخلود، فبعد خمسين سنة لن تجدوا مَن يذكر اسم سعد، ولكن ستجدون للأبد مَن يذكر شوقي ويترنم بشعره».
وما أصدق هذه العبارة! فعندما مات الأديب الفرنسي «أناتول فرانس» كتبت الصحف: «اليوم انخفض مستوى الأدب في فرنسا».. وهذا هو الخلود الأدبي.
مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
معضلة الإعلام عن غزة بين الحياة والموت
منذ طوفان الأقصى، ومواقع التواصل تحتفي بأخبار إبداعات أهل غزة، ومبادراتهم التي تنهض وسط الإبادة والحصار، وتطرق جدران الخزان لتبعث برسائل التحدي، بهدف إظهار تمردهم على الواقع الصعب الذي فرضه الاحتلال، وإعطاء الأمل للعالم في أن هذه الثلة الصابرة المحاصَرة المرابطة قادرة...
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
في روايته البديعة "انفجار جمجمة"، رسم الأديب النوبي الراحل "إدريس علي" صورة قلمية مدهشة لبطل الرواية "بلال"، الذي تداخلت شخصيته واختلطت سيرته بشخصية وسيرة "إدريس" نفسه. "بلال" باختصار إنسان مر بظروف قاسية في حياته.. قادم من الجنوب إلى القاهرة بثقافة "التهميش"، أحب...
نموذج البطل
بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ طعنةً في القلب، وحربةً نافِذةً في الرّوح، ومع أنّ الدّموع قد تجفّ، والأيّام قد تمرّ، والعهود تتقادَم، إلاّ أنّ جرحًا ما يظلّ طريًّا نديًّا مهما غَبَرَتْ عليه السّنون. كيفَ تُنسَى وتلك الصُّورة الأُسطوريّة لرحيلك عصيّةٌ...
المقالة جميلة.. وكفى