صيام الأطفال.. رؤيةٌ فقهيّةٌ وتربويّة
بقلم: محمد خير موسى
| 13 مارس, 2024
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: محمد خير موسى
| 13 مارس, 2024
صيام الأطفال.. رؤيةٌ فقهيّةٌ وتربويّة
كلما حل شهر رمضان المبارك تبدأ محاولات الأهل مع أطفالهم ليصوموا؛ وتثور الحوارات والنقاشات حول هذا الصيام بين مؤيِّد داعٍ له وبين رافض محذّر منه، وقد تجاوزت النقاشات في قضية صيام الأطفال في رمضان المجاميع الإسلامية لتنشغل بها المؤسسات الصحية والتعليمية في عدد من دول الغرب، كما حدث في ألمانيا على سبيل المثال في الأعوام الأخيرة.
وفي هذا المقال نعالج هذه القضيّة من بعدها الفقهي والتربوي باختصار نرجو ألّا يكون مخلًّا.
أولًا: تحرير مفهوم “الطفل” المقصود بالصيام
من المهم في البداية التأكيد أن مفهوم الطفل في الفقه الإسلامي يشمل كل من لم يصل درجة التكليف من الذكور والإناث؛ فسِنّ التكليف يُعرف بظهور علامات معيّنة وهي الاحتلام والحيض، وفي حال عدم وجود علامات البلوغ من الحيض والاحتلام يكون التكليف بإتمام خمس عشرة سنة قمرية من العمر للذكور والإناث عند الشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمّد من الحنفيّة.
بينما يرى المالكية أن التكليف في حال عدم ظهور علاماته يكون بتمام ثماني عشرة سنة، ويرى أبو حنيفة أن التكليف بالسنّ يكون ببلوغ ثماني عشرة سنة للغلام وسبع عشرة سنة للفتاة.
فإن وصل الفتى إلى البلوغ، سواء بظهور علاماته الجسدية أم ببلوغ السنّ، فإنه يخرج عن مسمّى الطفل؛ فمحلّ بحثنا إذن هو صيام من لم يصل إلى التكليف الشرعي بظهور علاماته أو بالوصول إلى سنّه.
ثانيًا: الأصل الشرعي في صيام الطفل
الأصل في صيام الطفل الذي لم يصل سنّ التكليف هو عدم وجوب الصوم عليه بالاتفاق، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: “رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقِل”. ولكن صيام الطفل في حال قيامه بذلك صحيح، وله الأجر بصيامه، وإنما – في المقابل- ليس عليه إثم أو مسؤولية شرعية في حال عدم صيامه.
ولا يجوز إلزام الطفل من أبويه أو من يتولى أمره بالصوم قبل سنّ التكليف، ومن يدّعي وجوب الصوم على من هم دون سنّ التكليف فقد وقع في غلط فادح؛ يقول الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم وهو يتحدث عن صوم الأطفال: “ولكنهم ليسوا مكلّفين، قال القاضي: وقد روي عن عروة أنهم متى أطاقوا الصوم وجب عليهم. قال: وهذا غلط مردود بالحديث الصحيح: رُفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم، وفي رواية يبلغ.. والله أعلم”.
ويمكن التّعامل مع هذا الاختلاف بين الفقهاء، في تحديد سنّ التكليف لمن لم تظهر عنده علامات البلوغ من الاحتلام والحيض في مسألة صيام الأطفال، باعتماد مفهوم الطفل بناء على مراعاة البيئات المختلفة؛ ففي البيئات التي يكون فيها الصيام طويلًا كالبيئات الأوروبية مثلًا فلا ضير من اعتماد قول المالكية وأبي حنيفة في تحديد سنّ الإلزام بالصوم، بحيث لا يكون هناك إلزام لمن لم يرَ علامات البلوغ ولم يتمّ ثماني عشرة سنة من عمره.
وفي البيئات التي تكون فيها ساعات الصيام قصيرةً نسبيًّا، فلا ضير في اعتماد قول الشافعية والمالكية والصاحِبَيْن من الحنفية، وهو إتمام خمس عشرة سنة.
ثالثًا: هل كان الأطفال يصومون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
نعم؛ إن صيام الأطفال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثبت بأحاديث صحيحة عند البخاري ومسلم.
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن الرُّبيِّع بنت معوّذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: “أرسل رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلّم غداة عاشوراء إلى قُرى الأنصار، التي حول المدينة: من كان أصبح صائمًا، فَلْيُتِمَّ صومه، ومن كان أصبح مفطرًا، فَلْيُتمَّ بقيّة يومه. فكُنّا، بعد ذلك نصومه، ونُصوِّم صبياننا الصغار منهم إن شاء اللَّه، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللّعبة من العِهْن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إيّاه عند الإفطار”.
وهذا الحديث في صيام عاشوراء، والمهم فيه أن الربيع بنت معوذ تتحدث بصيغة الجمع عن تعويد الأطفال على الصيام وآلية التعامل معهم لإشغالهم عن تعب الصوم وإرهاقه.
الحديث الثاني: ما عنون به البخاري الباب في صحيحه إذ يقول: “باب صوم الصبيان، وقال عمر رضي اللَّه عنه لِنَشْوان في رمضان: ويلك وصبياننا صِيامٌ؟! فضربه”.
وهذا حديثٌ يروي حادثة الإتيان بسكران في نهار رمضان إلى عمر رضي الله عنه؛ فضربه أمير المؤمنين وهو يسأله باستنكار؛ سكران في نهار رمضان وصبياننا وصغارنا صائمون؟!
هذا الحديثان يدلّان أن الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا يعوّدون صغارهم على الصيام فدل هذا على مشروعية صيام الأطفال، ومشروعية أن يقوم الآباء والأمهات والأولياء بأمر الأطفال بالصوم.
يقول ابن حجر في فتح الباري في شرح عنوان الباب: “قوله: “باب صوم الصبيان” أي: هل يشرع أم لا؟ والجمهور على أنه لا يجب على من دون البلوغ، واستحبّ جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري وقال به الشافعي أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه”.
رابعًا: ما هي الفوائد والثمرات من صيام الأطفال؟
لصيام الأطفال فوائد جمّة تتعلق بهم وبنشأتهم، وتتأكّد هذه الفوائد في هذا الزمن الذي نعاني فيه من تغريب الأجيال، ومن هذه الفوائد تعويد الأطفال وتمرينهم وتدريبهم على أداء عبادة الصّيام، وهذا التعويد والتدريب يثمر تعلّق الطفل بالعبادة، بحيث ينشأ عليها فلا يشعر بصعوبتها أو النفور منها في حال أصبحت مفروضة عليه عند البلوغ. يقول العيني في “عمدة القاري شرح صحيح البخاري”: “وإنما كانوا يصوّمونهم لأجل التمرين ليتعوّدوا بذلك، ويكونوا على نشاط بذلك بعد البلوغ”.
ومن الفوائد كذلك بناء علاقة قلبيّة بين الطفل وشعيرة الصوم، بحيث يكون التمرين والتعويد الرّاشد سببًا في حبّ الطفل لهذه العبادة، والفرح بها، وهذه العلاقة جزء من البناء العاطفيّ للطفل وتحبيبه بشعائر الإسلام، بحيث يقبل عليها رغبةً ومحبّة ويتعلّق بها قلبه تعلّقًا يثمر علاقة سويّةً مع العبادات.
ومن الفوائد أيضًا تنمية إحساس الطفل بالشعائر وتعظيمها، بحيث يستشعر في نفسه هيبة وقيمة رمضان، فالتدريب على الصيام ينمي في الطفل إحساسه بمكانة الشهر واختلاف مكانته بين مختلف أيام السنة، وهذا يفيد في بناء قيمة تعظيم شعائر الله في النفس مع الزمن.
وكذلك من الفوائد تربية الأطفال على قيمة النعم المختلفة، لا سيما في هذا العصر الذي يعاني في الآباء والأمهات من فرط التذمّر من أبنائهم وفقدان الرضا.
وهي في النهاية مسؤوليّة التربية الموكولة إلى الآباء والأمهات بتدريب أطفالهم على الشعائر والعبادات والفضائل، وقد عبّر عنها الإمام الغزالي في “إحياء علوم الدين” أبلغ تعبير إذ يقول: “اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابلٌ لكلّ ما نُقش، ومائلٌ إلى كل ما يُمال به إليه؛ فإن عُوّد الخير وعُلّمه نشأ عليه؛ سعد في الدّنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلّم له ومؤدّب، وإن عُوّد الشرّ وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه والوالي له”.
خامسًا: ما هي السنّ التي يبدأ فيها أمر الأطفال بالصوم وتدريبهم عليه؟
وهذه المسألة ليس فيها نصّ كما هو الحال في بعض النصوص التي وردت في الأمر بالصلاة لعشر سنين، ولذلك تعدّدت أقوال الفقهاء فيها فمنهم من قاسها على الصلاة وقال: إن بدء تعويد الأطفال على الصيام يبدأ بالسابعة كالإمام الشافعي، ومنهم من ذهب إلى البدء بتعويدهم الصيام ابتداء من سنّ العاشرة كالإمام أحمد، ومنهم من قال بالبدء بأمر الطفل بالصيام إن بلغ اثنتي عشرة سنة كالإمام إسحق بن راهويه.
وقد ذكر ابن حجر العسقلاني هذه الأقوال في “فتح الباري”، فيقول وهو يتحدث عن “باب صوم الصبيان”: “واستحبّ جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري وقال به الشافعي أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه، وَحَدَّه أصحابه بالسبع والعشر كالصلاة، وَحَدَّه إسحاق باثنتي عشرة سنة، وأحمد في رواية بعشر سنين”.
وهذا الاختلاف بين الفقهاء في تحديد السنّ يتيح للمربّين سعةً في تقدير الأمور، بحيث يقدّرون العمر المناسب لطفلهم لبدء أمره بالصوم مراعين في ذلك ظروفهم البيئيّة وحال طفلهم وقدراته الذاتيّة.
والذي أقترحه هنا أن يبدأ التعويد على الصيام بالتدريج اللطيف، بحيث يمكن أن يبدأ التعويد على الصيام للأطفال الذين بلغوا السابعة، فيطلب منهم آباؤهم الصيام من أذان العصر إلى أذان المغرب، بحيث يعيشون لحظات الإفطار والمساعدة في تجهيزه، وهم “صائمون” وهذا الصيام لا يرهقهم ولا يؤثر على جهدهم في مدارسهم وتعليمهم، ويسهم أيضًا في زجّهم في جوّ الصيام ومشاعره الجماعيّة مع مختلف أفراد الأسرة.
حتى إذا بلغ الطفل سنّ العاشرة، فيبدأ تعويده على الصيام بشكل تدريجي بحيث يصوم من الفجر إلى أذان الظهر في الثلث الأول من رمضان، ويصوم إلى أذان العصر في الثلث الثاني، ويصوم إلى أذان المغرب في الثلث الأخير، وهذا طبعًا يختلف باختلاف البلدان وأحوالها من حيث طول ساعات الصيام وقصرها؛ فإن كان في البلدان ذات الساعات الطويلة فيُكتفى بصيام ساعات يطيقها الأبناء، ولا تتسبب لهم بإرهاق يعيقهم عن قدراتهم التعليمية، أو يتسبب لهم بضررٍ في صحتهم.
سادسًا: سلوكيّات مهمة أثناء صيام الأطفال
من المهم جدًّا أثناء صيام الأطفال ألّا يتمّ إجبارهم على إتمام الصيام في حال وصولهم إلى مشقّة ظاهرة تستطيع الأمهات والآباء تقديرها؛ فإجبار الأطفال على إتمام صومهم بشكل يتسبب معه ضرر قد يؤدي إلى انعكاسات نفسية عند الطفل تجاه الصوم كله.
وكذلك من الضروري تذكير الطفل بضرورة الصبر والتحمل عند شكواه من العطش أو الجوع المحتمل، والتبيين له أن هذا الجوع والعطش والتعب سبب لمحبة الله تعالى، وتعزيز معاني المراقبة في نفسه.
وكذلك لا بد من إشغال الطفل عن جوعه وعطشه بما يسلّيه من الأمور النافعة أو الألعاب التي ليس فيها ضرر فكري أو نفسي أو بدني؛ ففي رواية مسلم لحديث الربيع بنت معوذ عن صيام الأطفال: “ونصنع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام، أعطيناهم اللعبة تُلهِيهم حتى يُتِمّوا صومهم”.
فهذا يدلّ أنهم كانوا يصنعون الألعاب من الصوف لأجل أن يتلهى بها الأطفال عن جوعهم وعطشهم أثناء الصوم
ولا بد أن يحضر التّعزيز من خلال المكافأة على الصّوم، والوعد بالجوائز، ففي الحديث نفسه تدلّ رواية البخاري أن هذه الألعاب كانت تُصنع أيضًا لتعطى للأطفال عند إفطارهم، ولا ضير أن يكون المعنيان مُحتمَلَين في الحديث.
إن صيام الأطفال فرصة كبيرة لتعليق قلوب الأطفال بشعائر الإسلام ومن أهمها الصيام وعبادات رمضان المختلفة؛ فعلى الآباء أن يحرصوا ألّا يفعلوا العكس فينفّروا الأطفال من الصيام بطريقة تعامل غير راشدة وإن كانت الغيرة الصادقة دافعها وباعثها؛ إنّ في ذلك لذكرى.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
0 تعليق