هل باتت معرفة إسرائيل “فرض عين”؟

بواسطة | ديسمبر 8, 2023

بواسطة | ديسمبر 8, 2023

هل باتت معرفة إسرائيل “فرض عين”؟

تفاقم تأثير إسرائيل في المحتوى الأميركي حول الشرق الأوسط، مع الغياب الفاحش للدراسات العربية المتخصصة حول إسرائيل يشكل هذا الفراغ تحديًا خطيرًا يعيق الفهم الشامل للقضية الفلسطينية والصراع العربي

في مايو من عام 2008 التحقت بمعهد “بروكينجز” للأبحاث بالعاصمة الأميركية واشنطن باحثاً زائراً، وهو أحد أهم مراكز صنع السياسة في أميركا، وكثير من باحثيه ينضمون للعمل بالإدارة الأميركية، خاصة المحسوبة على الحزب الديمقراطي.
على بعد أمتار قليلة فقط من المركز، الذي يقع في “جادة ماسيشوتس”، تقع مكتبة لبيع الكتب، كنت أذهب إليها من وقت لآخر من أجل القراءة وشراء ما تجود به دور النشر؛ وبطبيعة الحال كانت اهتماماتي تنصب على الكتب التي تغطي منطقتنا وأحوالها. سألت أحد العاملين بالمكتبة ما إذا كان لديهم قسم لبيع كتب خاصة بالشرق الأوسط، فدّلني على قسم صغير، ذهبت إليه وبدأت أتصفح الكتب الموجودة على أرففه، وكانت الصدمة أن غالبية الكتب لم تكن عن الشرق الأوسط، بل عن إسرائيل!! سواء كانت كتباً تاريخية، أو سياسية، أو إستراتيجية، أو اقتصادية، أو… إلخ، وربما وجدت كتاباً أو اثنين فقط عن مصر، في دراسة الجوانب الأثرية والسياحية.. صُدمت وتخيّلت أن البائع فهمني بشكل خاطئ، فسألته ثانية: أريد قسم الشرق الأوسط وليس إسرائيل؛ فكان رده حازما: هذا هو القسم الخاص بالشرق الأوسط، ولا يوجد غيره!!

تكرر الأمر نفسه عندما ذهبت إلى مكتبة تجارية أخرى شهيرة بأميركا تبيع الكتب بكافة أصنافها: روايات وخيال علمي وسياسة وبيزنس وتاريخ وتحضير الوجبات… إلخ؛ وسألت عن الكتب الخاصة بالشرق الأوسط، فدّلني أحد العاملين على مكان، فوجدت أيضا أن معظم كتبه هي عن إسرائيل تاريخا وسياسة واقتصاداً… إلخ.
خطورة المسألة ليست فقط في التضليل والتزييف الذي قد ينتج عن هذا المنحى في ما يخص شؤون المنطقة، بل الأهم أنه يترك تأثيراً هائلاً على القارئ الأميركي العادي، الذي يريد أن يعرف ويفهم الشرق الأوسط.. صحيح أن الأمر قد يختلف في المكتبات الجامعية والأكاديمية، حيث يوجد تنوّع في الكتب الخاصة بالمنطقة بحيث تغطي بلداناً أخرى غير إسرائيل، لكن هذا فقط للمتخصصين من الباحثين والدارسين وليس لعموم الناس؛ ولذلك ليس غريبا أن نجد هذا التأثير الكبير لإسرائيل داخل المجتمع الأميركي، خاصة في أوساط النخب السياسية والإعلامية، وتُضاف طبعاً لهذا الجانب عوامل أخرى لا مجال هنا لاستعراضها.
وإذا كان ما سبق متوقعا في بلد مثل أميركا، لا يلتفت سكانه كثيراً لما يحدث خارج أسوار بلدهم، ويكتفون بمعرفة القشور عن العالم الخارجي، ناهيك عن التأثير الهائل للوبي الصهيوني على السياسة والمجتمع والجامعات بأميركا، فإن الأمر يبدو أكثر فداحة عندما تكون هذه هي الحال في العالم العربي! لا أقصد هنا هيمنة إسرائيل على دور النشر وبيع الكتب، بل العكس تماماً، وهو غياب المعرفة العربية الجادة عن إسرائيل، تاريخا ومجتمعا وأدبا وثقافة واقتصادا و… إلخ، وذلك إلى درجة يشعر فيها المرء بأن الأمر مقصود ومتعمد من أجل تغييب وتجهيل الشعوب العربية عما يدور بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ليس فقط لأنه من الضروري، بل من الواجب، على كل عربي ومسلم أن يعرف كل ما يتعلق بدولة مجرمة احتلت ولا تزال أراضي عربية في فلسطين وسوريا ولبنان، بل أيضا لأن إسرائيل تدرسنا بشكل جاد وتعرف كل شيء عن تاريخنا، وثقافتنا، وديننا، ومجتمعاتنا، ونخبتنا، وعاداتنا وتقاليدنا… لذلك فإن لم يكن التعرف على إسرائيل بالطريقة ذاتها واجب، فإنه مطلوب من باب الندية على الأقل.

في السياق نفسه، وقعت بالصدفة قبل أيام على لقاء “بودكاست” على اليوتيوب، مع أستاذ الدراسات اليهودية بالجامعة التونسية، الدكتور فوزي البدوي، يتحدث فيه بإسهاب عن الضعف الشديد لمعرفتنا بإسرائيل، وكيف أن محاولاته لإنشاء مركز يختص بالدراسات اليهودية قبل ثلاثة عقود قد باءت بالفشل؛ ولا يخفي الدكتور البدوي مرارته في الحديث عن الموضوع، وهو الذي قضى عقوداً في البحث والدراسة والتفكيك للمسألة اليهودية، وقد نشر أبحاثا عدة عن الموضوع.
هذه المسألة لا تختص فقط بتونس، بل هي ظاهرة عربية عامة، حيث لا تكاد توجد مراكز بحثية متخصصة بالدراسات اليهودية وبإسرائيل تحديداً؛ وباستثناء الموسوعة التي كتبها الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري عن اليهود واليهودية والصهيونية، فلا توجد دراسات جادة ورصينة عن الموضوع، وباستثناء مركزين أو ثلاثة لا توجد مراكز أو برامج دراسية عن مسألة إسرائيل، بل تكاد تختفي المقررات الدراسية عن موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي.

أذكر أن مصر كان فيها عدة برامج بحثية ومقررات أكاديمية عن الموضوع قبل عقود، ولكنها اختفت بشكل غريب، والأنكى أن يكون هذا الاختفاء بفعل فاعل أو مقصوداً، وهو ما لا يمكن استبعاده مطلقاً. وفي هذا السياق أذكر أنه قبل عقدين تقريبا تم إغلاق مركز أبحاث تابع للجامعة العربية، وكان مقره العاصمة الإماراتية أبو ظبي، لأنه نشر أبحاثا لم ترُق لإسرائيل، وتم اتهامه بمعاداة السامية بحسب ما راج في الأخبار وقتها.
وسواء كان هذا الأمر عفويا -وأشك في ذلك- أو مقصودا -وهو الأرجح- فإنه يمثل كارثة حقيقية على العقل العربي الذي تم تجويفه وتغييبه عن إسرائيل، وبالتبعية عن القضية الفلسطينية.
وفي ظل ما يجري حاليا من فظائع للفلسطينيين في قطاع غزة من قتل وتدمير وتهجير، فإن معرفة إسرائيل بشكل عميق وجاد، باتت فرض عين على كل عربي قادر، إن لم يكن سياسياً، فأخلاقياً وإنسانياً.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...