طوفان الأقصى.. حدثٌ سيُعيد كتابة التاريخ
بقلم: شيرين عرفة
| 24 ديسمبر, 2023
مقالات مشابهة
-
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض...
-
شكرا للأعداء!
في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وكتاب "سراج...
-
“سيد اللعبة”.. قصة هنري كيسنجر ودوره في الشرق الأوسط (1)
عندما كنت أحضّر حلقة وثائقية من برنامج مذكرات عن...
-
11 سبتمبر.. هل استوعبت أمريكا الدرس؟
بعد مرور أكثر من عقدين على أحداث 11 سبتمبر 2001،...
-
أبناء الله وأحباؤه
يروى أن رجلاً كان لديه خاتم الحكمة، فقرر إذ مرض...
-
الظلم الغربي في دعم العدوان على غزّة
في القرآن الكريم، وردت الإشارة إلى العدوان سبعاً...
مقالات منوعة
بقلم: شيرين عرفة
| 24 ديسمبر, 2023
طوفان الأقصى.. حدثٌ سيُعيد كتابة التاريخ
في رحلة عبر الأحداث الفارقة والمحطات التاريخية التي شكلت مسار التاريخ على مدى الخمسمائة عام الأخيرة، نجد أنفسنا أمام تطورات فارقة شهدتها البشرية. سنكمل الرحلة في هذا النص لنستعرض بعض اللحظات الرئيسية التي أثرت في مسار التاريخ الحديث، بدايةً من القرن السادس عشر وصولاً إلى الأحداث الراهنة التي تتسم بمشاهد دموية مروعة،
فقد أفاق العالم فجأة على صرخات نساء مكلومة وصور مروعة لجثث أطفال رضع، جراء ضربات صاروخية تحولت إلى أشلاء. تلك المشاهد الصادمة أثرت على الوعي وأجبرت الجميع على إعادة التفكير في المفاهيم والحقائق التي كانوا قد تلقوها على مدى العقود السابقة.
التحولات التاريخية والانطلاق نحو البروتستانتية
لو تصفحنا كتابا تاريخيا، يحاول الوقوف بنا على المحطات الرئيسة والأحداث الفارقة، التي غيرت مجرى التاريخ وأسهمت في إحداث تحولات كبرى، يمكننا وصفها بأنها انتقلت بالبشرية من عصر إلى آخر، وتحديدا في آخر خمسمائة عام، فإنه ستكون لنا معه وقفات.
ربما يعيدنا إلى بداية القرن السادس عشر، ليأخذنا إلى مشهد القس الألماني “مارتن لوثر”، أثناء تعليقه وثيقته المكونة من 95 أطروحة على باب كنيسة القلعة في “فيتنبرغ” بألمانيا، والتي طالب فيها بإلغاء النظام البابوي الكاثوليكي، واعترض على التسلط الكنسي وصكوك الغفران؛ فكانت البداية لانطلاق المذهب البروتستانتي كمذهب مسيحي إصلاحي، يعتنقه اليوم مئات الملايين في أوروبا وأمريكا، وسنرى أن المذهب قد ساهم لاحقا في نشوء عصر الحداثة، وهيمنة الرأسمالية، والعديد من المفاهيم التي قامت عليها دول الغرب، كما سيكون سببا في بروز مفهوم المسيحية الصهيونية، أو ما تعرف بالمسيحية الإنجيلية، التي ستدعم وبقوة إنشاء الكيان الصهيوني المسمى بإسرائيل.
ثم سيعرِّج بنا الكتاب على بريطانيا، في ثمانينيات القرن الثامن عشر، لندخل معمل المخترع الإسكتلندي “جيمس وات” الذي تمكن من تطوير المحرك البخاري، فأضحى بذلك شرارة البدء لعصر الثورة الصناعية الأولى، ولتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية كبرى، بدأت في أوروبا ثم انتقلت لكافة البلدان.
الحروب وتحولات العالم
ولا يمكننا أن نغفل عن المشهد التاريخي لحادث اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق “فرانز فرديناند” وزوجته، أثناء زيارتهما “سراييفو” عاصمة البوسنة والهرسك، في 28 يونيو/ حزيران 1914، على يد طالب صربي يدعى “غافريللو برنسيب”؛ ليشهد العالم بعد ذلك بشهر واحد اندلاع الحرب العالمية الأولى، التي استمرت لأكثر من أربع سنوات (1914- 1918) متسببة في سقوط عشرات الملايين من القتلى والجرحى.
ومن رحم تلك الحرب، وُلدت الحرب العالمية الثانية، التي استمرت ست سنوات (1939 – 1945)، وكانت نتيجة طبيعية لتسويات ما بعد الأولى، فغيرت ملامح خريطة أوروبا والعالم؛ فسقطت إمبراطوريات، وتفككت مستعمرات، وبزغ نجمان جديدان، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وصعدا كلاعبين دوليين وقوتين عالميتين قبل أن يأفل نجم الأخير، مع نهاية عام 1991، فنجد أنفسنا أمام عالم أحادي القطب، تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية، ويُطلق عليه اسم “النظام العالمي الجديد”.
ولن أبالغ حين أقول إنه عقب انتهاء الأحداث الحالية، التي بدأت من عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتبعتها حرب لم تضع أوزارها بعد، سيسجل المؤرخون هذه التطورات على أنها واحدة من الأحداث الفاصلة والتحولات الكبرى، التي ستجعل عالم ما بعد هذا التاريخ لا يشبه أبدا ما قبله.
فالعملية التي قامت بها قوات المقاومة الإسلامية حماس، حين هاجمت عددا من المستوطنات الصهيونية، التي تعرف باسم مستوطنات غلاف غزة، فقتلت وأصابت وأسرت عددا من الجنود الصهاينة والمستوطنين، وترافق معها ضربات صاروخية لعمق الأراضي المحتلة؛ كانت المسوغ لقوات الاحتلال الإسرائيلي في شن حرب انتقامية على سكان القطاع، ما لبثت أن تحولت إلى حرب إبادة عرقية، ساندتها فيها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا وألمانيا، وكان لها دعم لا مشروط من الاتحاد الأوروبي؛ وأرسلت أمريكا حاملتي الطائرات “جيرالد فورد” و”يو إس إس أيزنهاور”، وتعهد الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بتقديم الدعم الكامل لإسرائيل، سواء بالمال أو السلاح أو العتاد.
ملامح حرب عالمية مكتملة الأركان، لكنها فريدة من نوعها.. تحالف يضم سبع دول من أقوى دول العالم، اقتصادا وتسليحا ونفوذا، يقاتلون على الجانب الآخر مقاومة شعبية من بضعة آلاف من الجنود، مضروب عليهم حصار خانق منذ 16 عاما، في بقعة جغرافية محدودة، ليست دولة ولا شبه دولة، بل مدينة صغيرة مساحتها تقترب من مساحة حي “شبرا”، أحد أحياء العاصمة المصرية (القاهرة)، لا تملك جيشا ولا أساطيل، ولا قوة بحرية ولا جوية، ولا تملك طيرانا ولا مطارات، ولا كليات عسكرية ولا دبابات أو آليات؛ بل كل ما لديها جنود متطوعون، وباحثون سخَّروا علمهم لخدمة بلادهم، وورش تصنيع أسلحة بدائية بجهود ذاتية، داخل أنفاق مظلمة تحت الأرض، تنتج أسلحة خفيفة إلى متوسطة.. لكن أعظم ما يملكون هو إيمان راسخ، بأن الحياة والأرواح والدماء رخيصة أمام هدف تحرير الأراضي الفلسطينية؛ وبهذا الإيمان استطاعوا حتى الآن – وعلى مدار ثلاثة أشهر- أن يثخنوا في عدوهم، وأن يحققوا انتصارات لم يستطع تفسيرَها المحللون العسكريون.
لو أمكن لنا توصيف ما حدث بنظرة دينية، لقلنا إنها جولة الإعادة لغزوة الأحزاب، المعركة التي احتشدت فيها قبائل العرب المشركة، وتحالفت على قتال عصبة من المسلمين، يقودهم رسول الله، محمد (عليه الصلاة والسلام).
عالم غربي مسيحي، ينحاز بشكل سافر لكيان صهيوني، قوامه مجموعات يهودية متفرقة، تم تجميعها من الشَّتات لتسطو على الأرض، وتزور التاريخ، وتمحو هوية المكان، مدعية لنفسها حقوقا كاذبة قائمة على وعود دينية مزعومة، خارجة من بطون كتب أثرية مشكوك بصحتها، حطمت بها كل ما توصلت إليه البشرية من مواثيق ومعاهدات في آخر قرنين من الزمان.. مزاعم دينية، لو قالت بها جماعة مسلمة، لتحزَّب العالم بشرقه وغربه وشماله وجنوبه على حربها، بدعوى أنها أعظم الإرهاب.
ثقافة غربية زائفة والتحول في فهم القانون الدولي
فجأة، يستيقظ العالم على مشاهد دموية مرعبة، تؤرق العقل، وتعصف بالمنطق، وتقوض الروح.. صرخات نساء مكلومة تصم الآذان، وصور مفزعة لجثامين أطفال رضع، تحولوا بفعل ضربات صاروخية إلى أشلاء، والصواريخ سدد ثمنها مسبقا دافع الضرائب الأمريكي، بعد أن قالوا له في الإعلام إن أمن إسرائيل وبقائها كشوكة في خاصرة الشرق الأوسط هو مصلحة استراتيجية لبلاده، لكنهم لم يشرحوا له الخطورة التي يشكلها هؤلاء النساء والأطفال على أمنه.
محرقة نازية، ومذابح قادمة من العصور الوسطى، تجري فصولها في عصر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات، ويتم نقل مشاهدها المروعة على مدار الساعة وعلى الهواء.. صدمة أجبرت الجميع على إعادة التفكير في كل ما تم استيعابه عبر العقود السابقة، على أنه حقائق ومفاهيم وبدهيات.
العلمانية الغربية، وفلسفة الحداثة، وعصر التنوير.. ما هي إلا أوصاف براقة، أطلقها الغرب على زمن هيمن فيه بقوته العسكرية على بقية العالم، فأعلى من ثقافته المادية، المتجردة من نوازع الفطرة وتعاليم الدين ومبادئ الأخلاق.
القانون الدولي، والمواثيق العالمية، وحقوق الإنسان.. أصنام من عجوة، يتناولها الرجل الغربي كلما تعلق الأمر بدين الإسلام. والمجتمع الدولي كيان هُلامي، لا يُعرف له دور، ولا تُرى له حدود أو أبعاد؛ بينما النظام العالمي الجديد هو عصر البلطجة الأمريكية بلا منازع.
أما عن مصطلح الإرهاب، الذي دأب العالم الغربي على إلصاقه بالمسلمين، وجعله مترادفة حصرية وخاصة بشريعة الإسلام، فغالبا ما يوصف به اعتداء فرد، أو مجموعة مسلحة لها أهداف معلنة وبعضها مشروعة كتحرير الأوطان؛ وبالنتيجة يٌقتل بضعة أفراد هنا، أو يُخطف مسؤول سياسي هناك.
هذا المفهوم – على الرغم من تزييفه- يبدو ضعيفا باهتا ساذجا أمام إرهاب دولة مدعومة بحشد غربي عالمي، وقوانين مؤسسات دولية، تمارس عملية إبادة عرقية، تقتل وتجرح عشرات الآلاف من المدنيين العزل، من النساء والشيوخ والأطفال، وتهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، وتلحق بمدينتهم دمارا هائلا (وصفته صحيفة “واشنطن بوست” أنه لا مثيل له في القرن العشرين)، وبجانب ذلك تقتحم مستشفيات، وتقتل الجرحى، وتدفن بعضهم أحياء، وتهدم مدارسَ، وتستهدف فيها النازحين الذين سبق أن أعطتهم الأمان، وتستخدم أسلحة محرمة دوليًّا، تحرق البشر، وتُقطِّع الأعضاء، وتتعمد اغتيال الصحفيين لكتم صوت الحقيقة، فتقتل منهم عددا يفوق عدد قتلى الصحفيين في حربين عالميتين.. وفوق كل هذا وذاك، تحاصر 2.3 مليون إنسان، فتجوّعهم وتعطشهم، وتقطع عنهم إمدادات المياه والغذاء.
ومن داخل أتون المحرقة، يبدو الإسلام بعيدا عن كل ما حاولت البروباجندا الأمريكية ترويجه، وزرعه في العقول والأذهان؛ فهو دين يبث في قلوب أتباعه ومعتنقيه القوة والطمأنينة، ويساعدهم على مواجهة أقسى الظروف وأصعب الآلام، بل ويجبرهم على احترام أسراهم وحسن معاملتهم، مهما كانت فداحة الحرب ودموية الصراع.
يوما ما، سيكتب التاريخ أن عملية السابع من أكتوبر كانت حدا فاصلا، يقسم العالم إلى عصرين.. وبإذن الله، لن يكون أبدا ما بعدها كالذي كان قبلها.
{والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.. صدق الله العظيم.
كاتبة صحفية وباحثة سياسية
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين
شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في تاريخها السياسي والاجتماعي، تمثل في سقوطها بيد العسكرة الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع الهجري، وجاء في إطار الصراع السياسي والعسكري المستمر بين الإمبراطورية البيزنطية والدولة الحمدانية العربية، التي كانت تسيطر على...
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض الانصياع للقانون الأدبي لتكون حرة طليقة لايحكمها شيء.. وتحكم هي بمزاجها ما حولها.. تأطيرها في قانون متفق عليه لتخرج من كونها حكما مزاجيا، وتدخل عالم التدرج الوظيفي الإبداعي الذي نستطيع أن نتعامل معه ونقبل منه الحكم على...
هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها؟
مع تزايد الدعوات في واشنطن لكي تتولى أوروبا مسؤولية دفاعها وأمنها، ترتجف بروكسل خوفًا من النتائج.. إن التحول في الكيفية التي ينظر بها كل من جانبي الأطلسي إلى موقف الآخر من شأنه أن يوفر الدفعة التي يحتاجها الاتحاد الأوروبي لكي يصبح حليفًا أقل اعتمادًا على الولايات...
0 تعليق