عارف حجاوي: هكذا يفكر وهكذا يكتب بحبر عتيق (2)
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 3 فبراير, 2024
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 3 فبراير, 2024
عارف حجاوي: هكذا يفكر وهكذا يكتب بحبر عتيق (2)
يتأمل الكاتب والناقد الفلسطيني عارف حجاوي في أفكاره وتجاربه، حيث تم تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها الكتَّاب في ظل الاحتلال، كما أنه يشارك تجربته في الكتابة، خيث يربط بين أدب الفصحى والعامية، مستعينًا بكتاب الأغاني لصقل لغته وتقديم كتاباته بطريقة ظريفة، كما يروي تجربته خلال فترة الاحتلال، مظهرًا لقوة الثقافة في مواجهة القهر.
بين الأقلام والدبابات – تأملات عارف حجاوي في زمن الاحتلال
هكذا يقرأ
قرأ حجاوي في كتب العلم صغيرًا، ولا سيما كتب أحمد زكي “بواتق وأنابيق” في الكيمياء، و”قصة الميكروب” في الأحياء، و”مع الله في السماء” في الفلك؛ وقرأ مجلة العربي التي أنارت له درب المعرفة، وقرأ “عرائس المجالس” للثعلبي.. وقرأ العقاد ومارون عبود وطه حسين وسلامة موسى، وظل حتى اليوم يقرأ في العلم والأدب.
يحب عارف حجاوي الكتب ويحكي عنها، ويُمتعك بالحديث عنها في مجالسه عندما تلتقي به.. كتب عن يوجين روغان صاحب كتاب “تاريخ العرب” ووصف روغان بأنه شيطان كتابة، وقد بعث له ببريد إلكتروني حيَّاه فيه، وبعث إليه بفريق تصوير أجرى معه مقابلة طولها نصف ساعة، أخذوا منها عشر دقائق لبرنامج “كتاب قرأته”. ومن بين الأسئلة التي أملاها حجاوي على الفريق: هل قصدتَ أن تكتب كتابك كأنه سيناريو، وأن تقطعه تقطيعًا إلى مناظر؟ وفرح عارف أن يوجين واعٍ بما فعل؛ وقد أيّده في هذا الرأي زميل تليفزيوني لحجاوي قرأ قطعة صالحة من الكتاب ودُهش لطريقته.
يقرأ حجاوي “لسان العرب” قاموس ابن منظور، يقرؤه قراءته للرواية، وإذا أحب حجاوي كاتبًا بعينه كتب عنه، ساعتها يمسك بتلابيب المؤلف، ويظل يغرز سكينه في أحشاء مؤلفاته حتى يستنزف دمه، وتراه مهتاجًا متحمسًا كأي مراهق يكتشف شيئًا جديدًا.. ينصحك حجاوي ألا تجلس إليه وهو في حالة الذبح، فسوف يمتعك بالحديث عن المؤلف وفكره وكتبه.
أحد كُتّاب عارف المفضلين هو بيل برايسون، وسبب ذلك كما يقول “لأنه يبحث عميقًا، ويملك الأسلوب الخلاب. ومن فضائل برايسون أنه وجد نفسه لا يعرف عن العلوم شيئًا فشد الرحال إلى العلماء يسألهم مئات الأسئلة، وقرأ من كتب العلم مئات، ثم كتب أشهر كتاب له، وهو (موجز تاريخ كل شيء تقريبًا)”. مشكلة حجاوي معه أنه قرأ كتبه جميعًا، فهو ينتظر أن ينشر “حضرته” كتابًا جديدًا.
يسأله أحد المحاورين في حوار صحفي: ما آخر قراءاتك؟ فيقول: كتاب مايكل ولف “النار والغضب“.. قرأه قبل يومين فور وصول النسخة المسروقة إلى حاسوبه، وأنفق عليه ليلتين. لا ينام عارف دون صفحات الكتب، يقول حجاوي:
“شعور جميل أن يسقط الكتاب على صدرك وأنت تغفو، وأجمل منه أن يكون الكتاب أمتع من الحلم، فتقوم وتستعدي على النوم المهاجم كوبَ قهوة حتى تبقى مع الكتاب الحبيب سويعة أخرى”.
ويحكي حجاوي عن كتاب “طريق الحرير” للكاتب بيتر فرانكوبان، الأستاذ في أكسفورد، هذا كتاب أعطاني إياه حجاوي منذ ثماني سنوات في الدوحة لإقناع دور النشر بترجمته وطباعته، وحكى عنه في فقرة جميلة من برنامجه “سيداتي سادتي” أسماها “جدير بالترجمة”، ثم ظهرت ترجمته العربية مع دار “أدب”؛ والكتاب عن التاريخ التجاري للعالم.
يقول حجاوي عن هذا الكتاب: “في مئتي صفحة، هي ثلث الكتاب، يروي المؤلف تاريخ الإسلام.. فإذا أنت أمام بحر من السماحة وقبول الآخر، يتوسط الدنيا ويتوسط تاريخها، قبْلَه وحشية الرومان والفرس، وبعده وحشية الصليبيين والتتار وهمجية أوروبا. ومَن قال لكم – والفكرة للمؤلف- إن الغرب الأوروبي وريث الحضارة اليونانية العظيمة؟ كلام فارغ! فشعوب أوروبا قبل النهضة كانت هملًا همجًا، ومع النهضة استعارت الثوب الإغريقي قشرة رقيقة، وأخذ شعراؤها يحشدون أساطير الإغريق في قصائدهم، وراح معماريّوها يبنون على طريقة الإغريق؛ ومن طريق العربية درسوا كثيرًا من نصوص الإغريق”.
وعارف يحب قراءة روايات “سومرست موم“، فقد قرأ ثلاثة أرباع ما كتب موم في حياته التي امتدت إلى ما بعد التسعين، ولد سومرست في فرنسا ونشأ ينطق الفرنسية وانتقل إلى إنجلترا صبيًّا؛ فعندما صار يكتب الروايات والقصص القصيرة بالإنجليزية، كتب بلُغة سلسة ودون التواءات بلاغية، موم له عبارة جميلة: “القراءة ملجأ نلتجئ إليه من بؤس الحياة“.. هذه أيضًا نقلها حجاوي في كتابه “أخيار وأشرار“.
وكلما اعتاد حجاوي السأم لجأ إلى “المستطرف في كل فن مستظرف” – ونسخته منه لونها أخضر- يسحبه دون أي تفكير، ربما بحكم العادة؛ ففيه كل النوادر والقصص من تراث العرب القدماء ومن جاوَرَهم من فُرس وهنود، فيه خزعبلات وحِكم ومواقف. يصفه حجاوي بأنه “مكتوب بقلم حنون، مؤلفه الأبشيهي ودود وغزير النوادر ويحسن الاختيار، وعربيته جميلة، ذلك شيء نادر.. ليس فقط في أيامنا هذه، بل في ذلك الزمن أيضًا”.. ويحب حجاوي كتاب قصص بوكاشيو، إمام القصة عند الإيطاليين، وهي قصص تشبه ألف ليلة وليلة في جرأتها، لا يبالي بوكاشيو أن يقص عليك ما يجري بين رجل وامرأة عندما يكون الشيطان ثالثهما. ومنعه من قراءة الكتاب ذات ليلة أنه سبق وقرأ القصص التي فيها حرارة، فقد صفَّاها أولًا بأول عندما اقتنى الكتاب.
عندما كان غوستاف فلوبير يكتب أشهر رواياته “مدام بوفاري” كان انفعاله بما يكتب شديدًا!. ويقص عارف قصته مع هذه الرواية.. لم يكد يضع الرواية من يده حتى انتابه انقباض أخذ بمجامعه، وقد مضى عليه بعد ذلك نحو سنة لم يقرأ فيها رواية أخرى خشية معاناة أعراض مشابهة! وبعد سنة، قرر حجاوي أن يعود إلى قراءة الروايات، ورأى أن يبدأ بالروايات العربية، فكان أول ما وقع بين يديه “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف، وهي رواية مشحونة بالألم؛ فيها سجون وتعذيب واعتقالات سياسية، نظام الحكم يتكئ بكل ثقله على حياة البطل فيخربها تخريبًا، وتعيش الشخصية عشرات الصفحات مشوهة محترقة من الداخل. لقد حرمت هذه الرواية حجاوي من العودة إلى قراءة الروايات أشهرًا عديدة.
يحكي عارف حجاوي عن كتاب “تاريخ العالم” من تأليف آندرو مار، لم يترجم للعربية، يقول عنه حجاوي: “ولا أنصرف عن آندرو مار إلا بعد أن أصف كتابه (تاريخ العالم) بأنه تحفة أدبية وعلمية، والوثائقي المصاحب للكتاب لا يغني عنه بحال، رغم تصويره بتقنيات هوليودية”.
رأيت حجاوي يقف على رفوف مكتبة الشبكة العربية في إسطنبول يتصفح الكتب، ويقرأ في كتاب قاموس لبنان ثم يندهش من معلومة زيارة برنارد شو إلى لبنان، ويقف أمام النسخة المترجَمة من كتاب السرطان لسدهارتا موكارجي، فتعجب أنه مترجَم وكان قد قرأ كتاب الجين للمؤلف نفسه، فهو يحب القراءة في الكتب العلمية بجانب التاريخ.
كتابة حجاوي عن الكتب ممتعة، تجدها منتشرة في طيات كتبه، وهي جزء من سيرته الثقافية، وهي تحتاج إلى باحث يجمعها في مقالات من موسوعته “زبدة الشعر“، التي تقع في خمسة مجلدات، ومن كتبه الأخرى.
هكذا يكتب
كان مصطفى صادق الرافعي كلما أراد أن يكتب شيئاً، مهَّد للأمر بقراءة صفحات من كتاب الأغاني، حتى يطرد من ذهنه العامية التي تحيط به من كل جانب، ولغة الجرائد الركيكة؛ فما إن يقرأ أسطراً في الأغاني حتى تستقيم الفصحى على سن قلمه وتعتدل قامَةُ عبارته. وقد حاول حجاوي أن يقلِّد الرافعي، فتناول الجزء الثاني من كتاب الأغاني وألقاه على الطاولة على كعبه، فانفتح على صفحة في رأسها العنوان: “خبر الحطيئة ونسبه”.. قرأ حجاوي الفصل الذي يقع في خمسين صفحة، ثم أمسك بالقلم وقال “على بركة الله”، وكتب عن الحطيئة في مجلة “هنا لندن” ونشرها لاحقا في كتاب “حبر عتيق”. بالمناسبة، قرأ حجاوي كتاب الأغاني ثلاث مرات، وهو كتاب يقع في أربعة وعشرين جزءاً.
الكتابة الظريفة.. هذا نمط يجيده عارف حجاوي، يكتب وهو يسخر من نفسه ومن العالم، لا يأخذ العالم مأخذ الجد، تراه يشرح بيت الشعر ثم يجد نكتة فيذكرها.. خذ هذه الأمثلة:
عندما يشرح بيت بشار بن برد:
أَعْتِقينيِ مِنَ الهوى أو عِديِ منكِ مَوعِدا
أَطمِعيِنا كيْما نَعيـ ـشَ وقُوليِ لنا: “غدا”
علَّق حجاوي على بيت بشار بقول فيروز: “تعا، ولا تجي، واكذب علي، الكذبة مش خطية”.
وعندما يذكر الحبق يقول: “نبات عطري ينبت بكثرة في أغاني فيروز”. وفي جلسة سمر قرأ صديقي عبد القدوس الهاشمي قصيدة البارودي علينا وقال:
فما وجدْتُ على الأيام باقيةً أشهى إلى النفس من ….
فأتمها أستاذ عارف حجاوي “حرية القُبَل”، أما البارودي فقد قال: حرية العملِ
وعندما ذكر قول الشاعر:
خبأت لكم حديثًا في فؤادي لأتحـفكم به عـند الـتـلاقـي
قال حجاوي في شرحه: “العاشق، يختزن في غربته أحاديث في عقله، وقد يصوغها في عبارات أيضًا، ويتحرق للقاء محبوبه كي يحدثه بها. وعبّر عن ذلك بحرارة الشاعر محسن الخياط عندما قال: بس أما تيجي وأنا أحكي لك ع اللي جرى/وأمسح دموعي بمنديلك ع اللي جرى”.. تراه وهو يستخدم الأغنية الشعبية في شرح بيت شرحًا قديمًا فيزيده ألَقًا.
وهل تراه يفوت في كتابه “حبر عتيق” قصة طريفة سمعها في مقابلة تليفزيونية مع محمد عبد الوهاب، عندما قالت له المذيعة ليلى رستم: يوجد مطعم سمك في زحلة لا تسمع فيه سوى أسطوانات لعبد الوهاب، فالناس لا يذهبون إلى المطعم ليأكلوا السمك، بل.. وهنا عاجلها عبد الوهاب بالقول: بيروحوا عشان ياكلوا عبد الوهاب.
في بيروت كانت لنا أيام
كان حجاوي في بيروت قبل بضع سنين، وقصد دار العلم للملايين كي يحدثه “روحي البعلبكي” عن المعجمي عبد الله العلايلي؛ ونصب الفريق الكاميرا ومصابيح الإضاءة، وتدفق الكلام.. أراد حجاوي أن يأخذ من مضيفه في مكتبه مقطعاً يضمنه وثائقياً لقناة الجزيرة، سماه (عظام العربية في لبنان) – والتورية مقصودة- وندت عن البعلبكي إشارة إلى أنه ينشئ معجماً عربياً عربياً، ذلك بعد معجمه العربي الإنجليزي الفاخر الذي سد في المكتبة العربية ثلمة.
حوّل حجاوي مجرى الحديث إلى معجم البعلبكي الجديد، فوثب إلى منضدته متحمساً حماسة المؤلف المنغمس في عملٍ جنين، وأراه – والكاميرا تصورهم- مسودات المعجم الذي وصل به إلى حرف اللام، وشرح له أن معجمه يضم كل جديد، حتى لو كانت اللفظة مستعارة من لغة أجنبية؛ فأبى على حجاوي الخبث والعبث إلا أن يسأله: هل كلمة “بوتوكس” موجودة وهي مادة تستخدم في عمليات التجميل؟ فأخذ روحي يقلب الأوراق راجعاً إلى حرف الباء، قرأها حجاوي مكتوبة مقحمة، كأنما تذكرها بأَخَرة. ورأى هذا المخطوط السمين مكتوباً بخط يده ومشكولاً شكلاً تاماً بالأحمر، ورأى المشاهدون كل هذا في ذلك البرنامج على قناة الجزيرة الإخبارية.
وصدر معجم (المورد العربي) في نحو 1500 صفحة بأعمدة ثلاثة مكتظة، ووصف نفسه على الغلاف بأنه “قاموس اللغة العربية المعاصرة مع كل المترادفات”، وبأنه يمثل “منهجية جديدة للمعجم العربي”. وقد صدق في الأولى وفي الثانية، ولكن من ألَّفَ فقد استَهدَف، وأخذ عارف ينقد بعض الأمور فيه، لكن في المجمل يعتبره من أفضل المعاجم.. حجاوي عاش مع المعاجم يقرؤها كأنها رواية، بل يضعها تحت وسادته.
حجاوي نام على محيط المحيط لبطرس البستاني، فقد شقي زمناً بمخدتين، يجعل الطرية منهما من تحتُ فتتقلقل المخدة الصلبة فوقها كأنها مركب يتهادى على سطح الماء، ثم يجعل الصلبة من تحتُ فيغوص رأس حجاوي في الطرية المحشوة بالصوف الصناعي فيحْترّ ويتصبب عرقا! ثم إنه وجد الحل، فقد جعل كتاب محيط المحيط تحت مخدته الصلبة، فيرقد على صلب فوق صلب.. ولا يضع حجاوي محيط المحيط تحت مخدته إلا بعد أن يقلب صفحاته ملياً، و(محيط المحيط) معجم كتبه بطرس البستاني قبل مئة وخمسين سنة، وطبعه في ألف صفحة من القطع الكبير والحرف الصغير.
كان أول معجم اقتناه حجاوي “المنجد” للأب لويس المعلوف، وكان – بأحرفه الحديثة، وبما بذله فيه اليسوعيون من عناية، وما ألحقوا به من ملاحق- خير رفيق لكاتبنا؛ ثم عرف حجاوي معجم مجمع القاهرة “الوسيط”، فاكتشفت أنه يلتقي مع المنجد في تعريفات كثيرة؛ ثم عندما عرف القاموس المحيط للفيروزأبادي فهم أن المنجد والوسيط شربا من نبع واحد!. لقد سبق محيط بطرس منجد المعلوف بأربعين سنة، وسبق الوسيط بتسعين سنة؛ وكان أول معجم عربي يؤلَّف في زمن المطبعة.
في السطر الثاني من مقدمة محيط المحيط – المكونة من صفحة واحدة- يقر المؤلف بأن معجمه مستند إلى قاموس الفيروزأبادي، لا بل هو يقر بذلك في اسم المعجم، فقد سماه محيط المحيط مذكِّراً بالقاموس المحيط. وحجاوي يقول لنا: “ليته لم يكن تواضع هذا التواضع، فبطرس صنع في كتابه العجب.. لقد وصف اللغة كما هي في عصره، وأضاف إلى مفرداتها الكثير كي يصف ما ولدته العلوم الجديدة من مفاهيم وأدوات، وكان فحلاً من فحول علم الصرف، وكان محباً للشعر فاستشهد بنحو أربعة آلاف بيت، ولا تسل عن الشواهد القرآنية، ولا عن الأحاديث النبوية فهي بالآلاف”.
تقديس محمود درويش
حجاوي ليس كثير الدوران في صالونات رام الله الأدبية، إلا أنه لمس تقديسا لمحمود درويش لم يعجبه. يحكي موقفاً مع سيدة فاضلة، حدثته أن ديوان محمود درويش الأخير قد صدر؛ وصارت تمصمص شفتيها وتقلب عينيها في محجريهما مع نصف إغماضة، دلالة على الإعجاب، وكادت أن تسيح على بعضها – كما وصفها حجاوي- ثم سألته إن كان اشترى الديوان. فقال حجاوي: لا، ولا أنوي شراءه. عندئذ انتفضت السيدة وانتقلت من حال إلى حال، وصارت تكيل له الاتهامات وتلاحيه ملاحاة شديدة.
يرى حجاوي أن الذين يقدسون درويش مجتمع مخملي لا يقرأ شعراً ولا يفتح سفراً، ناس يعتبرونه من “شلتنا” ولذلك لا بد من تقديسه، وهذا الموقف من درويش تراه نفسه عند حجاوي تجاه ياسر عرفات، وحجاوي يزهد في مقابلة المشاهير، فهو يحب الشيخ إمام، فقد أسس ذات يوم جمعية محبي الشيخ إمام في فلسطين، لكنه يزور مصر ولا يسعى للقاء به، وقد تقابل حجاوي مع الصحفي محمد حسنين هيكل لأمور تتعلق بالعمل الإعلامي، لكني لم أره كتب عن هذا اللقاء في كتبه.
همس وضوضاء على صوت القصف
نختم بقصة عن عارف حجاوي، تُظهر شخصيته وطريقته في الحياة.. كان حجاوي قاعداً في بيته يكتب برنامجاً عن الموسيقا الكلاسيكية من مئةٍ وسبعين حلقة، وصدر في قرص مُدمَجٍ عن جامعة بيرزيت باسمِ “همس وضوضاء: رحلة في الموسيقا الكلاسيكية”؛ وهو على اليوتيوب باسم (همس وضوضاء). فهل سماه حجاوي كذلك لأن الدبابات الإسرائيلية كانت ترابط خارج منزله وتحاصره؟ لا، سماه كذلك لأن الموسيقا الكلاسيكية تكون هامسةً حيناً، ثم تعلو بشكل مفاجئ، فهذا هو الهمس والضوضاء.
في ربيع عام 2002 بدأ “الاجتياح”، كانت الانتفاضةُ الثانية مشتعلة، وجرّب المحتل الإسرائيلي أن يكسر الشعب الفلسطيني. دخلت الدبابات والمدرعات المدنَ في الضفة الغربية؛ في رام الله حاصروا مقرَّ الرئيس ياسر عرفات وبدؤوا يقصفونه غرفةً غرفة، حتى حُصِر عرفات في آخر غرفة، وقال على ضوء شمعته “شهيداً شهيداً”. كان حجاوي – كما يحكي لنا- يسكن في شارع الإرسال الذي تقع فيه “المقاطعة”، مقرّ عرفات. وقف أمام بيت حجاوي مدرَّعتان، وعلى بعد بضعة أمتار وقفت دبابة أو اثنتان.. وقعد حجاوي يسمع الموسيقا الكلاسيكية، ويقرأ عنها، ويكتب عنها! هو هكذا، يستطيع أن يعيش في داخل نفسه غير آبه بما يجري حوله.
دخل المحتلون نابلس والخليل وبيت لحم، وكل مدينة؛ حوصِر 120 مقاوِماً في كنيسة المهد ببيت لحم شهراً وأسبوعاً، ودُمِّر مخيم جنين بعد أن صمد صموداً مشهوداً. ودُمِّرت مبانٍ كثيرةٌ في نابلسَ القديمة. استشهد مئتان وأربعون، وجرح المئات، واعتُقل خمسةُ آلاف، مقابل مقتل ثلاثة وعشرين جندياً إسرائيلياً. وبالطبع تفهمتْ واشنطن موقف إسرائيل.
يصف حجاوي هذه الفترة “الاجتياح لم يكن دبابات في شوارع المدن فقط، كان شيئاً آخرَ أيضاً، كان الجنود يدخلون بيوت الناس، ويخرِّبون الأثاث، ويرابطون فوق أسطح البنايات، كانوا يدخلون غرف النوم ويفتحون الأدراج، بحثاً عن زجاجة عطر مستعملة يأخذونها، كي تُحسّ المرأة أن خصوصيتها انتُهكت؛ كانت هناك سرقات، وكان هناك بطش.. كنت أعمل في تلك الأيام في إذاعة أجيال، دخلوها وحطموا كل جهاز وكل حاسوب، وحتى أجهزةُ الهاتف الأرضية تلقّت ضربات قاضية”.
حدث هذا في ربيع عام 2002، واسم ذلك الشيء عند الفلسطينيين “الاجتياح“؛ وكما ترى.. هذا تاريخ طويل وممتد من البطش الإسرائيلي والتعدي على حقوق الشعب الفلسطيني، ونراه إلى اليوم في غزة الصامدة.
ختاماً، هذه جولة في أربع كتب صدرت حديثًا عن دار مدارات: “هكذا أفكر، هكذا أكتب، أخيار وأشرار وظرفاء وثقلاء، حبر عتيق”، أرشّحها للقراءة والنقاش، فأنا من الذين قال عنهم أ. عبد الله الهدلق: “أنا من مساكين الكتب.. أفرح كثيرًا حين يتحدثون في مجلس عام عن كتاب، لكنهم قلما يفعلون ذلك”، لديّ بعض وجهات النظر المختلفة عن تلك التي ذكرها أ. عارف حجاوي في كتابه عن الشخصيات، لكنه لخّص علاقتينا، أنا وصديقي عبد القدوس الهاشمي، بكتبه بقوله: “أعلم يقينًا أن كثيرًا مما جاء في هذا الكتاب من أفكار ليس مما يؤيدانه، ولكنهما رُزقا من سعة الصدر، ورحابة الأفق، الكثير”.
مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
0 تعليق