عارف حجاوي: هكذا يفكر وهكذا يكتب بحبر عتيق(1)

بواسطة | يناير 27, 2024

بواسطة | يناير 27, 2024

عارف حجاوي: هكذا يفكر وهكذا يكتب بحبر عتيق(1)

استعراض لرحلة الصحفي عارف حجاوي في بي بي سي، بدايةً من تجاربه في لندن واندماجه في ميدان الإعلام، مرورًا بتحديات حرب الخليج، وصولًا إلى لحظات تاريخية ومقابلات مميزة مع شخصيات بارزة، تشكّل رؤية فريدة عن مهنة الصحافة والإعلام.

رحلة عارف حجاوي – لحظات تاريخية..من لندن إلى حروب الخليج

بدأت قصة تعرفي إلى الأستاذ عارف حجاوي، عندما استمعت إلى صوت جميل يقرأ ديوان المتنبي في سيارة صديقي الأديب أحمد فال الدين، ثم قرأت تدوينة بديعة لفال عن حجاوي بعنوان “صبرًا، بقيةَ أهل الأدب!”.

قال فال في تدوينته: “كان ذلك قبل عقد ونَيْف، كنت أجلس في (الليالي الزُّهْرِ على التِّلال العُفْرِ) ببادية موريتانيا، وبيدي جهاز إذاعي ينشد من خلاله صوت دافئ:

يا طلل الحيّ بذات الصمد   بالله خبرْ كيف كنتَ بعدي؟

ولم يكن صاحب الصوت إلا عارف أحمد الحجاوي.

كنتُ غض الإهاب يومها، هائمًا بالكلمة الجميلة واللسان القويم، وكنت أسجل كل ما ينبس به الرجل على شريط أخلو إليه إذا تعكر الخاطر وكبا الدهر الحرُون، اكتمل لديَّ شريط من روائع الأدب بصوت الرجل”. انتهى حديث أحمد فال، والتدوينة ممتعة تستحق القراءة.

وفي سيارة فال سمعت أبيات المتنبي، وأتذكر بالتحديد البيت الذي يصف فيه المتنبي الأسد:

في وَحْدة الرهبان، إلا أنه      لا يعرف التحــريم والتحليلا

وأحمد فال يقول بطرب شديد “شيء عجيييب”، ويردد شطر البيت: لا يعرف التحريم والتحليلا.

بعدها سرَّب لي أحمد مذكرات عارف حجاوي قبل نشرها بعنوان “حياتي في الإعلام”، واستمتعت بها وكتبت عنها، وأرسلت بريدًا لعارف حجاوي أطلب فيه رؤيته، فقد كنا في الدوحة.

وتقابلنا في ردهة فندق الشيراتون، ومن هنا بدأ التعارف، وعلمت من أستاذ عارف أنه كتب موسوعة شعرية من خمسة مجلدات، قضى في جمعها ما يقارب الثلاثين سنة، لملم فيها الشعر العربي وشرحه، أنفق فيها زهرة شبابه وبعض كهولته، ساعتها تحمست أن أطالع الموسوعة، وذهبت إلى مكتبة أطبع مسودة الكتاب، وأقرأ فيها قبل النشر، ثم كان من حماسي لنشر الكتاب ما كان، والقصة كما يقصها حجاوي في كتابه “تجدد الشعر”: “عرفت الصديق الأديب محمد عبد العزيز الهجين قبل نحو سنتين، وصار كلما التقيته أهداني كتابًا، وصرت لا أذكر له كتابًا إلا وجدته قد قرأه أو قرأ عنه؛ وعندما علم أنني بصدد إنهاء كتاب لي باسم (أول الشعر) تصدَّى لموضوع النشر، وظل يعجلني في إرساله حتى لقد أنساني أن أذكره بكلمة شكر في مقدمة الكتاب. وصنع الصنيع نفسه في هذا الكتاب (تجدد الشعر)؛ أقول له إنني على سفر، فيقول هات الكتاب، وأقول له مساء الخير، فيقول هات الكتاب”.

مدينٌ لعارف حجاوي، الذي قال عني “أديب” قبل أن أنشر كتبي، فقد قرأ مقالاتي المتفرقة، ولقد جمعنا حب الكتب والحديث عن الأدب، نتحدث عن وديع فلسطين أو سيرة ستيفان تسفايج، وأسمع منه تفسيره لحياة أحد الشعراء.

لقد رأيت في حجاوي كاتبًا مرموقًا وواحدًا من كبار ظرفاء عصرنا، هو مثال شامخ، انظر إلى مقاطعه في برنامج “سيداتي سادتي” ترَها محشوَّة ظرفًا وذَوقًا، فهي سياحة في آداب العالم، هذا رجل ظهر على شاشة التليفزيون بعد سن الستين، وبعد عقود من النظر في الكتب، لذلك كلامه مطعّم بعلم كثير ولا يُشبه دكاكين اليوتيوب.

كتب لي عارف حجاوي ذات مرة بعد أن سئم من أخطائي في المفعول به: “يلعن أبا المفعول به لأنك تدوسه بالحذاء”.

تعلمت من حجاوي كيف يخاطِب القارئ في مقالاته، وفشلت في دراسة كتبه في النحو.. ما يميز قلم عارف أنه يكتب كأنه يتحدث إليك، لقد اختار أسلوبًا على درجة عالية من الذاتية والتواضُع، فهو يحكي عن نفسه، لكن دون تعالٍ أو تعالُم، يكتب بصدق عما يشعر به، فتقع قصصُه موقعًا طيّبًا من نفس المتلقي.

كتب عارف حجاوي سيرته بعنوان “حياتي في الإعلام”، لكن هذه السيرة لا تضم كل قصصه أو سيرته، أغوص عبر هذا المقال في شذرات ذاتية من كتبه الجديدة التي صدرت عن دار مدارات: “هكذا أفكر، هكذا أكتب، أخيار وأشرار وظرفاء وثقلاء، حبر عتيق”، وكلها كتب جميلة تستحق القراءة، انتقيت بعضًا من حكاياته في هذا المقال، كنت مثل الذي يبحث عن البسطرمة بين البيض على مائدة الطعام، وجُل ما يكتب حجاوي لذيذ، فهو طبّاخ ماهر، يحب الطبخ وإطعام الناس، كم من المرات ذهبت معه إلى مطعم بوز الجدي في حي الفاتح بإسطنبول حتى نأكل الفلافل، أما في البيت فيطبخ عارف الطعام، وتدور حول الخوان أشهى الأحاديث الأدبية.

هكذا عاش

اشتغل عارف حجاوي في جريدة الشعب بالقدس وله من السن 19 عامًا، ونظر له صاحب الجريدة من فوق إلى تحت، مثلما يفعلون في السينما، وقال لأحدهم: خذه للأستاذ فؤاد رزق.. قال له فؤاد رزق: ماذا تريد أن تعمل؟ فقال له: محررًا.

أقعده الرجل إلى منضدة بقربه، ورمى إليه برزمة أوراق، بعضها من الوكالات، وبعضها مخطوط منقول عن الراديو. قرأها حجاوي بسرعة وصنع منها خبرًا، وتأنق في عنوانه: “الرئيس السوري حافظ الأسد يتوجه إلى موسكو غدًا”..

أصلح له الخبر، ثم شطب العنوان بخط مستقيم ومن الشِّمال إلى اليمين، كأنه مر عليه بقلمه قارئًا، فعندما وصل إلى نهايته عاد عليه بالقلم شاطبًا ماحقًا؛ ثم كتب فوق عنوانه المشطوب: “الأسد إلى موسكو غدًا”، وكان درسًا تعلَّم منه حجاوي.

ثم اشتغل حجاوي خطَّاطًا في وزارة الدفاع الكويتية وهو في الحادية والعشرين، ثم عمل في التدريس سنوات، في المدارس وفي جامعة، وعمل مذيعًا ومحررًا في إذاعة لندن إحدى عشرة سنة، ومراسلًا لهذه الإذاعة أربع سنوات، واشتغل في قناة “الجزيرة” ست سنوات، ثم ظهر في برنامج اللغة العالية وحقق نجاحًا كبيرًا، ثم قدم برنامج سيداتي سادتي على شاشة التلفزيون العربي، واكتشف حجاوي أنه يحب جريدة الأمس، تمامًا مثلما يفضل الطبخة البائتة، لذلك تراه يحب التاريخ أكثر من الأخبار.

لم يلبِّ حجاوي رغبات بعض أصدقائه في كتابة سيرة ذاتية طويلة، مكتفيًا بـكتاب “حياتي في الإعلام”.. لا يجرؤ حجاوي على كتابة “اعترافات” حقيقية، ولا يريد كتابة “تبريرات”، لكن ذلك لم يمنعه من حكاية مواقف حياتية في مقالاته. هل يفتح صالونًا أدبيًّا؟ حجاوي ليس هذا الشخص.. أبدًا؛ وهو لا يحب السفر، ولا القعود مع الأحفاد؛ فهل يكتب رواية أخرى بعد روايته “إعصار في الهلال الخصيب”؟ يقول: “ليتني أستطيع”.

بمناسبة هذه الرواية، فهي تحتوي على كتابة مختلفة، فيها انضباط وصفَهُ صديق حجاوي، أحمد عبد الرحيم، عندما فوجئ بأن حجاوي تخلَّى عن روح العبث والسخرية، مُثنيًا عليه بأنه استطاع التحرر من أسلوب واتخذ آخَر يناسب شكلًا أدبيًّا آخر. حجاوي مستعد للدفاع فكريًّا وفنيًّا عن روايته التي تقع في 67 ألف كلمة؛ لقد عاش أحداثها في ذهنه نحو خمس سنين.. ربما أكثر. كتبها في اثني عشر يومًا، وحررها ثلاث مرات.

حجاوي في لندن

حكى عارف كثيرًا عن الإعلام في كتبه ومقالاته، ومن المواقف الطريفة التي يتذكرها، أن إعلاميًّا شتمه في وجهه وفي قفاه، وبعد بضعة سنين سجَّل لحضور دورة معه! فلبس حجاوي قبعة المعلم، واحترم قراره، هذا شخص يريد أن يتعلّم فمَرحى.. ينسى حجاوي الشتم والإساءة بسهولة، ولكنه لا يغفر ولا ينسى أن يسخر أحد منه.

وفي لندن بدأ كتابة مقالاته في مجلة “هنا لندن”، وسياق هذه المقالات حكاه بقوله إنه كان يجلس أمام ميكروفون راديو “بي بي سي” منتظرًا دقة ساعات “بيغ بين” الشهيرة ليقرأ بعدها نشرة الأخبار، كان في حوزته بضع دقائق إضافية قبل النشرة، يملؤها بحديث أدبي مما يُحسن أن يقوله رجلٌ “فارغ البال”، كما وصف نفسه.

 يجمع عارف أوراقه بعد نهاية النشرة، يفتح بابًا ثم بابًا ثانيًا ملاصقًا له، ويخرج من معتزَله ليجد في غرفة التحكم مصطفى الكركوتي، الذي ظل واقفًا ينتظره؛ قال له: هل تعرف أن تكتب مثل هذا الذي كنت تقوله قبل نشرة الأخبار؟ قال له: نعم، قال: فاكتب لمجلة “هنا لندن”. ووافق عارف، وهكذا خرجت المقالات ثم خرج الكتاب الذي يجمعها بعنوان “حبر عتيق” بعد مضي ربع قرن من دقائق الملل قبل نشرة الأخبار.

كان زملاء حجاوي في بي بي سي يشتهون الكتابة لمجلة “هنا لندن” الشهرية، حُبًّا في الكتابة أو في الـ 125 جنيهًا إسترلينيًّا، وفي الكتاب صورة لثقافة حجاوي العربية، كما تمثلت له في تلك السنوات التي قضاها في لندن.

كان حجاوي قاعدًا في ذات المعاطف، في لندن، وحوله كتب عربية يديم النظر فيها، ويقرأ الجرائد ويقلب صفحات موسوعة معالم لندن، يقرأ في الحين بعد الحين ما كتبه صديقه الروائي سومرست موم، الذي مات وسنُّ حجاوي تسع سنين، وصديقه برنارد شو، الذي مات وسن حجاوي سالبُ ستِّ سنين.. أما الشعر الإنجليزي فلا طاقة لحجاوي به، وما حاجته إلى شعر الإنجليز وقد فُتحت له مغاليق أعظم شعر في الوجود: شعر العرب؟!

ومن فضائل مقالات “هنا لندن” التي نشرت في كتاب”حبر عتيق” أنها مفصصة فصوصًا.. فإن شَغَلكَ وأنت تقرأ شاغلٌ، أو اعتراك ملَلٌ، سهُل عليك أن تُلقيَ الكتاب من يدك سريعًا.

وفي لندن، تعرَّف حجاوي إلى عديد من المؤلفين الذين أحبَّ أسلوبهم، مثل برنارد شو، إذ صدر كتاب مايكل هولرويد عن برنارد شو بعد أسابيع من حلول حجاوي في لندن عام 1988، فقد سمع حجاوي عرضًا له في الراديو فابتاعه؛ وكان لشدة شغفه به يصطحب الجزء من أجزائه الثلاثة إلى العمل فيقرأُ الصفحتين والثلاث بين شغلة وأخرى. وذات مرة رآه المدير سام يونغر، فأغلق حجاوي الكتاب، لكن المدير كان رجلًا ذا ثقافة، فنصحه بحضور عرض يؤدَّى في مسرح جانبي عن مسرحية لبرنارد شو.. فضيلة كتاب هولرويد – كما يحكي حجاوي- هي “البحث المستفيض، فالمؤلف يكتب عن رجل عاش أربعًا وتسعين سنة”.

وفي لندن، يحكي حجاوي أنه كان يطّلع على الأدب العربي والكتب العربية هناك، فقد كان يعود إلى شرح التبريزي لديوان أبي تمام الـمشهور، الذي طبعه محمد عبده عزام سنة 1951م، لقد قرأ حجاوي شعر أبي تمام أول ما قرأه بهذا الشرح، واستعار ذلك الشرح جزءًا بعد جزء من مكتبة “مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية”، التي كان عزام يعمل بها وقت إصداره تحقيق شرح التبريزي. ولعل تلك النسخة التي استعارها حجاوي هي عين النسخة التي قدمها عزام إلى الـمكتبة.

ورطة المذيعين

وعندما يريد حجاوي شرح نفسية المذيعين، يسرد قصة رؤيته مذيعًا عن قرب أول مرة في مبنى تليفزيون بي بي سي الضخم في وايت سيتي بلندن، كان يحضر دورة تدريبية. رأى حجاوي المذيعَ قاعدًا في الاستديو كالطاووس، وحوله عشراتُ المحررين والمصورين والفنيين، بعضُهم في الاستديو وبعضهم في غرفة المتابعة، كلهم في خدمة هذا الشخص الذي هو وجه المحطة، هو وحدَه من سيدخُلُ ملايينَ البيوت، هو وحدَه من يمثّلُ المحطة، ومن يمثّلُ الرأي العام. هنا قال حجاوي في نفسه: “لا جرم، سيُحسُّ هذا المخلوق بنشوةِ العظمة”!

وحكى عارف حجاوي قصة عن زميله المذيع أفتيم قريطم بعد أن قدم نشرة الأخبار، رأى أمامه على الجدول أغنية لفريد الأطرش، فقال في تقديمها: “ما قالَ لي وقلتُ له، يا عواذلُ فلفلوا”. قالها بالفصحى ومع التشكيل التام، وعلَّق حجاوي: الأديب يعيش طويًلا بعد مماته، والمذيع يموت فور غيابه عن الشاشة.

قدم حجاوي تحليلًا مميزًا عن مهنة المذيع في كتاب “هكذا أفكر”، إذ حكى عن أوقح مذيع رآه، وهو جيريمي باكسمان، في برنامج نيوز نايت؛ وعارف ليس من معجبي باكسمان، على أنه رآه في مبنى التليفزيون في وايت سيتي بلندن واقفًا يشاهد التقارير مع منتجه، ويسمع ملاحظات المنتج برأس مطأطَأ. كان الوقت عصرًا، وبرنامجه في الحادية عشرة ليلًا؛ فعرف حجاوي أن الرجل يحضِّر برنامجه تحضيرًا متقنًا، وتلك فضيلة. وتذكر حجاوي زميلًا له مذيعًا، كان يدخل المحطة قبل البرنامج بنصف ساعة، ويفتح ديوانًا مع الناس ويمازحهم، ويرجئ أي تحضير للمادة حتى قبل الهواء بدقائق، إدلالًا وإشعارًا للقاصي والداني بأنه لا يحتاج إلى أي تحضير.. كان -رحمه الله- يستعيض عن التحضير بقوة صوته وبذرابة لسانه، كما يصف حجاوي هذا النوع من المذيعين.

ميزة كتابة حجاوي عن الإعلام أنه يدلي بملاحظات نقدية من مطبخ العمل الإعلامي، ينتفع بها الصحفي والمذيع، والذي يعمل في الإعلام؛ وحتى إنه كتب ورقات نقدية عن الوثائقيات وعيوبها ومشكلاتها في الإنتاج التليفزيوني.

حجاوي مع الزميل جورج أورويل

هيئة الإذاعة البريطانية (يسمونها هاب، والإنجليز يسمونها بي بي سي، ويدلعونها “ذه بيب”) هي مؤسسة كبيرة يعمل فيها ثلاثون ألفًا من بني آدم، وهم موزعون على مبانٍ كثيرة، ولكل مبنى مقصف، وعمل الروائي جورج أورويل مدة سنتين في الحرب العالمية الثانية في بي بي سي، واستمد وصفه المقصف في روايته الشهيرة 1984 من المحيط الذي كان يتحرك فيه في الإذاعة، نقله أورويل عن مقصف مبنى “البرودكاستنغ هاوس”، الذي كان وما زال تابعًا لهيئة الإذاعة البريطانية، وكان أورويل يعمل هناك.

وأهم ما في هذه المقاصف أنها رخيصة وأنها مجمع حكايات، ويذاع فيها ما لا يطيقه الميكروفون من وشوشات وحكايات. يحكي حجاوي، الذي عمل فيها، أن جلسات المذيعين والمترجمين والمخرجين تطول في المقصف؛ تبدأ الجلسة بتعليق أو نكتة ثم يدلي أحدهم برأي، فيحتدم النقاش ويصر صاحب الرأي على رأيه ويذهب في الدفاع عنه كل مذهب، ولا ينقذ الجلسة من هذه الحمَّى إلا وقوف هذا الزميل على حين غرّة قائلًا: “عندي نشرة الأخبار”، فتهدأ الأحوال إلى أن يغشى الجلسة عنصر جديد معه حكاية جديدة.

بي بي سي وحرب الخليج وأحمد الخطيب

يتوقف حجاوي عند تجربته في بي بي سي، ويحكي مثالين على تجربته؛ الأولى عندما وضعت حرب الخليج أوزارها، وأُخرج العراقيون من الكويت، وقامت سوق السلاح على ساقين من حديد، وبدأ الأمريكيون والإنجليز يبيعون السلاح. وقع بيد حجاوي تقرير مستند إلى مجلة “جين الدفاعية” يقارن بين مواصفات الدبابة الأمريكية (لعلها شيرمان) والدبابة البريطانية (لعلها تشالنجر)، وكانت المقارنة في صالح الدبابة الأمريكية بشكل صارخ.

كان حجاوي منتج برنامج إخباري، وكان في مقدوره أن يضمّن التقرير في برنامجه أو أن يتجاهله، وقرر أن يضمّنه. كان في نوبة الترجمة يومها نجا فرج، وكانت ترجمة التقرير من نصيبه، فصرخ بعارف حجاوي: “يا رجل، هذا التقرير سيأتيك بالصداع! وقرر حجاوي أن يفسر (المصلحة الوطنية) التفسير الواسع، وأذاع التقرير ولم يُصب بصداع”.

مثال آخر أسطع عن تجربته في الراديو، عندما كان العراق يحتل الكويت.. كان أحمد الخطيب، نائب البرلمان الكويتي وأحد مؤسسي حركة القوميين العرب، موجودًا في لندن، وأجرى حجاوي معه مقابلة انتقد فيها الحكومة الكويتية وانتقد الأمير. كانت هذه المقابلة خليقة فعلًا أن تسبب له صُداعًا، فقد كانت بريطانيا في ذلك الوقت ضمن التحالف الدولي الذي شن حربًا على العراق لتحرير الكويت، لكنه بث المقابلة. واعترف حجاوي بخطأ تحريري، غير أنه لا يندم عليه: “كان يجب عليه – كما يقول- أن يستشير سامي حداد، مدير البرامج الإخبارية، ولم يفعل”؛ ووصف حجاوي هذا الفعل من جانبه بأنه نزق، لكنه توقع أنه لو كان استشاره لقرر سامي أن يتجنب الصداع. ومرت على الأمر سنة أو سنتان، ثم عرف حجاوي بقية تفاصيل المقابلة الصُّداع.

كان حجاوي في دورة تدريبية، وكان يشرف عليها صحفي تقاعد حديثًا من بي بي سي.. رآه قادمًا من القسم العربي فقال له: مَرحى! أنتم الذين سبَّبتم كل هذا الصداع بسبب المقابلة مع أحمد الخطيب! لم يعرف الصحفي أن حجاوي كان شخصيًّا المسؤول؛ وتابع الرجل: “لقد تُرجمت المقابلة إلى الإنجليزية وجرت دراستها على أعلى المستويات، لأن وزارة الخارجية نقلت لبي بي سي اعتراضها، كما اعترض الكويتيون على المقابلة. المهم، تقرر في النهاية أن المقابلة ليست فيها مشكلة تحريرية”.

كان حجاوي سعيدًا بأن المسؤولين في بي بي سي تولَّوا الرد على الجهات الخارجية بأنفسهم دون الرجوع إليه؛ لم يعلم أحد في القسم العربي بما سبَّبته تلك المقابلة من صداع لعلية القوم.. تلك بي بي سي في أحسن حالاتها، كما يصفها حجاوي.

أجرى عارف كثيرًا من المقابلات وهو مع بي بي سي، فقد أجرى مقابلة في القدس مع رئيس إسرائيلي سابق، هو إسحق نافون؛ كان الراديو يغطي الانتخابات الإسرائيلية التي أتت بإسحق رابين إلى الحكم عام 1992. وفي فندق “الأمريكان كولوني” جاء نافون، واختار حجاوي أن يسأله سؤالًا خبيثًا: أين وُلدت سيد نافون؟ وجاءه الجواب المحرج: في القدس! علَّق حجاوي: الحمد لله أن هذا السؤال كان قبل بدء المقابلة الرسمي، ونقطة إحراج السؤال أن معظم قادة ومؤسسي إسرائيل وُلدوا خارج فلسطين.

ومع بي بي سي أجرى حجاوي مقابلات مع شمعون بيريس في فندق سافوي بلندن، وحسني مبارك في مقر السفارة المصرية بلندن؛ سأله حجاوي في هذه المقابلة عن فضيحة لوسي أرتين، وكانت حديث الساعة في وقتها، وهي فضيحة تورط فيها المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، وخرج من وزارة الدفاع المصرية على إثرها.. عند طرح حجاوي السؤال انقض عليه صفوت الشريف، لكن مبارك أجاب جوابًا دبلوماسيًّا أن القضية أمام القضاء.

تقابل حجاوي مع حسن الترابي في الاستديو، وزاره المغني السعودي طلاح مداح، وجرب حجاوي عود طلال وأصر أن يعطيه العود، لكن حجاوي رفض العرض بأدب، ووصف طلال بأنه رقيق النفس متواضع سخي، تقابل حجاوي مع عشرات من الساسة والمحللين والمثقفين، ولخص تجربته في الراديو بقوله: “في بي بي سي تعلمت كثيرًا، وأخطأت كثيرًا؛ وكان صدر بي بي سي أوسع من صحراء الربع الخالي”.

يحب حجاوي استخدام القصص الشخصية في محاولته فهم التاريخ، عند حديثه عن عبد الناصر يحكي لك قصة وهو في لندن، يزور صديقه المصري محمد شقير لكي يسلم على السيدة والدته التي جاءت في زيارة، وهي ناظرة مدرسة متقاعدة؛ وفُتحت سيرة عبد الناصر، أخذ شقير يحمل بشدة على عبد الناصر، وراحت والدته تعارضه وتقول: لولا حكمُ عبد الناصر لما تعلمتُ أنا، ولا أنت.. ثم يكمل حجاوي النقاش حول عبد الناصر.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...