عثمان بن عفان | وإستراتيجيات النجاح الاقتصادي

بواسطة | أغسطس 8, 2023

بواسطة | أغسطس 8, 2023

عثمان بن عفان | وإستراتيجيات النجاح الاقتصادي

نشأ عثمان بن عفان في سعة من العيش، إذ كان أبوه صاحب تجارة واسعة رابحة، فقوافله كانت تحمل السلع التجارية من الحجاز إلى بلاد الشام؛ وعند وفاته ترك ثروة ضخمة اتَّجر فيها عثمان في زمن الجاهلية فاستثمرها ولم يبددها، فدرَّت عليه إيرادات كثيرة، أعانته على القيام بأعمال جليلة من البر والخير في فترة ما قبل الإسلام.
وعندما هاجر عثمان من مكة إلى المدينة، كان لا يحمل معه إلا الشيء القليل، بسبب المضايقات القرشية على ممارساته التجارية انتقاما من إسلامه، ثم أصبح في المدينة بعد ذلك من أثرى أثرياء المسلمين؛ وعندما سُئِل عن سر غناه أجاب: “كنتُ أعالج وأنمِّي، ولا أزدري ربحا، ولا أشتري شيخا، وأجعل الرأس رأسين”.
وبالنظر في مقولة عثمان بن عفان التجارية هذه، نجد أن تجارته قامت على عدة إستراتيجيات؛ فالإستراتيجية الأولى: “كنتُ أعالج”، فقد كان عثمان يقف على تجارته بنفسه، ويتعرف أسباب الفشل، ويضع لها الحلول، ولا ينسحب من السوق بسبب فشل طارئ أو أزمة ما، بل كان يستمر، ويصبر حتى يظفر بتجارته، وهذا السر الأول من أسرار النجاح الاقتصادي لعثمان بن عفان في التجارة.
الإستراتيجية الثانية هي “أنمّي”، وتعني أنه بعد أن تربح تجارته كان -رضي الله عنه- ينمي هذا الربح ويستثمره، وذلك عن طريق ضبط الاستهلاك واستثمار الإيرادات؛ فكان ينفق من الأرباح القليل، ويستثمر الباقي ويتاجر به، وقد أكدت كتب التجارة والمال المعاصرة على هذا المبدأ في الاستثمار.
الإستراتيجية الثالثة “لا أزدري ربحا”، إذ من الوارد في عالم التجارة المتغير والمضطرب أن يحدث كساد في بعض الأوقات، فكان رضي الله عنه بذكائه لا يحتقر الربح البسيط، وكان يرضى بالقليل في البيع؛ حتى لا تكسد البضائع وتتراكم في المخازن، وبهذا يكسب في الوقت نفسه الزبائن، ويتحرك في السوق.
أما الإستراتيجية الرابعة فكانت في قوله: “لا اشتري شيخا”، إذ كان -رضي الله عنه- لا يشتري البضائع القديمة، ولكنه كان يدرس السوق، ويعرف المتطلبات وما يحتاجه السوق من بضائع، وتوجهات الناس في الشراء ورغباتهم الاستهلاكية، وهو ما يعرف حاليا بدراسة السوق، فهو لا يشتري بضائع قديمة عفا عليها الزمن.
وجعل عثمان -رضي الله عنه- إستراتيجيته الخامسة “أجعل الرأس رأسين”، فكان لا يضع ماله في نوع واحد من السلع، حتى إذا كسدت سلعة ربح من السلعة الأخرى، وبالتالي يتفادى المخاطر التجارية التي قد يتعرض لها.
كان رضي الله عنه سمحا في بيعه وشرائه، سهلا في تعامله مع الناس؛ فعندما اشترى حائطا -حديقة- من رجل، فساومه حتى قاومه على الثمن الذي رضي به البائع، قال عثمان: “أرنا يدك” فقال الرجل: “لا أبيعك حتى تزيدني عشرة آلاف” فقال عثمان: قال رسول الله ﷺ: “أدخل الله عز وجل رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا، وقاضيا ومقتضيا؛ الجنة”، اذهب فقد زدتك العشرة الآلاف لأستوجب بها الكلمة التي سمعتها من النبي ﷺ.
كانت خطوط الإنتاج لعثمان في القمح، والتمور، والشعير، والزبيب، وغيرها من السلع، وكان يتاجر في البر والبحر، وكان يسافر إلى الشام والحبشة من أجل التجارة. وقد قدرت ثروة عثمان بن عفان بنحو “30 مليون درهم فضي، و150 ألف دينار ذهبي، و1000 بعير، وصدقات تقدر بـ 200 ألف دينار، يضاف إلى ذلك الأصول من البيوت، والأراضي، والبضائع وغيرها”.
ومن الأشياء التي تدل على ذكائه وخبرته الواسعة في البيع والشراء، وحسن تفاوضه مع البائع، شراؤه بئر رومة من رجل يهودي؛ فبعد هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة زاد عدد المسلمين، وزاد الاحتياج إلى الماء، وكان بئر رومة من أكبر الآبار الموجودة في المدينة، والمورد الرئيس للماء، وكان يمتلكه رجل يهودي، يبيع الماء ويحتكره ويتحكم في سعره. ولما علم عثمان بن عفان بهذا ذهب إلى اليهودي وعرض عليه أن يشتري منه البئر فرفض، فعرض عثمان بن عفان أن يشتري نصف البئر فيكون يوما له ويوما لليهودي يبيع منه الماء، فوافق اليهودي وفي ظنه أن عثمان بن عفان تاجر ذكي وسيرفع سعر الماء فينصرف الناس عنه ويزداد مكسب اليهودي؛ لكن الذي حدث أن عثمان بن عفان جعل يومه للمسلمين يشربون منه، ولا يأخذ منهم أي مقابل، فقل الطلب على الماء في يوم اليهودي، فشعر بالخسارة وطلب من عثمان أن يشتري باقي البئر فوافق عثمان واشتراه مقابل 20 ألف درهم، ووهب عثمان البئر كله للمسلمين.
ومن أسباب نماء تجارة عثمان بن عفان وازدهارها وعدم كسادها، تجارته مع الله والإنفاق في سبيل الله؛ ففي أثناء تجهيز المسلمين لغزوة (تبوك)، وكان الوقت وقت عسرة وضيق، نهض عثمان بن عفان وبادر إلى بذل ماله، وقدم للمجاهدين الأطعمة والخيل والإبل، ويُروى أنه تبرع بتسعمائة وخمسين فرسا، وألف دينار ذهبا. وفي خلافة أبي بكر الصديق تعرض المسلمون لقحط شديد فوهب عثمان بن عفان قافلة محملة بالبضائع لفقراء المدينة.
وقد استبانت الآن الإستراتيجية الخُماسية لعثمان بن عفان، والأسس والقواعد التي انتهجها من أجل الاستثمار وجني الأرباح، وهي باختصار: أولها معالجة المشكلات التي يتعرض لها التاجر في تجارته بنفسه، ووضع الحلول لها، وألا ينسحب من السوق، بل يصبر ويستمر لكي يجني الأرباح؛ وثانيها ألا يتوسع في الإنفاق من الأرباح، بل يستثمر الأرباح في التجارة؛ ثالثها الرضا بالربح القليل وعدم الاستعجال؛ ورابعها عدم شراء البضائع القديمة التي قل الطلب عليها، فلابد من دراسة السوق ومعرفة رغبات المشترين؛ وخامسها عدم وضع المال كله في سلعة واحدة، بل أن يشتري أكثر من سلعة حتى يتفادى المخاطر التي قد يتعرض لها.
هنا يبقى التحدي الآن قائما أمام أصحاب رؤوس الأموال العربية والإسلامية.. فهل يعلمون أن الأفكار النافعة للبشر في المجتمعات تحتاج إلى دعم رؤوس الأموال؟ وهل يجعل تجار العرب والمسلمين عثمان بن عفان نموذجا لهم وقدوة؟!.

3 التعليقات

  1. عبه ابراهيم

    بركة الله فيك وجزاك الله خير
    د.جاسم الجزاع أحتاج الى دعم مالي كي اتاجر بيهم جزاك الله خير وان الله لا يضيع من عمل
    عمل خير وشكر

    الرد
    • خليل الرحمن الهندي

      ماشاء الله تبارك الرحمن..
      الله يبارك في قلمكم..

      اني قرأت هذه المقالة النفيسة. وحصلني علوما كثيرا منها. مع كنت افكر وأطالب هذا الموضوع.

      جزاكم الله خير الجزاء

      واني اريد ان اترجم هذا الى المليالمية واني هندي.

      الرد
  2. أيمن

    جزاك الله خير الجزاء نفعتني كثيرا بهذه المعلومات القيمة.
    يبقى السؤال ما الذي سأفعله و أنا بدون رأس مال أو معي مال قليل جدا؟

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...