عدم القراءة والأمية المعرفية
بقلم: جعفر عباس
| 18 أبريل, 2023
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: جعفر عباس
| 18 أبريل, 2023
عدم القراءة والأمية المعرفية
كلما استنجدت بأحد عيالي كي يعالج ما أحسبه عطلا في هاتفي، لمحت في وجهه نظرات الشماتة والرثاء، وقد يقول وقد انفرج فمه بابتسامة بلاستيكية: ليزول العطل، اشحنه بالكهرباء. والشاهد هو أن جيل الشباب الحالي مزهو بثقافته الإلكترونية، وقد يكون الواحد منهم عاجزا عن الحصول على أكثر من خمسة من عشرين في اختبار التعبير (الإنشاء)، ولكنه عندما يتعلق الأمر بشيء يخص الهاتف الذكي أو الكمبيوتر ينفتح صنبور حلقومه، وتتدفق منه مفردات من شاكلة: تحميل – تنزيل – أبليكيشن – لوكيشن – أبغريد – غيغابايت – تك توك – انستغرام؛ فتهف في سرك: اللهم إن كان سحرا فأبطله!.
ولو سألت من يتباهون من شبابنا بمعرفتهم بدهاليز هواتف آيفون وغالاكسي وهواوي وغيرها، عن الشيخ محمد عبده، لهتفوا فيما يشبه الإجماع: ومتى اعتزل الغناء حتى صيرتموه شيخا؟. وبين كل مائة منهم يعرفون عدد الشعيرات في حاجبي عمرو دياب، قد تجد خمسة يعرفون عمرو بن العاص. فما يحدث هو أن التطبيقات العجيبة التي صارت أجهزة الاتصال توفرها، لهت جيلا كاملا عن اكتساب المعرفة من مظانها، والحسبان أن تناتيف المعلومات التي يتلقونها على مدار الساعة عبر منصات واتساب وتويتر وانستغرام درر نفيسة، بينما التجارب تعلم العاقل التعامل مع الكثير مما يتواتر عبر منصات التواصل الاجتماعي بمقتضى “إذا جاءكم فاسق بنبأ…”.
وفي تقديري فإن إطلاق اسم “أدوات التواصل الاجتماعي” على التطبيقات التي صارت الأجيال الأخيرة من الهواتف توفرها، فيه الكثير من العسف، لأنها في حقيقة الأمر عطلت التواصل حتى على مستوى العائلة الواحدة. فتطبيقات تويتر وتك توك وانستغرام وغيرها جعلت الملايين انطوائيين. فحتى قبل نحو عشرين سنة، كان الواحد منا يجلس في صالة مطار أو عيادة طبية بين غرباء، ثم يجد نفسه طرفا في أنس معهم في حميمية غير مفتعلة، واليوم تجلس في أحد المكانين ذاتهما وسط العشرات او المئات، ولا ترى أحدهم يرفع عينه عن الهاتف ما لم يتم استدعاؤه لركوب الطائرة او مقابلة الطبيب.
إدمان التعامل مع منصات التواصل لم يعد وقفا على جيل الشباب، بل إن كبار السن أيضا صاروا يمارسون عبرها الأنس، وتقصي الأحوال ومطالعة طريف الأحداث، فانصرفوا بدورهم أيضا عن القراءة والكتابة.
أما التأثير السلبي الكارثي لتلك التطبيقات فهو أنه لم يؤد فقط إلى العزوف عن القراءة الجادة، بل عطل أيضا قدرات الملايين على الكتابة، وبالأحرى على تهجئة الكلمات، فما إن تبدأ في كتابة كلمة على شاشة أحد تلك الأجهزة الموصومة بالذكاء، حتى يتولى الجهاز الإتيان ببقية حروفها، وقد يكون الناتج غير الكلمة المنشودة، ولكن.. وكما إن عادل إمام قال في مسرحية “شاهد ما شفش حاجة”: (هو أنا عرف اسمي أحسن م الحكومة؟). فإن كثيرين يحسبون أن الكمبيوتر لا يأتيه الباطل من جوفه، ويعتبرون الكلمات التي يقترحها غوغل -مثلا- مثالا للكمال اللغوي.
وإدمان التعامل مع منصات التواصل لم يعد وقفا على جيل الشباب، بل إن كبار السن أيضا صاروا يمارسون عبرها الأنس، وتقصي الأحوال ومطالعة طريف الأحداث، فانصرفوا بدورهم أيضا عن القراءة والكتابة. وعندما يحدث ذلك في العالم العربي حيث نحو 96 مليون من سكانه يعانون من الأمية (بينما المتوسط العالمي للأمية 13%)، تتضح جسامة المصاب.
جاء في نتائج استطلاع للراي أجرته “ياهو” قبل نحو سبع سنوات، أن ربع سكان العالم العربي لا يقرؤون كتباً بهدف المتعة الشخصية (أي كتبا غير مقررة في المؤسسات التعليمية)، أو لا يقرؤون أبداً. أما من يمارسون القراءة فمن بينهم عدد كبير يفضل الروايات الرومانسية أو البوليسية، وهي ضرب من الأدب لا يتطلب الكثير من الحذق وإعمال الفكر في نظر كثير من النقاد، وهذا ما جنته القنوات التلفزيونية على شرائح واسعة من المشاهدين العرب.
ما يميز المثقف عن “المتعلم” هو أن المثقف يطلع على مختلف صنوف المعرفة، وتصبح القراءة عنده وسيلة التسلية الأساسية، ومن ثم وسيلة “تراكم المعرفة”، بينما المتعلم قد يكون شخصا كل حصيلته من العلم القدرة على القراءة والكتابة في أضيق الحدود
بظهور القنوات الفضائية، انصرف كثيرون عن وسائل التسلية الأخرى، ومن بينها القراءة. ولكن.. هل القراءة تسلية؟ نعم، فإذا لم تجدها مسلية فستنصرف عنها. وقراءة المناهج المدرسية للنجاح في الامتحان يفتقر الى عنصر التسلية، ولهذا يتبخر معظم ما درسناه كطلاب بعد جرس نهاية الامتحانات بأسبوعين او ثلاثة. فما لم تجد فيما تقرؤه عنصر الإمتاع، فإنك لن تهضمه او تواصل قراءته، وهناك من يجد متعة في قراءة نظرية آينشتاين، وهناك من قرأ كتب الشيخ ابن تيمية كلها سبع مرات، وكان يجد في كل مرة متعة جديدة، وهناك من يستمتع بقراءة كتب الرياضيات (الله يشفيهم ويعافيهم).
ما يميز المثقف عن “المتعلم” هو أن المثقف يطلع على مختلف صنوف المعرفة، وتصبح القراءة عنده وسيلة التسلية الأساسية، ومن ثم وسيلة “تراكم المعرفة”، بينما المتعلم قد يكون شخصا كل حصيلته من العلم القدرة على القراءة والكتابة في أضيق الحدود، أو يكون شخصا غير معني بعلم او معرفة خارج نطاق تخصصه الأكاديمي والمهني. وبالتالي –وفي تقديري– هناك مهنيون على درجة عالية من الكفاءة في مجالات عملهم، ولكنهم -وبحكم أنهم انغلقوا على تخصصاتهم- لا يعرفون إلا القليل عن مجالات المعرفة والمهن والتخصصات الأخرى، وبالمقابل تجد أطباء ومحامين ومهندسين ومحاسبين من قادة الرأي، ولهم صولات وجولات في منابر الفكر والتنوير.
لهت الفضائيات جيلا كاملا عن القراءة، ثم جاءت الإنترنت فتدنت شعبية الكتاب الورقي. واللهو ليس كله سيئا، فالنفس بحاجة إلى بعض اللهو والترويح، ولا شك في أن التلفزيون هو أهم أداة تنوير منذ اختراع الطباعة، فمنه عرف الناس أن لهم حقوقا، وله القدرة على توصيل المعلومة التي قد تكسبها من كتاب في ساعتين في خمس دقائق. ولكن العبرة هي “ماذا تشاهد على الشاشة؟”.. همك الأساسي والوحيد هو المسلسلات العربية والتركية؟ فمرحبا بك إذن في “محو الأمية”!. كل علاقتك بالتلفزيون هي الأغاني؟. ليس هذا دليلا على حبك للموسيقى، فعاشق الموسيقى الحقيقي يفضل سماعها على شريط أو قرص صوتي، بينما أنت تريد رؤية من يؤدي الأغنية ربما، أكثر من رغبتك في الاستماع إليها.
البيت الذي يمارس فيه الكبار القراءة ينتج أجيالا أفضل تعليما وثقافة، ومادة القراءة قد تكون كتبا أو مجلات أو صحفا يومية أو نشرات متخصصة
أجرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، دراسة شملت 31 دولة صناعية، لتقصي مستويات تلاميذ المدارس وميلهم وحبهم للقراءة، وأكدت نتيجة الدراسة أن المتفوقين في القراءة والكتابة، هم الذين نشؤوا في بيوت بها كتب أو مكتبات منزلية. وليس المقصود بالمكتبات تلك التي تضم كتبا متجهمة مكسوة بالجلد الطبيعي أو الاصطناعي، والتي تستخدم كديكور في عدد من البيوت، بل الكتب من حيث هي، التي تتناول شتى الموضوعات وتناسب مختلف الأعمار والأمزجة، ومن ثم قالت الدراسة إن أبناء الأسر الفقيرة الذين لا سبيل أمامهم لتزجية الوقت سوى بالقراءة، أقل أمية هجائية من أبناء الأغنياء الذين تتوفر لهم أدوات ترفيه تجعلهم ينصرفون عن القراءة، (الأمية الهجائية أو الألف-بائية، مصطلح سكّه التربويون alphabetical literacy وله معان واسعة، يهمني منها هنا “عدم القدرة على القراءة والكتابة بكفاءة”)؛ ولا يعني ذلك بأي حال أن أبناء الفقراء أكثر تفوقاً من أبناء الأغنياء في الأكاديميات عموماً، لأن توفر وسائل الراحة يجعل الغني متفرغا لدراسته بينما يجاهد الطالب الفقير لترقيع أوضاعه.
كذلك قد لا تتوفر له القهوة والعصير -دعك من كابوتشينو وموكاتشينو والباتشينو- التي يقال إنها تعطي الجسم طاقة وحيوية، (علما يا مثقفين يا بتوع ستار باكس أن الباتشينو ليس مشروبا بل ممثل هوليودي)، والشاهد هو أن البيت الذي يمارس فيه الكبار القراءة ينتج أجيالا أفضل تعليما وثقافة، ومادة القراءة قد تكون كتبا أو مجلات أو صحفا يومية أو نشرات متخصصة. ولأن حب القراءة شديد العدوى، فكلما رأى الصغار كبار أفراد العائلة يمضون الوقت في القراءة، انتقل إليهم ذلك “الحب”. كما يشير تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أهمية استماع الصغار إلى حوارات حول مواضيع جادة، لأن ذلك يسهم في تشكيل عقولهم وميولهم. وبالمقابل فإن التحدث أمام العيال عن: كيف أضاع كدرمة ضربة جزاء؟. وعدم قدرة خالتو كراوية على الطبخ، واتساخ منزل زرزورريا، وهيافة عمو جرير، وإفلاس تجارة عمو الفرزدق، يجعل الأطفال مفلسين فكرياً وميالين إلى النميمة وتوافه الأمور.
ولا معنى للشكوى من عزوف جيل الشباب عن القراءة طالما جيل الآباء لا يقرأ، أو يعتقد أن قيام البنت أو الولد بأداء الواجبات المدرسية بانتظام يكفي، ويقوم مقام “القراءة” والتثقف. ولا يكفي أيضاً أن يصيح الأب: إيش أسوي فيكم؟ وفرت لكم كل شيء، وما في شيء قاصر عندكم. عندكم البلاي ستيشن والجيم بوي والكتب والكمبيوتر وهادا وش تسمونه؟ اللوح اللي ما ادري وش تبون منه طالما هو “باد”.. لا يا سيدي، ما ينقصهم هو القدوة، فاجلس بينهم ممسكاً بكتاب وناقشهم في محتوياته، أو اقترح عليهم كتبا معينة تكون أنت قد قرأتها، ولتكن البداية بتشجيعهم على قراءة المجلات والصحف اليومية لتكون منصات انطلاق إلى عالم الكتب الحقيقي.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
0 تعليق