
علم الإسناد إنجاز عربي إسلامي
بقلم: د. جاسم الجزاع
| 20 أغسطس, 2023

مقالات مشابهة
-
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!
أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة...
-
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً...
-
سوريا وثورة نصف قرن
سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي...
-
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع...
-
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!
فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها...
-
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر...
مقالات منوعة
بقلم: د. جاسم الجزاع
| 20 أغسطس, 2023
علم الإسناد إنجاز عربي إسلامي
“وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد، وإنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها عن غير الثقاة”. بذلك أشار الخطيب البغدادي إلى سبق المسلمين بقية الأمم في هذا المجال، الذي تفنن فيه العرب وتمايزوا على الأمم.
علم الإسناد هو علم عربي إسلامي خالص، اختصت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، دون غيرها من الأمم والحضارات والأقوام والشعوب؛ فالإسناد عامل أساس ومهم من عوامل حفظ الشريعة وقانون السماء والسنة النبوية المطهرة، وقد قال محمد بن سيرين: “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم”. والإسناد هو تسلسل الأقوال والنقول، مثل قول البخاري: “حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان…”، والسند هو ذكر أولئك الرواة الناقلين لمتن الحديث. ومتن الحديث هو كل ما صدر عن المعلم الأعظم من قول أو فعل أو تقرير. وقد عرَّف الحافظ بن حجر العسقلاني الإسناد فقال: “الإسناد: حكاية طريق المتن”. وقيل: الإسناد هو الطريق الموصل للمتن.
فعن طريق الإسناد نستطيع التمييز بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة، فتلبية هذه الضرورة من فوائد وثمرات الإسناد، ولولا الإسناد لما استقامت الشريعة الإسلامية. قال شعبة: “إنما يُعلم صحة الحديث بصحة الإسناد”، وقال ابن الأثير: “واعلم أن الإسناد في الحديث هو الأصل وعليه الاعتماد، وبه تعرف صحة الحديث وسقمه”؛ لهذا كان علماء المسلمين يبحثون في الرجال للتحقق منهم، وتمييز أن يكون الراوي ثقة، وعالما دقيقا، ورجلا أمينا؛ وقد قال ابن المبارك: “مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد، كمثل الذي يرتقي السطح بلا سُلم”. ومن الأئمة من جعل الإسناد للشريعة كالقوائم للدابة، ومنهم من شبه الحديث من غير إسناد بالبعير الذي لا خطام له ولا زمام، ومن الأئمة من شبه طالب الشريعة بلا إسناد بحاطب ليل، لا يدري يده على أي شيء تقع؛ وقد قال شعبة بن الحجاج: “كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقل”.
وهناك أيضا إسناد الفقه وأقوال الرجال ورواية التاريخ؛ فالفقه وكتب العلماء وكتب التواريخ الأولى كالطبري وغيره عند المسلمين مسلسلة بإسناد.
وأهل الحديث، وأصحاب الأسانيد هم حماة الدين وحراسه، قال سفيان الثوري: “الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض”؛ وقال أبو الفضل الهمداني: “بلغني أن الله خص هذه الأمه بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب”، فاليهود والنصارى ليس لديهم أسانيد متصلة؛ كما أن أهل البدع والأهواء يبغضون الأسانيد، قال أحمد بن سنان القطان: “ليس في الدنيا مُبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه”، وعندما كان يُسأل أهل البدع عمن أخذوا الحديث كانوا يسكتون لِئلا يفتضحوا.
وقد ظهر علم الإسناد عند المسلمين بعد فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (35هـ)، ففي هذه المرحلة ظهر الكذب والوضع في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت الفرق والمذاهب المبتدعة، فاستخدم المسلمون سلاح الإسناد؛ يقول الإمام الثوري: “عندما اخترع الكذابون أسانيد كاذبه استخدمنا ضدهم تاريخ الرواة”. وقد روى الإمام مسلم عن ابن سيرين رحمه الله قوله: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنظرُ إلى أهل السنة فيُؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يُؤخذ حديثهم”. لذلك نجد أن رحلة الإسناد عند المسلمين قد بدأت منذ عهد الصحابة الذين تأخرت وفاتهم عن زمن الفتنة، واستمرت في عهد التابعين وتابعي التابعين.
ونظرا لأهمية وفوائد علم الإسناد، فقد قام علماء المسلمين بتطبيقه على علوم التاريخ والطب والأدب العربي، ودخل في كل منقول من تفسير أو فقه أو لغة، بل دخل في نقل الحكايات الواعظة، والأخبار المسلية، والأقوال الحكيمة. ونتيجة هذا الاهتمام الكبير بالإسناد ظهر علم جديد يسمى “علم الجرح والتعديل”، أو “علم الرجال”؛ وهو علم يختص بدراسة سير الرواة وأحوالهم، ومدى أمانتهم وأخلاقهم وورعهم، وتاريخ ولادتهم ووفاتهم، وغيرها من التفاصيل الخاصة بهم، لذلك ترك علماء المسلمين لنا تراثا ضخما، وثروة علمية في كتب الرجال، والطبقات. وقد اعترف بعض المستشرقين بريادة المسلمين لهذا العلم، قال (شبرنجر): “لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا يوجد الآن أمة من الأمم المعاصرة، أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطير، الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل”.
وختاما نقول: إن لعلم الإسناد مكانة كبيرة عند المسلمين، وهو علم حدث بفضل الله، ثم بفضل جهود علماء المسلمين، التي بذلوها من أجل حفظ أسانيد السنة ومتونها؛ حتى لا يقول من شاء ما شاء، ولولا جهود علماء المسلمين منذ القرن الأول لحدث التحريف في الدين، وتعطلت أحكام المسلمين، وبفضل جهودهم أصبح لدينا كنز عظيم غض طري، استمر على مدى العصور والأزمان حتى عصرنا الحالي. وإنه لمن الواجب على المؤرخين المسلمين اليوم أن يحاولوا الاستفادة من علم الإسناد في دراسة الوقائع التاريخية الحساسة، وإزالة الشوائب من الأحداث التاريخية، والتمييز بين الغث والثمين، إن أمكن لهم ذلك، بقدر ما لديهم من علم في هذا الشأن.

أكاديمي كويتي
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
رسالة إلى أمريكا
وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!
أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...
جميل