على هوامش دفتر الهجرة

بقلم: خليل العناني

| 7 سبتمبر, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: خليل العناني

| 7 سبتمبر, 2023

على هوامش دفتر الهجرة

شكلت مسألة الهجرة من مصر دوما واحدة من أخطر التحديات التي تواجه البلاد منذ عقود؛ ولكن خطورتها وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، حيث يسعى آلاف المصريين بشدة، وخاصة الشباب وأصحاب المهن والمهارات المتميزة كالأطباء والمهندسين، إلى مغادرة البلاد، سواء نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة التي تمر بها البلاد، أو الرغبة في الهروب من القمع السياسي المتزايد منذ صيف عام 2013. بيد أن اللافت للنظر هو أن تزايد أعداد المهاجرين من مصر بشكل غير مسبوق، لم يقترن بصراعات أو حروب شديدة تشهدها البلاد، كما هو الحال في دول مجاورة أخرى مثل ليبيا والسودان وسورية؛ وهذا يثير العديد من التساؤلات حول أسباب مغادرة المصريين لبلادهم، حتى لو كان ذلك ينطوي على أخطار كبيرة، قد تؤدي إلى خسائر في الأرواح. وبينما تدعي الحكومة المصرية أنها تسعى جاهدة لحل قضية الهجرة، فإن سياساتها غالبا ما تسببت في مغادرة المزيد من المصريين للبلاد، خاصة خلال العقد الماضي. وهذا يثير مخاوف بشأن استغلال الحكومة للمهاجرين للحصول على العملات الأجنبية التي قد تساعد في تخفيف الأزمة الاقتصادية المستمرة.
على مدار العقد الماضي، اضطر آلاف المصريين لمغادرة البلاد إلى وجهات مختلفة حول العالم، سواء في أوروبا، أو أمريكا الشمالية، أو أستراليا، أو دول الخليج العربي، بحثا عن فرص معيشة أفضل. صحيح أن مصر معروفة بأنها بلد مهاجرين، حيث يقدر عدد الأشخاص الذين يعيشون في الخارج إما بشكل دائم أو لأغراض العمل بما يتراوح بين 10 إلى 14 مليون شخص، إلا أن الهجرة خارج البلاد شهدت ارتفاعا كبيرا وغير مسبوق خلال السنوات القليلة الماضية؛ فوفقا للمنظمة الدولية للهجرة، وصل حوالي 22 ألف مهاجر مصري إلى أوروبا العام الماضي فقط، وهذا رقم مرتفع بشكل ملحوظ مقارنة بالمهاجرين القادمين من بلدان تعاني من صراعات داخلية وحروب أهلية مثل سورية أو العراق أو أفغانستان، وهو ما يمكن أن يُعزى إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة الناجمة عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها البلاد حاليا؛ فقد ارتفع معدل التضخم إلى مستوى تاريخي بلغ 36.5%، مع زيادة سنوية في أسعار الأغذية والمشروبات بنحو 68.2%، بحسب ما أفاد به الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر. وبالإضافة إلى ذلك، فقدَ الجنيه المصري أكثر من نصف قيمته خلال العام الماضي، ما أدى إلى تفاقم الاضطرابات الاقتصادية؛ وعلاوة على ذلك، وصل الدين الخارجي لمصر إلى مستوى غير مسبوق يبلغ حوالي 163 مليار دولار، ما يزيد من تعقيد المشهد المالي الذي أدى إلى زيادة الهجرة من البلاد. وقد ساهمت هذه الظروف الاقتصادية الصعبة بشكل كبير في زيادة الهجرة من مصر.
واللافت للنظر أن معظم المهاجرين المصريين يواجهون كثيرا من الصعوبات ويعرّضون حياتهم للخطر لمغادرة بلادهم؛ إذ إن أولئك الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا، يسلكون طرقاً ومساراتٍ خطيرة عبر رحلات بحرية، تسهلها شبكات الاتجار بالبشر، وخاصة تلك العاملة في ليبيا؛ حيث يهرب عشرات الآلاف من المصريين عن طريق البحر إلى أوروبا سنويا، والذين يتمكنون منهم من الوصول إلى هناك أحياء وبأمان يُعدّون محظوظين. ووفقا لبعض التقارير، وصل أكثر من 20 ألف مصري إلى إيطاليا عبر ليبيا في عام 2022، وهذا ما يقرب من ثلاثة أضعاف العدد الذي وصل في عام 2021.
ومن المؤسف أنه حصلت حوادث عدة، لقوارب كبيرة تحمل مهاجرين غير نظاميين من مصر إلى أوروبا، تعرضت فيها إلى عواقب مأساوية، وفقدَ المئات أرواحهم؛ ووقع آخر حادث مأساوي في يونيو الماضي عندما انقلبت سفينة المهاجرين “أدريانا” وغرقت قبالة شواطئ اليونان، ما أدى إلى وفاة أكثر من 600 مهاجر، بينهم عدد كبير من المصريين، وخاصة الشباب. والواقع أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يقع فيها مثل هذا الحادث المأساوي للمهاجرين المصريين؛ ففي عام 2016، فقدَ حوالي 200 مهاجر مصري، إلى جانب مهاجرين من السودان وإريتريا والصومال، حياتهم بشكل مأساوي عندما انقلب قارب المهاجرين الذي كانوا على متنه بالقرب من ساحل البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مدينة الإسكندرية المصرية. ورغم المخاطر يستمر السعي في طريق الهجرة، حتى أنه في يونيو الماضي، قامت السلطات الليبية بترحيل حوالي 4000 مصري بعد اكتشافهم محتجزين خلال مداهمات على جماعة الاتجار بالبشر.
والأهم من ذلك، والأكثر إثارة للقلق، هو أن المهاجرين المصريين بدأوا في استكشاف طرق هجرة أخرى، لكنها أكثر خطورة ووعورة؛ ففي 16 أغسطس الماضي، وجد حوالي 129 مهاجرا مصريا أنفسهم عالقين في حافلة أثناء محاولتهم دخول الولايات المتحدة عبر المكسيك.. قد يكون هذا هو الحادث الأول الموثق للمهاجرين المصريين الذين سلكوا هذا الطريق لدخول الولايات المتحدة بشكل غير قانوني عبر المكسيك على الرغم من المخاطر والتكاليف التي ينطوي عليها ذلك؛ وهو ما يعكس تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في مصر. في الواقع، يدرك معظم هؤلاء المهاجرين جيدا احتمال عدم وصولهم إلى وجهتهم المقصودة، معترفين بالمخاطر المحتملة على حياتهم، ومع ذلك فإنهم يصرون على الشروع في رحلتهم المحفوفة بالمخاطر، مدفوعين بإدراكهم أنه ليس لديهم الكثير ليخاطروا به؛ ويأتي معظمهم من أسر فقيرة تواجه ظروفا معيشية صعبة للغاية في بلد يعيش حوالي ثلثي سكانه تحت خط الفقر أو بالقرب منه.
ومما يزيد من هذه المأساة، أن العديد من هؤلاء المهاجرين ينحدرون من المناطق الريفية والقرى المصرية، التي تفتقر إلى العناصر الأساسية لحياة كريمة، كما يواجهون ندرة في فرص التعليم المناسب والرعاية الصحية والحصول على المياه النظيفة.. وعلاوة على ذلك، فإنهم يتحملون وطأة الإنفاق الكبير الذي تصرفه الحكومة الحالية على المشاريع الضخمة غير الضرورية، التي تبلغ تكلفتها مليارات الدولارات، مثل العاصمة الإدارية الجديدة التي تبلغ تكلفتها حوالي 59 مليار دولار. وقد فقد العديد من هؤلاء المهاجرين الثقة في احتمالات تحسن ظروفهم المعيشية قريبا، وأصبحوا متشككين في تعهدات الحكومة بالتنمية والازدهار.

خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...