علِّموهم ثقافة الهزيمة!

بقلم: كريم الشاذلي

| 29 مارس, 2024

بقلم: كريم الشاذلي

| 29 مارس, 2024

علِّموهم ثقافة الهزيمة!

لأسباب تتعلق براحتي النفسية قررت أن أهجر التلفاز طوال عقد مضى أو يزيد، سلامة عقلي وروحي كانت تستدعي مني أن أصم أذني وأصرف عيني عن شلال الترهات الذي ينفجر بمجرد إمساك جهاز التحكم “الريموت كونترول”.. دعك من أنه لا جديد يحتاج لأن أتابعه، لقد وصلنا فعلياً إلى مرحلة تدوير للفشل والإحباط، ساعات لن تزيدني إلا غماً وعنتاً، وعليه فاعتزال هذا العته صار أمراً واجباً.

غير أن مخاصمتي لهذا الصندوق العفن ليست كاملة، ذلك أنني – ورغم أنفي- أضطر لاستراق النظر حينما تستدعي جلستي في مكان عام أن أكون مواجهاً له، والحقيقة أنني لا أجد بأساً من متابعة الشاشة وما تقدمه في هذه الأوقات، اللهم إلا أن يكون ما يُعرض هو أحد برامج التوك شو أو استوديوهات التحليل الرياضي، حينها أدير ظهري مستعيذاً بالله ومستغفرا!

من هنا لم أجد بأساً في أن أشاهد بنصف عين أحد برامج المسابقات التي تقام للأطفال، أثناء جلوسي في أحد المقاهي العامة أنا وبعض الأصدقاء، وبغض النظر عن تحفظي تجاه هذا اللون من المسابقات، فإنه لفت نظري شيء أثناء إجراء مسابقة لاختيار الأطفال الذين ستتم ترقيتهم في فرق لدخول المراحل النهائية، وهو حالة الانهيار التي تنتاب الطفل وذويه حال الفشل، في الغالبية العظمى كان الأطفال يبكون، وغير قليل من ذويهم كانت تنتابهم حالة من الحزن والغضب، وبعضهم اتهموا فريق التحكيم بالظلم والمغالطة!

والحقيقة أن هذه المشاهد، التي تسجلها كاميرا البرنامج كنوع من إضفاء نكهة إنسانية للحدث، تدلل على شيء خطير في تربيتنا، شيء خاطئ للأسف نمارسه كثيراً مع أنفسنا وأبنائنا، هذا هو تعاملنا مع الحياة من منطلق أنها سلسلة انتصارات متتالية.

 كل أب وكل أم من هؤلاء ذهبوا بأبنائهم وهم يمنونهم بالفوز والانتصار والمركز الأول، لم يدُر بخلد أحدهم أن يعلِّم طفله ثقافة الهزيمة ولا أدبيات التعثر ولا روح الفرصة القادمة! وبالتالي تصبح الهزيمة – والتي لم نضعها في الحسبان- أمرا منكورا، خاطئا، غير مستساغ، وتأخذ من أرواحنا الشيء الكثير.

وللأسف الشديد فإن هذا الخطأ التربوي كثيراً ما نمارسه مع أبنائنا في الحياة مدفوعين بثقافة “الأفعل”، التي ترسخها فينا حملات التسويق والدعاية والإعلان؛ فنضع أبناءنا تحت ضغط “الأشطر، الأفضل، الأحسن، الأروع”، ونلقي بهم في ساحة الحياة في سنينهم الأولى وقد خصمنا من رصيد فطرتهم، كي نشحذ هممهم ورغباتهم ليصيروا شيئاً يستحق الثناء والإعجاب، ويتحقق بالتالي فخرنا وتميزنا ورضانا عن أنفسنا وتربيتنا!

 أعلم أنّ على كل أب وكل أم فينا الاهتمام بولده وتنمية موهبته وتعليمه، ووضعه على درب النجاح والتفوق، ولكن هذا كله لن يجدي نفعاً حين تكون نفسياتهم مهترئة، وثقتهم بأنفسهم مهتزة، وأرواحهم شرهة دائماً للانتصار كي يكونوا عند حسن ظننا بهم، خصوصاً وأن للحياة أدبياتها الخاصة التي تحتاج منا أن نُفهمها لأبنائنا ونعمل على بثها فيهم.

كم منا علّم أبناءه أن الحياة ربح وخسارة، وأن الخسارة لا تعني أنه فاشل، وإنما هي إشارة إلى أن هناك ثمة خطأ عليه أن ينتبه إليه في المرة القادمة؟

كم منا أفهم ولده أن الله – جل اسمه- يحب الاجتهاد، والتجربة، والعمل، وأن منهجه – جل اسمه- أنه يثيب حتى على الاجتهاد الخاطئ، طالما أننا نعمل ونبذل الجهد؟

كم منا تعامل مع ولده بمنهج الجهد المبذول لا النتيجة المتحققة، ذلك أنه يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد، كما أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم! وعليه فإن الربح – مع محبتنا وطلبنا له- ليس هو المعيار الوحيد لقياس الأمور؟

 وكم منا استطاع أن يفصل بين قبوله لولده وحبه له وبين إنجازاته في الحياة، حيث إن أكثرنا للأسف الشديد قد يعطي إحساساً -ولو كاذباً- أن معيار حبه وقبوله لولده متوقف على تحقيقه للنتائج المرجوة؟!

 كل هذه الإشارات نتغافل عنها ونحن ندفع بأبنائنا إلى معترك الحياة، وتكون النتيجة ما نراه اليوم من شره مدهش إلى الفوز ولو على حساب القيم، ومباريات الضرب تحت الحزام التي يخوضونها بحثاً عن النصر، حيث لا شيء غيره يثبت لهم وللأخرين أنهم قد أدوا ما يجب عليهم أداءه.

أضف فوق ذلك كارثة أخرى، وهي كارثة الفزع من شبح التعثر والإخفاق، الذي يولد حالة من الإنكار السريع للفشل، ومحاولة الالتفاف حوله بدلاً من الاستفادة منه، وكيف يستفيد الابن من فشله وقد علَّمناه أن الفشل يعني أنه فاشل؟!

 القرآن الكريم عزيزي القارئ لم يكن مجاملاً تلك الفئة القليلة المؤمنة حينما تعثرت في مبتدأ مشوارها، لم يساعد أفرادها في عملية خداع النفس التي حاول بعضهم أن يمارسها، بل كان واضحاً صريحاً قاسياً بعض الشيء وهو يفصح لهم عن مكنونات صدورهم {أَوَلَمَّا أصابَتْكم مصيبةٌ قد أصبْتُم مِثْلَيها قلتم أنَّىٰ هَٰذا، قُل هو من عند أنفسكم ..}، هذه التربية الواضحة التي تعلم الشخص دائماً معادلة “السبب والنتيجة”، أو “القرار وتحمُّل نتائجه”، هي ما يجب أن نربي أنفسنا وأبناءنا عليه، وعلى أنه كما قال الشاعر الفارسي “سعدي الشيرازي”: “إذا عكست المرآة قبح وجوهنا، فعلينا إصلاح الوجه لا كسر المرآة!”.

من هنا، نحن بحاجة إلى أن نُعلّم أبناءنا دروس الحياة الحقيقية، تلك التي لن تعلمها إياهم المدرسة، ولن تحنو الحياة عليهم عندما تصدمهم بها، علينا أن نوسع لهم دائماً الخيارات، ونُفهمهم أن الحياة فسيحة، وفرصُنا فيها بعدد أنفاسنا، وأن الهزيمة لا تكون هزيمة إلا إذا أقعدتنا عن المحاولة وتغلغلت بداخلنا، وأن احترامهم لأنفسهم وثقتهم بها شيء لا يجب أن تنال منه ضربة غير موفقة، أو انكسار في لحظة ضعف، وإنما علينا بعد محاسبة النفس وتعلُّم الدرس أن نكمل الطريق متسلحين بخبرتنا، تلك الخبرة التي دفعنا ثمنها غالياً، ولا يجب أن نضيعها في البكاء والنحيب واتهام الحياة بظلمنا والتربص لنا.

2 التعليقات

  1. رضا عسكر

    أحسنت القول والتحليل والكتابة تحياتي لك من اخوك رضا من ليبيا متابع لك علي اليوتيوب والفيس بوك كلامك أغلبية التاس مش عارفاه والي عارف منه الشى البسيط لايعمل به نحن نعيش في غابة نثنة يا صديقي

    الرد
  2. Tarek Omar

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الاستاذ المفكر المحترم كريم الشاذلي …
    أولا يشهد الله اني احبك فالله ،
    حضرتك حطيت ايديك على الفجوة الواسعه بين الاجيال ، و دي من أخطر المشاكل الاجتماعية بجد بين الجيل القديم اللي فعلا بحكم قلة التكنولوجيا و اللي حاليا في ٢٠٢٤ التكنولجبا عموما عامله تشويش على مناطق الاستيعاب في ادمغتنا ،
    واللي عنده قدرة على استيعاب إنذار الخطر و محاوله المقاومة على الاقل دا بطل بجد ،بطل من أبطال هذا الزمن ، و المعظم بيكبر دماغه و و يسيب نفسه لدنيته و يقول هعمل ايه؟

    ماشاء الله عليك و بارك الله فيكم ، كلام حضرتك و سردك للموضوع في محلة و موضعه و ان دل فهو يدل على رسالة حضرتك الشجاعة و نبل و صدق أفكارك
    اخوك الصغير طارق عمر

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

مع الهمجية ضد التمدن

مع الهمجية ضد التمدن

يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...

قراءة المزيد
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...

قراءة المزيد
أطفال غزة يصافحون الموت

أطفال غزة يصافحون الموت

إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...

قراءة المزيد
Loading...