عناصر الحكم العادل والملك الصالح في دعوة داوود (عليه السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 11 أغسطس, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 11 أغسطس, 2023

عناصر الحكم العادل والملك الصالح في دعوة داوود (عليه السلام)

كان داوود (عليه السلام) ملكا نبيا، علمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب، بل كان أول من جمع بين الملك والنبوة؛ وقد ذكر الله سبحانه في مواضع عدة من القرآن الكريم صورا من حكمه، تظهر فيها عناصر المُلك الصالح والحُكم العادل، كما جاء في قوله تعالى في قصته مع جالوت بعد أن قتله: ﴿وآتاه اللَّه المُلك والحكمة وعلَّمه ممَّا يشاء﴾ [البقرة: 251]. (قصص الأنبياء، عمرو خالد، ص 379)
أ. معنى داود: لفظ عربي قديم، هو من (الوداد) و(المودة) و(الرحمة) و(الود)؛ يعني العلاقة التي فيها أخذ وعطاء. و(داود) بطبيعته لا يظلم ولا يطغى، إنه مهيّأ من الله ليكون خليفة في الأرض ليحكم بين الناس بالحق، ويهدي إلى سواء السبيل. (أسماء الأنبياء ودلالاتها ومعانيها، خالد محمد، ص 215)
ب. قال الشيخ محمد بن عثيمين (رحمه الله): ﴿وآتاه الله﴾ ضمير المفعول به يعود إلى (داود) أي: أعطاه الله ﴿الملك﴾ فصار ملكا، وآتاه ﴿الحكمة﴾ فصار رسولا، واجتمع له ما به صلاح الدين والدنيا، والشرع والإمارة. ﴿وعلمه مما يشاء﴾، أي أن الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، ليس عندهم من العلم إلا ما علمهم الله، لقوله تعالى: ﴿وعلَّمه ممَّا يشاء﴾، فالنبي نفسه لا يعلم الغيب، ولا يعلم من الشرع إلا ما آتاه الله سبحانه وتعالى؛ ومثل ذلك قول الله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم): ﴿وأنزل اللَّه عليك الكتاب والحكمة وعلَّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل اللَّه عليك عظيماً﴾.
وفي ﴿علَّمه ممَّا يشاء﴾؛ إثبات المشيئة لله، ولكن اعلم أن مشيئة الله تابعة لحكمته، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ هذه تذكرةٌ فمن شاء اتَّخذ إلى ربِّه سبيلاً* وما تشاؤون إِلَّا أَنْ يشاء اللَّه إِنَّ اللَّه كان عليمًا حكيماً﴾ [الإنسان: 29، 30].
ج. قال الشيخ محمد أبو زهرة (رحمه الله): ‌وقد ذكر سبحانه العناصر التي ترشح للسلطان وحكم ‌الناس، فكانت قوة الجسم، والحكمة والعلم؛ ولذا قال سبحانه بعد ذكر قتله لجالوت: ﴿وآتاه اللَّه المُلك والحكمة وعلَّمه ممَّا يشاء﴾؛ والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها والتدبير المحكم على وفق العلم، فالحكمة تقتضي صفتين ذاتيتين في الشخص: عقلا مدركا نافذا بصيرا، يرى بواطن الأمور ويتغلغل في أعماقها؛ وإرادة محكمة تجعل العمل يتلاقى مع الفكر الصحيح والإدراك السليم؛ فلا يكون سلطان يعارض دواعي العقل، وأحكام الفكر السليم؛ فليس بحكيم من يبادر بالحكم على الأشياء من غير دراسة عميقة مستقصية، وليس بحكيم من يكون عمله على غير ما تقتضيه قواعد الفكر المستقيم.
وذكر سبحانه أنه علَّم داود علما كثيرا واسعا مما شاء أن يعلمه، فقوله تعالى: ﴿ممَّا يشاء﴾ يشير إلى سعة العلم، وأنه كثير متشعب لا تحده إلا مشيئة الله وإرادته؛ فعلَّمه الله سبحانه سياسة الملك، وأحوال الناس، ومنازع النفوس، وأحوال البلدان، وما تنتجه من خيرات، وغير ذلك، وكان تعليم الله سبحانه وتعالى له بالنبوة التي أفاضها سبحانه وتعالى عليه، والتجارب التي ساقها الله إليه، والذخيرة التي بين يديه من أحوال الحاكمين السابقين، والهداة المرشدين، وما أوتيه من علم التوراة، والأخبار الصحاح عن النبيين السابقين، وفي كل ذلك هداية وإرشاد إلى أقوم مناهج الحكم الصحيح.
إنها عناصر الحكم الصالح، ولابد أن يكون الحاكم قويا في جسمه، بحيث لا يخذل جسمُه إرادتَه، فكثيرا ما يكون ضعف الإرادة من ضعف الجسم، وضعف التدبير من تخاذل القوى البدنية عن الاحتمال؛ ولكن قد تكون الإرادة القوية والعزيمة الماضية في جسم ضعيف، وفي هذه الحال قد يُستغنى عن ذلك العنصر، وذلك إن لم يوجد شخص تتوافر فيه قوة النفس وقوة الجسم معا، فالاعتبار الأول لقوة النفس، وقوة الجسم خادمة لقوة النفس وليست مقصودة لذاتها.
وإن العنصر الثاني هو الحكمة: وهي -كما رأيت- جعل العمل يسيرا مع العقل، فلا تتحكم الأهواء والشهوات؛ وآفة الحكم الصالح هوى الحاكم، فإن غلبت رغبته عقله غلب الفساد حكمه، فليختبر كل حاكم نفسه، فإن رأى أهواءه هي المسيطرة فليعلم أن الشر قد استحكم، وأنه أولى به ثم أولى أن يعتزل، وإن وجد عقله هو المسيطر فليعلم أن الله أجرى عليه التوفيق.
والعنصر الثالث الإحاطة التامة بمصالح الناس وأحوالهم: فإن الحكم عمل للمصلحة، وليس سيطرة وتحكما، ومن ظنه سيطرة وتحكما فهو ممن طمس الله بصيرته، وغلبت عليه شهوته، ثم غلبت عليه شقوته.
إن الفرق ما بين الحكم الصالح والحكم غير الصالح دقيق في معناه، وإن كان الأثر كبيرا في مبناه، فالحكم الصالح أساسه أن يكون الحكم لمصلحة المحكوم وإجابة لرغبته، والحكم غير الصالح أساسه أن يكون الحكم تحكما في المحكوم، فمن تحكم في الرعية -ولو باسم مصلحتها- فقد سلك سبيل الفساد، لأن التحكم ينبعث من الرغبة في السيطرة ولو لبس لبوس المصلحة، وإن السيطرة تسلط، والتسلط في ذاته فساد يؤدي لا محالة إلى فساد، ويؤدي إلى موت الإرادات في الجماعة، وفي ذلك إضعاف لقوتها.
وأما الحكم المنبعث من إرادة الجماعة الذي يقودها لمصلحتها، فهو يؤدي إلى الصلاح لا محالة، وإن تعثر في أخطاء أحيانا، لأنه من الخطأ يتعلم الناس الصواب، ومن الخط المعوج يعرف الخط المستقيم. (زهرة التفاسير، 2/910)

د. علي محمد الصلابي

مفكر سياسي ليبي

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...